هل للسعادة جينات؟

حيدر الجراح

2016-01-15 07:55

من كان يصدق ان بلدا مثل المكسيك يتصدر البلدان السعيدة رغم كل الظروف التي يعيشها سكانه؟ ومن كان يعتقد أن سكان منطقة شمال أميركا اللاتينية والدول الأفريقية في جنوب الصحراء الكبرى هم أسعد الناس وأكثر الشعوب استرخاء، رغم انتشار الجرائم وارتفاع معدل السرقات فيها، مقارنة ببقية أنحاء العالم؟.

بين عدم التصديق والاعتقاد توصلت دراسة إلى أن بعض الشعوب تحمل جينات السعادة وعلى رأسها المكسيك، مؤكدة أن الإحساس بالفرح لا يرافق دائمًا امتلاك المال والثروات، ولافتة إلى أن بين السعادة والأمان علاقة عكسية، فكلما انعدمت مقومات الأمن والراحة اخترع المرء وسائل فرح بسيطة من لا شيء تمكنه من مقاومة الشقاء.

ولاحظ الباحثون أن السعادة والفرح عندما يكونان في شكل طبيعة شعب كامل، فلا بد أن يكون الأمر مرتبطًا بالجينات التي يحملها هذا الشعب. ولا ترتبط السعادة دائمًا بالثروة التي يملكها المرء أو باستقرار البلد، والدليل على ذلك أن سكان نيجيريا يعتبرون أنفسهم أسعد من الألمان.

وقال ميخائيل مينكوف من جامعة فارنا، وأحد المشاركين في وضع الدراسة، "الشعور بالسعادة والاسترخاء وبمزاج جيد لا يعتمد على مدى ازدهار البلد أو الأمان المنتشر فيه". أضاف "في الواقع لاحظنا أن بين السعادة والإحساس بالأمان علاقة عكسية".

يأتي بعد المكسيكيين في السعادة سكان كولومبيا، ثم فنزويلا والأكوادور في مستوى واحد، بعد ذلك يأتي النيجيريون وسكان هونغ كونغ والصين وتايلند وتايوان والأردنيون والعراقيون. وقد ينطبق على العراقيين ما لفتت اليه الدراسة من أن بين السعادة والأمان علاقة عكسية فكلما انعدمت مقومات الأمن والراحة اخترع المرء وسائل فرح بسيطة من لا شيء تمكنه من مقاومة الشقاء.

عزا الباحث مينكوف السعادة أو التعاسة إلى الجينات. وقال إن شعوبًا تواجه ظروفًا بيئية قاسية تحتاج عوامل داخلية، تساعدها على المقاومة والبقاء، من هنا جاء تصنيف سكان المناطق الإستوائية وشمال أوروبا، رغم أنه أقر أيضًا بوجود عوامل أخرى تتدخل في هذا التصنيف.

ماهي السعادة؟

تشكل السعادة الى جانب الحب أقدم مواضيع التأمل والتفكر. اما اول المصنفات حول السعادة فهي ترقى الى العصور الاغريقية والرومانية القديمة. وظل التقليد بعد ذلك سائرا دون انقطاع حتى العصر الذهبي، القرن الثامن عشر، الذي شهد عددا من العقول الكبيرة التي عالجت هذا الموضوع، حتى القرن العشرين حيث صدر العديد من المؤلفات المخصصة للجمهور العريض.

ومع ذلك فقد ظل موضوع السعادة موضوعا يثير الغضب، ولا نجد حوله أي اجماع، لما له بالطبع من تضمينات متعددة: فلسفية "ماهي السعادة؟" ودينية "هل علينا ان نبحث عن السعادة في الدنيا ام الاخرة؟" اجتماعية "السعادة هي افيون الشعوب الجديد؟" سياسية "هل يجب الحذر من القادة الذين يبحثون عن سعادة مواطنيهم؟".

منذ عدة سنوات صارت السعادة أيضا موضوع دراسات علمية، في حقل علم النفس "هل يمكن تقييم السعادة؟" وعلم الاحياء "ماذا يدور في دماغ انسان سعيد؟" وفي حقل الصحة "هل تعتبر السعادة امرا جيدا بالنسبة للصحة؟" هذه التطورات الحديثة، هل توضح النقاش ام هي تقلصه على العكس؟ لايوجد جواب حاسم حتى الان.

وبالانتظار هاكم بعض عناصر التأمل. على صعيد علم النفس، يمكن اعتبار السعادة، شعورا "هذا الوعي الخالص من الانفعال" على حد تعبير عالم نفس الاعصاب أنطونيو داماسيو. يمثل الوعي الآني او الاستعادي للحظة ارتياح، دون شك التعريف الأكثر براغماتية للسعادة. وكل مايمكن ان يسيء الى هذا الوعي يسيء الى الشخص في شعوره بالسعادة، كالقلق والاكتئاب، نسيان الذات في النشاط الزائد والاستجابات الى القلق اليومي. اما العيش في الاجترار او الترقب فيعرض المرء لعدم القدرة الا بالشعور بالأمل بالسعادة او بالحنين اليها، هذا ما يمنع العيش فيها كتجربة مباشرة.

شكل هذا الموقف مصدرا للعديد من الالهامات الشعرية (ايتها السعادة، تعرفت اليك من الضجيج الذي احدثته وانت تمرين). من هنا كانت الضرورة للتدرب على قبول "السعادات الصغيرة" اليومية، والتي تمناها كل كتّاب السعادة: مايعني تطوير الوعي بلحظات عذبة. الا ان مجرد الشعور بالرضا – الشعور ببطن مليئة، بالأمان، بطقس حلو – لايكفي لاعطاء الشعور بالسعادة. اذ لابد من عنصرين مكملين، وهو الشعور بالاكتمال (السعادة شعور نهائي، بعده لامجال لتمني المزيد، بل ديمومته) وتعليق الشعور بالزمان الذي يمر.

هل يمكن ان نكون اكثر سعادة؟

لا تدوم الانفعالات الإيجابية عامة وقتا طويلا، اما الانفعالات السلبية فقد تطول لأيام ولأسابيع. ربما يعود ذلك الى آليات تطورية: خوف، قلق، حزن او غضب، انفعالات كانت اكثر نفعا لاستمرارية حياتنا من الانفعالات الإيجابية كالفرح والحبور. والسعادة هي بشكل ما لم يتصوره التطور بالنسبة لنا. ومع ذلك فان البشر وقد فهموا ان السعادة مصدر حيوي، فقد راحوا شيئا بعد شيء ينمون ثقافتها: لقد حاولنا تطوير استعداداتنا للسعادة وتنشئتها. الا ان السعادة بوصفها شعورا، فهي تستند الى قاعدة انفعالية، وتاليا الى مصادر محددة. فما ان تظهر السعادة حتى تحمل الى المرء منطق اختفائها القريب: اننا جميعا نتناوب على السعادة. وبهذا المعنى لايقوم البحث عن السعادة الا عبر زيادة هذه اللحظات المتقطعة، والقبول بهذه الأوقات المتقطعة. "اننا جميعا نبحث عن السعادة من دون ان نعرف اين، كالسكارى الذين يبحثون عن بيتهم، وهم يعرفون وان بتشوش ان هذا المنزل موجود" هذا ما كتبه فولتير.

ان مسالة البحث عن السعادة قد طرحت منذ الازل. فهذا ابكتيتوس وابيقور وسنيكا والقديس اوغسطينوس قد قالوا ومنذ وقت طويل: ضرورة الحد الأدنى من الرخاء المادي، (سقف وغذاء وأصدقاء بحسب ابيقور) وعدم جدوى كل ما يعتبر فائضا، واهمية العلاقة المنتظمة مع الطبيعة (السعادة في الحقل) وغداء عاطفي (السعادة في الارتباط) تعددية الطرق الموصلة الى السعادة (في العمل والتراجع، في التبادل وفي العزلة) على ان يتم اختيار ذلك بحرية.

بالنسبة للعصر الحديث نجد نمطين متكاملين يتعايشان معا (من الأدنى الى الأعلى) و(من الأعلى الى الأدنى). يعتبر النمط الأول ان السعادة تقدم على جمع بعض الشروط المادية بحدها الأدنى. اما النمط الثاني فيؤكد ان لاشيء ماديا يمكنه تحقيق السعادة من دون استعداد نفسي مناسب، عفوي او تأملي. الحصول على ما نحب، او ان نحب ما نحصل عليه، ان النموذجين متكاملين بالطبع.

بعد التسعينات شهدنا وفرة في المطبوعات التي تناولت "علم النفس الإيجابي" في العالم كله. توالت الاعمال الحديثة حول "الرضا الذاتي" وعلى ثقافة المشاعر الإيجابية "تذوق ماتقتضيه الحياة اليومية، والاستفادة من تفاؤل ذكي".

ثمة أبحاث متعددة اكدت أيضا حدس فولتير الذي يقول: "قررت ان أكون سعيدا، لما لذلك من منفعة من اجل الصحة". فالسعادة ومكوناتها المتعددة "التفاؤل، الرابط الاجتماعي، الانفعالات الإيجابية" تقدم على ما يظهر تأثيرا فاعلا نسبيا ضد مختلف امراض المحيط وعدوانيته.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا