الفسادُ.. جَورٌ، ظُلمٌ، وخيانة

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السّنةُ الثّانيَةِ (٤)

نـــــزار حيدر

2015-06-25 01:08

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

رفض بنو اسرائيل سيادة طالوت لسببين؛

الاول؛ هو انه لم يأتِ ضمن السياقات الروتينيّة التي تعوّد عليها المجتمع الاسرائيلي، فانّ من طبيعة الانسان انه يُحب الرّوتين ولا ينزع الى التغيير لما له من ثمنٍ الا بشقِّ الانفس.

الثاني؛ هو انّه لم يأتِ في سياق الملاكات والمعايير المعهودة وقتها.

الاول؛ في إشارة الى المحاصصة التي ترفض ان يتبوّأ احدٌ موقعاً في الدولة مهما كان كفوءاً ونزيهاً وخبيراً في مهمته، اذا لم تنطبق عليه مواصفات تقاسم السلطة بالولاءات والانتماءات وليس بالخبرات والكفاءات.

الثاني؛ في إشارة الى الفساد المالي والاداري الذي يتحكّم في الدول الفاشلة، التي تعتمد معايير التوظيف الماديّة البحتة التي لا علاقة لها، في اغلب الأحيان، بالموقع وما يحتاجه من خبرات وتجارب.

انّ هذين السّببين هما من أشد وأقسى عوامل الفشل التي تصيب الدول في مقتل، امّا سُنّة الله في الحياة فتنسف هذين السببين بشكل نهائي، فهي ترفض تقاسم السلطة على أساس الولاء الشخصي في إطار المحاصصات الضيّقة التي تعتمد الانتماء والخلفيّة والحزبيّة والمناطقيّة والعشائريّة وما الى ذلك من المعايير الجاهلية التي اذا ما تكرّست في مؤسسات ايّة دولة فستفشل وقد تنهار لا محالة، ولعلّ في تجربة العراق الحاليّة التي اعتمدت المحاصصة الدينية والمذهبيّة والإثنية في الظّاهر، والحزبيّة الضّيقة والولاء الشخصي في الحقيقة والواقع، خير دليل على الفشل المقصود.

كما انّ سُنّة الله تعالى في عباده تقوم على أساس قاعدة [الرّجل المناسب في المكان المناسب] في إطار معايير النجاح كالخبرة والتجربة والمهنية وغير ذلك، بغضّ النظر عن الولاء والخلفيّة وبكل اشكالها.

لذلك، جاء الاختيار الإلهي لطالوت ليكون ملكاً، قائداً، على بني اسرائيل صاعقاً ومفاجئاً بالنسبة لهم لأنه لم يأتِ ضمن سياقات الاختيار المعمول بها آنذاك.

فضلاً عن انّه جاء في إطار عمليّة تغيير، انقلاب، في مفاهيم القيادة والادارة بما لم يعهدهُ المجتمع آنئذ، على اعتبار حاجة النصر لقرارات قاسية في اغلب الأحيان.

ولم يكن الاختيار الإلهي لمجرّد ان السماء ارادت ان تعاكس الواقع او تصدم المجتمع في اختيارها او تفرض ارادتها عبثاً، ابداً، وانّما كان الاختيارُ لإنجاز الهدف وتحقيق النصر على العدو وتأمين كل عوامل النجاح للخطّة المرسومة، وكلّ ذلك ما كان ليتحقّق اذا جاء اختيار السماء منسجماً مع الواقع المريض والمرّ الذي كان يعيشه المجتمع الاسرائيلي ابداً.

تأسيساً على هذا المفهوم القرآني العظيم في حسن اختيار [الرّجل المناسب في المكان المناسب] ينبغي، اذا اردنا ان نتجاوز الفشل في العراق ونحقّق النصر في الحرب على الارهاب وكذلك في الحرب على الفساد بكلّ اشكاله، ان تكون معاييرنا في الاختيار تنسجم وحاجة الموقع والمنصب والمسؤولية بغضّ النظر عن الولاء والانتماء، وبعكس ذلك فانّ الاختيار سيكون بحدِّ ذاته فساداً بامتياز.

انّ العراق اليوم بحاجة الى قرارات قاسية وثوريّة وشجاعة فيما يخص الادارة والقيادة، فالرّوتين المعمول به حالياً لا يمكن ان ينهض بالبلد لمستوى المسؤولية والتحديات الكبيرة ابداً.

ترى؛ هل صدفة ان يحدّد القرآن الكريم، مرّة، الصّفات المطلوبة لتسنّم المسؤولية بقوله عز وجل {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} واُخرى يقول عزّ من قائل {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ* قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} وثالثة بقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}؟!.

لا، ليس صُدقة، او محض اختلاق، ابداً، وانّما لكلّ موقع معايير تختلف عن الموقع الاخر، تنبع من خصوصيّاته وحاجته، ليس منها الانتماء والولاء بكلّ تاكيد، فتلك هي المحاصصة التي يجب ان نركنها جانباً شيئاً فشيئاً.

ان واحدة من اهم اسباب الفشل هو ان المتصدّي للموقع ليس أهلاً له، لا من ناحية المهنيّة ولا من ناحية الخبرة ولا من ايِّ النواحي، وانّما ساقه الفساد الى الموقع سوقاً، في إطار المحاصصة والتّراضي.

ولقد نبّه امير المؤمنين (ع) الى خطر التعيين بالفساد عندما كتب في عهده لمالك الأشتر عندما ولّاه مصر، بقوله {ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ}.

الفسادُ؛ اذن، جَورٌ، ظُلمٌ، وخيانة! كيف؟!.

ظُلمٌ، لانّ تمكين غير المناسب من موقع ما، لن يمكّنه من إعطاء الموقع حقه في الانتاج والعمل، فهو فشل مع سبق الاصرار، ما يعني انّه سيظلم الناس المرتبطة مصالحها بشكل مباشر في هذا الموقع تحديداً.

خيانة؛ لان تمكين الفاشل من موقع ما يعني ازاحة من يستحقه عنه، ما يعني انّنا أضعنا فرصة للنجاح عندما مكّنّا من لا يستحق من موقعٍ ليس له، وتلك هي الخيانة التي نرتكبها بحق البلاد والمجتمع على حدٍّ سواء.

ان على الدولة العراقية ان تُزحزح الفاشلين عن مواقع المسؤولية لتحلّ بدلهم العناصر الناجحة ضمن المعايير الحضارية السليمة كالنزاهة والخبرة والمهنية، حتى اذا اعترض المعترضون ولم يقبل المتضرّرون، كما احتجّ بنو اسرائيل على طالوت بادئ الامر، ليكتشفوا، في نهاية المطاف، انهم كانوا على خطأ وان المعايير الحقيقية التي اختير على اساسها القائد الجديد كانت، استراتيجياً، لصالحهم، عندما ثبُت لهم بانها كانت السبب المباشر لتحقيق النصر العسكري المؤزّر.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي