الصيام وعلاج التفاوت الطبقي

مصطفى ملا هذال

2021-04-24 03:17

الرحلة الوحيدة التي لا تحتاج الى جواز سفر او تحضيرات غير طبيعية هي الرحلة الى الله في الشهر الفضيل، هذا الشهر الذي فرض علينا صيامه، لما يحمله من معان ودلالات كثيرة لا يمكن اختصارها بسطور معدودة.

ينتقل الافراد في الثلاثون يوما الى مستوى حياتي مختلف بنسبة كبيرة عن الشهور الحادية عشر الأخرى، اذ يتطلب من الصائم التزامات تشريعية اعلى مما كان عليها طيلة الأيام الماضية وكذلك التي تتبع شهر رمضان، وعليه تكون جملة من المُباحات مثلا تصبح لديه محرمات او غير جائزة.

فالحركة تصبح في اغلب الأحيان محدودة ان لم تكن مقيدة، ولا يمكن تجاوز بعض الأماكن في أوقات معينة، علاوة على ازدحامه بالأعمال ودقته في الترتيبات والتوقيتات، ناهيك عن المزاج المتغير الذي يحمله الصائم نتيجة تغير برمجته اليومية.

لا يمكن ان ينظر الى الصيام على انه امتناع عن الاكل والشرب فقط، وإهمال الجوانب الأخرى، فباليوم الأول يقترب منا الشعور بعظمة هذه الأيام وانعكاساتها النفسية والروحية علينا، اذ لا يمر يوم دون الشعور بشعور مختلف عن اليوم السابق، وتستمر الحركة الديناميكية للأيام بتجدد.

خُلق الانسان وتعايش مع الأشياء المادية وأصبحت جزء لا يتجزأ من حياته الاعتيادية، الى درجة انه لا يستطيع العيش بدون الماديات، وليس المشكلة في هذا الارتباط بين الجانبين، لكن الخلل يحدث عندما تؤثر المادية على سلوك الافراد، وبالنتيجة لا يمكن لهم العودة للحياة الطبيعية الموسومة بالبساطة وعدم التكلف.

والمادية لها تأثير واضح في النفس الإنسانية، وهذا التأثر من غير الصواب ان يكون مغيبا للحاجات المعنوية للإنسان وحاجاته الروحية كذلك، ولذلك من المفترض ان يعرف الافراد بان المادة ليست كل شيء في الحياة البشرية، وليست هي السائدة على كل شيء فيها، إلا أن المعنويات على الرغم من خفائها فإنها عميقة الأثر في النفس وفي الفكر الإنساني، وما يحدثه رمضان في النفوس قد يكون غير واضح المعالم على البنية الجسدية، بيد ان آثاره ستكون واضحة عبر التصرفات اليومية.

ان من اهم تجليات شهر رمضان المبارك هي احساسنا بعدم امتلاك أي شيء، ففيه يتساوى الفقير مع الغني، والاثنين يشعرون بذات الشعور وهو الجوع، والحرمان لساعات متعددة، وقد تكون هذه الجزئية هي الأهم من بين الفوائد الكبيرة التي يحملها الصيام بين جنباته.

وفي هذا الشهر يتجرد الانسان عن محيطه المادي والثراء الذي يعيش فيه ويميزه عن غيره من الطبقات الاجتماعية بمختلف اصنافها، فلا المال قادر على منعك من الإحساس بالجوع والعطش، وكذلك البيوت الفخمة والسيارات الفارهة، لم تقف بوجه نوبات الصداع التي يصاب بها الصائم.

فقد يوجه شهر رمضان في كل عام دعوة صريحة الى الأشخاص الغارقين بالماديات والمهملين للجوانب الروحانية، ان غيروا من هذه الانطباعات التي تؤكد او تركز على أهمية الأموال في حياة عن الافراد بالقدر الذي جعلهم لا هثين وراء جمعها دون إعطاء النفس قدرا من الراحة والنتيجة واحدة وهي الموت ولا يخلد الا الله سبحانه وحده.

فالحياة بأي شكل من الاشكال تسير وفق ما خطط لها خالق الاكوان، وجعل لذلك معادلة متوازنة بين الانسان والاشياء المحيطة به، وعلينا أن نضبط نفوسنا ومشاعرنا وأحاسيسنا أمام المادة، لأنها وان كانت ضرورية ومهمة بالنسبة لنا، الا ان تأثيراتها محدودة وقصيرة الأجل في أحيانا كثيرة.

وهنا علينا ان نلتزم بالاعتدال تجاهها ويتحقق ذلك بان لا نزيد منها ولا ننقص ونكتفي بالقدر الذي يقوينا على العيش بكرامة وعدم الجري وراء اغراءات الحياة الفانية، فالماديات أثرها وبيل، وجاء الصوم ليقلل من هذا الاثر على الافراد، فهو بمثابة التربية الروحية لنفسيات الناس وذواتهم الداخلية، وخصوصاً في حياتنا المعاصرة التي زخرفت فيها المادة وطغت على كل شيء.

وإذا استمرت الماديات تبسط سيطرتها علينا فهي بلا شك ستسلبنا الأحاسيس الإنسانية وعدم الشعور بالآخر، وفي نفس الوقت ستمنع ارواحنا وعقولنا من الوقوف بوجه المادية وطغيانها وتقويض أخطارها الجسيمة وويلاتها الكثيرة، وآثارها الخطيرة على الإنسان والمجتمع، لاسيما حياة الناس العامة.

هنالك فروقات كبيرة بين الفرد المتعلق بالماديات وغيره ممن فضل الاهتمام بالجوانب الروحية والعبادية، فالشخص الأول يرى في امتلاك النقود بصورة كبيرة دلالة على قوته واتساع مكانته، بينما قد يكون فاقدا للاحترام في محيطه المجتمعي، فالنقود يمكن ان يتم تبديدها في غضون أيام او سنون معدودات، بينما الاخلاق والتمسك بالمبادئ الفضيلة، يمكن لها ان تنتقل الى أجيال متعاقبة وهو المعنى الحقيقي لمعنى الغنى وليس امتلاك الأموال بمستوى طائل.

فالتوجه الى الله في هذ الشهر الفضيل يضاعف من الشعور بالغنى الروحي بعيدا عن الغنى المادي، ومن الجميل ان نجعل هذه الأيام هي الانطلاق الحقيقي نحو تهذيب النفوس وعدم الخضوع للماديات التي انقدنا اليها وأصبحنا في أحيانا كثيرة نتسم بالعدوانية والتعامل الفض مع الآخرين بسببها.

الفرصة لا تزال سانحة، لتتغلغل القيم السامية التي تنتشر موائدها في شهر الله، وتترسخ في النفس البشرية، وعلينا نحن الافراد ان نصحح مسارات حياتنا اليومية وجعل أيام الصيام بمثابة ورش تقويمية لما يصدر من تصرفات غير لائقة او مقبولة اجتماعيا، وبذلك نكون قد حققنا الهدف المقصود وجلعنا من المادية خلف ظهورنا ونمت بداخلنا الروح العبادية.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا