الْدُّعَاءُ مِخُّ الْعِبَادَةِ وَمَاءُ الْرُّوحِ
الشيخ الحسين أحمد كريمو
2020-05-07 04:37
تقديم روحي
مضى من شهر رمضان المبارك العشرة الأولى؛ وهي عشرة الرَّحمة، (أوله رحمة)، كما في النَّص، وقريباً تنتهي العشرة الثانية ولكن لن تنتهي إلا وتفجعنا بسيد العرب والعجم، بل سيد الخلق بعد صنوه رسول الله (ص)، سيدنا ومولانا وأميرنا الإمام علي بن أبي طالب (ع)، الذي كان ومازال مدرسة راقية لبني البشر يؤدبهم ويُعلمهم أصول الحياة، وشرفها، قولاً وعملاً.
والإنسان مخلوق من قبضة من تراب، ونفخة من روح من عند رب الأرباب، وذلك لتناسق الخلقة لتعيش التوازن ما بين السماوي والأرضي، ما بين تجاذب الروح نحو السمو والعلو والارتقاء، وجاذبية الأرض إليها وما فيها من نزعات نفسية، وشهوات جسدية، وطبائع حيوانية.
وطبيعة الإنسان تشدُّه إلى الأرض، ونوازعه تدفعه إلى النيل من الشهوات، ولكن روحه تحاول منعه، ودفعه، ورفعه، وجعل الله العقل ميزاناً فيه من الداخل، والشريعة الدينية منهاجاً وصراطاً مستقيماً تُحدد له مساره في هذه الحياة، والبشر جميعاً يعيشون حالة من التَّنازع ما بين الروح العُلوية والجسد السُفلي.
وكما أن الله تعالى؛ جعل لهذا الجسد غذاءً ليتغذى به فيكبر وينمو ويقوى، جعل للروح أيضاً غذاءً لتسمو وترتقي وتتجلى، فجعل غذاء الجسد الطعام والشراب، وغذاء الروح الطاعة والعبادة التي تجعل من الإنسان شخصاً روحانياً يمشي على قدمين بين الآدميين.
الدُّعاء مخ العبادة
العبادة هي الطاعة المطلقة للخالق سبحانه بكل ما أمر فعلاً، ونهى تركاً، وهي الغذاء الذي لا يعرف طعمه الكثير من هذا الخلق المنكوس، والشعب المنحوس لأنهم ما بين تارك لها تكبُّراً وتجبُّراً – والعياذ بالله – وما بين آخذها طقوساً متوارثة عن الآباء والأجداد، فيقوم بها كفولكلور شعبي، وطقس ديني لا يعي شيءً من معانيها، فتراه لولا العادة لترك العبادة، فهو لا يستفيد منها كغذاء روحي كامل، تُجلي قلبه، وتُرضي ربه، وتَغفر له ذنبه، فلماذا لا نأخذها بروحيَّتها وكما أمر بها ربنا سبحانه وتعالى لنرتفع بها إلى أعلى عليين؟
قال ربنا سبحانه وتعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر: 60)، ففي هذه الآية الكريمة جعل الباري سبحانه الدعاء عبادة ومَنْ استكبر عن الدعاء فإنه يؤكد أنه سيدخل جهنم ذليلاً، حقيراً صاغراً.
وفي آية كريمة أخر جعل سبحانه الدُّعاء أصل العبادة وبيَّن أنه لا يعبأ بالبشر أصلاً لولا دعاءهم وضراعتهم له سبحانه وتعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) (الفرقان: 77)، والأمة تركت العبادة والدعاء معاً لانشغالها بالحضارة الرقمية التافهة.
وهذا ما جاء في كثير من نصوص الحديث الشريف، قال (ص): (الدعاء مخ العبادة، ولا يهلك مع الدُّعاء أحد)، وقال رسول الله (ص) ما هو أكبر من ذلك: (الدُّعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض)، كم نحن غافلون عن هذه العبادة الراقية، وهذا الغذاء الملكي للروح، ولماذا لا نتسلح بهذا السلاح في هذا الوقت الرهيب، وهذا العصر الكوروني الأغبر، فنحن –بل العالم– أحوج ما يكون لهذا السلاح، لأن جميع أسلحة الأرض توقفت أمام زحف هذا الفيروس المنحوس كما أقرَّ واعترف ذاك الوزير الإيطالي؟
ويقول سيدنا ومولانا أمير المؤمنين (ع): (الدعاء مقاليد الفلاح، ومصابيح النجاح)، وبكلمة درَّة أخرى له (عليه السلام): (الدُّعاء مفتاح الرَّحمة، ومصباح الظُّلمة)، فإذا أردنا أن ننجح في مساعينا، ونُفلح في حياتنا، علينا بالدعاء، لأننا دخلنا ودخل العالم في متاهة مظلمة، نحتاج فيها للرَّحمة الإلهية، لتُنقذنا منها، ولمصباح يُنير ظلامها الدامس وهو الدُّعاء والضَّراعة إلى الله مقرونة بالطاعة بأجلى وأرقى إخلاصها.
شهر الطاعة والضراعة
ونحن نعيش في رحاب الضيافة الإلهية، وفي شهر الله المعظم، وهو أفضل، وأعظم، وأكرم الشهور عند الله، بكل ما فيه فالنوم فيه عبادة، والنَفَس تسبيح، والركعة بألف، فهو فرصة لنا لأن الشياطين فيه مغلولة عنا، ولم تبقَ لنا إلا النفس الأمارة بالسوء فعلينا أن نكبحها بالتوبة، ونجبرها على الإخلاص، لنخرج من هذا الشهر بذخيرة لا نظير لها فنكسب الدنيا والآخرة.
ففي العيون الرّضوية بإسناد صحيح، عن مولانا أبي الحسن الرّضا، عن آبائه، عن جدِّه أمير المؤمنين (صلوات الله عليهم)، قال: إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطبنا ذات يوم فقال: أيّها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة، والرحمة، والمغفرة..)
إلى أن يقول: (فسلوا الله ربّكم بنيّات صادقة، وقلوب طاهرة؛ أن يوفّقكم لصيامه، وتلاوة كتابه، فإنّ الشَّقيّ من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم) (بحار الأنوار: ج 93 ص356)
هنا وقفتُ حقيقة لمسالة هي غاية في الأهمية، وهي بقوله (ع): (فسلوا الله ربّكم بنيّات صادقة، وقلوب طاهرة)، فإنها مسألة ثالثة في هذا الشهر الشريف، ألا وهي (الدعاء) الذي يُضاف إلى الصيام، وتلاوة القرآن الحكيم، فتدبرتُ في بعض ما ورد من الأدعية في هذا الشريف فوجدتها حقيقة كنز روحي لا ينضب.
وجميل ما يقول الإمام الراحل في أحد كُتبه الرمضانية: (إن شهر رمضان هو شهر الدعاء، والاستغفار، وقيام الليل، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (عليكم في شهر رمضان بكثرة الاستغفار والدعاء، فأما الدعاء فيدفع به عنكم البلاء، وأما الاستغفار فتُمحى به ذنوبكم) (وسائل الشيعة: ج10 ص308 ح13485)
وروي أنه: (كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا كان شهر رمضان لم يتكلم إلا بالدعاء والتسبيح والاستغفار والتكبير) (بحار الأنوار: ج46 ص65ح25)
أبواب السماء مفتحة
فأبواب السماء مفتحة أمامنا فلا نغلقها بالمعاصي، قال الإمام علي (عليه السلام): (لما حضر شهر رمضان قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس كفاكم الله عدوَّكم من الجنِّ والإنس، وقال ادعوني أستجب لكم، ووعدكم الإجابة، ألا وقد وكل الله عز وجل بكل شيطان مَريد سبعين من ملائكته فليس بمحلول حتى ينقضي شهركم هذا، ألا وأبواب السماء مفتحة من أول ليلة منه، ألا والدعاء فيه مقبول) (شهر رمضان الإمام الشيرازي: ص 49، عن مَنْ لا يحضره الفقيه: ج2 ص98)
فإذا كانت الأبواب مفتحة، ولا مانع دونها، ولا دافع عنها، فمن الغبن، بل من عثرة الحظ، وقلَّة التدبير أن ندعها تفوتنا ونحن أحوج ما نكون إليها، فكلنا خائفون متوترون محاصرون في بيوتنا فالعالم توقف بسبب أعمالنا وظلمنا وجهلنا بما نحن نفعله في هذه الكرة الأرضية وهي أمنا التي منها خُلقنا وإليها سنعود، ومنها سنُبعث للحساب بأعمالنا في محكمة العدل الإلهية.
العجب كل العجب
وكم تراث أهل البيت (ع) من أئمتنا عظيماً وراقياً ولكن الأمة التي نزلت عليها (اقرأ) لا تقرأ، وإذا قرأت ذهبت إلى الغرب لكي تستورد منه النفايات، وتُقلد السقاطات، ولدينا أنوار الكون، وفكر الحضارة الراقية، فيُروى أن الإمام الحسن بن علي المجتبى(عليهما السلام) نظر إلى أناس في يوم عيد الفطر يلعبون ويضحكون، فقال لأصحابه والتفت إليهم: (إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى رضوانه، فسبق فيه قوم ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من الضَّاحك اللَّاعب في اليوم الذي يُثابُ فيه المحسنون ويَخيبُ فيه المقصِّرون، وأيمُ الله لو كُشف الغطاء لشُغل محسنٌ بإحسانه، ومسيءٌ بإساءته) (شهر رمضان الإمام الشيرازي: ص 59، عن مَن لا يحضره الفقيه: ج1 ص511)
فشهر رمضان المبارك ينسحب من بيننا ببطء وهدوء فما أسرعه في المرور والعبور، فهو من الفرص السانحة، و(فوت الفرصة غُصَّة)، و(هي تمرُّ مرَّ السحاب)، وما أحرانا بأن نستغلَّ ما بقي من أيامه ولياليه الشريفة القادمة وفيها كل الخير، والبركة، والنور، والفضيلة، من أيام شهادة الأمير (ع)، ثم ليالي القدر المباركة التي تُقدَّر فيها الأقدار، من الأرزاق والآجال والأعراض والأمراض، فلعل الله سبحانه أن يرحمنا ويرفع هذه الآصار والأغلال عنا، ولن ترتف إلا إذا كنا كما قال الرسول الأعظم (ص) في خطبته: (فسلوا الله ربّكم بنيّات صادقة، وقلوب طاهرة)، بهذين الشرطين نفوز وننجح بإذن الله وشفاعة رسول الله (ص) وبركة هذا الشهر الكريم.
- النيَّة الصادقة..
- القوب الطاهرة..
فهذا ما نفتقده في أنفسنا، وفي واقعنا الاجتماعي في هذا العصر الرقمي الذي نسينا فيه أنفسنا وقيمنا وأهلنا وحتى ديننا الحنيف، ولكن جاءت هذه الجائحة لتُنبِّهنا لخطورة ما نحن فيه من الغفلة، وجاءت أشهر النور المباركة لتُعيد لنا الروح المفقودة، والمعنوية المنسية، فلنصدق مع الله تعالى بنوايانا، وننفتح عليه بالدعاء، والطاعة، والعبادة، وتلاوة آيات القرآن الحكيم بتفكر وتدبر ليجلو لنا قلوبنا، وتطمئن به نفوسنا كما قال ربنا سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ) (الرعد: 29)
وبذلك نحوِّل هذه النقمة والبلاء الذي نحن فيه إلى نعمة من نعم الله الكُبرى علينا وإلا فلنستعدَّ لبلاء أعظم، وعذاب يستأصل الفاسدين ولن ينجو منه غيرهم، يقول السيد الإمام الشيرازي الراحل: (هناك ارتباط وثيق بين أعمال الإنسان وبين النظام الكوني، فلو اتجه الإنسان إلى ما تقتضيه الفطرة من طاعة الله سبحانه وتعالى لنزلت الخيرات، وانفتحت أبواب البركات، بخلاف ما لو انحرف عن طريق العبودية، وتمادى في غيّه فإنه يستوجب ظهور الفساد، ونشوب الحروب، وحدوث الكوارث الكونية كالزلازل والصواعق، فهذه الأمور كلها ترجع إلى أعمال الإنسان، فقد قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96)
إلا إذا كان الأمر بحسب ما تقتضيه السُّنة الإلهية من الاستدراج والابتلاء، فاذا نزلت بلية أو مصيبة من مرض وغيره على فرد من الأفراد، فان كان صالحاً كانت تلك فتنة، ومحنة يمتحنه الله بها، فقد قال سبحانه وتعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت: 2-3) وواضح أن ذلك هو الآخر مكمّل للإنسان ومقوّم لوجوده وغايته.
وإن كان المبتلى غير صالح كان ذلك تنبيهاً له وعقاباً على أعماله ليرجع إلى صوابه ورشده، فقد قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلاَ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) (الأنعام: 42 - 44)
إذن فالبلايا والمصائب من الأمراض وغيرها، هي نعم من الله على بني الإنسان، ليتعظوا ويتذكروا بها، ويتركوا المعاصي، فهذا مقتضى الحكمة الربانية في تمييز الطيب من الخبيث). (معالجة الأمراض النفسية الإمام الشيرازي: ص6)
فالدعاء مخ العبادة، وهو جلاء القلب، وماء الروح؛ فلنسقِ أرواحنا في هذا الشهر العظيم ولنَروها من فيضه العذب لا سيما بما ورد من أدعية في ليله ونهاره، في سَحَره وإفطاره، فمَنْ يتتبع برنامج هذا الشهر الكريم يشعر وكأنه مخصصاً للقرآن الحكيم، والدعاء فقط..
نسال الله التوفق لصالح العمال وأن يتقبلها منا بأحسن القبول إنه قريب مجيب..