القاتلون الجدد
الوحدة والعزلة الاجتماعية
موقع للعلم
2023-10-30 07:09
بقلم: عبير فؤاد
سارعت الحكومة البريطانية مؤخرًا بتعيين وزيرة لمواجهة تحدٍّ مجتمعي يتزايد خطره يومًا بعد الآخر، ألا وهو تزايُد نِسَب الشعور بالوحدة والعزلة بين أفراد المجتمع، وذلك على خلفية وجود 8 ملايين بريطاني، غالبيتهم رجال في عمر 35 عامًا يعانون الوحدة، ما دعا "لجنة جو كوكس" إلى وصف الأمر بالوباء الصامت في تقريرها الصادر بمناسبة شهر الرجل في مايو الماضي. إذ أظهر استطلاع الرأي الذي أجرته اللجنة في المجتمع البريطاني بمشاركة 1200 رجل، أن 11% منهم يشعرون بالوحدة بشكل يومي.
"جعلوني وحيدًا".. هكذا أرجع المشاركون السبب في وحدتهم إلى الظروف المتعلقة بالابتعاد عن الأصدقاء والأهل بنسبة 18%، أو الانفصال والبطالة بنسبة 17% لكلٍّ منهما، وأخيرًا وفاة أحد أفراد العائلة بنسبة 17% أيضًا.
وتُعَدُّ "لجنة كوكس" من أهم الجهات المستقلة التي تشكلت بمشاركة عدد من نواب البرلمان البريطاني ومن نحو 13 من الجمعيات الأهلية والخيرية المهتمة بمكافحة خطر الوحدة والعزلة في المجتمع البريطاني، إثر دعوة من النائبة الراحلة "هيلين جوان كوكس"، المعروفة بجو كوكس.
وعلى ما يبدو أنها ليست المحاولة الوحيدة من قِبَل الحكومات لبحث سبل مواجهة الشعور بالوحدة بين كبار السن خاصة، فقد سبقتها التجربة الأسترالية بتنفيذ برنامج للتواصل مع هذه الفئة، في محاولة لكسر حاجز الوحدة لديهم. فهل يستحق الشعور بالعزلة أو الوحدة كل هذه المخاوف؟ وما الذى يستطيع العلم الإسهام به للحد من مخاطر هذه الظواهر المجتمعية؟
زيادة خطر الموت
لا تقتصر تأثيرات الوحدة والعزلة الاجتماعية على الجانب النفسي فقط، وإنما تتجاوزها إلى صحة العقل والقلب وتراجُع المناعة والقدرة على مواجهة العدوى، وصولًا إلى زيادة خطر الموت بنحو 26% لدى كبار السن، وفق تقرير السياسات العامة والشيخوخة الصادر مطلع العام الحالي، في يناير/ كانون الثاني الماضي، والذي لفت الانتباه إلى أن الروابط الاجتماعية الضعيفة تضاهي في خطرها على الصحة ضِعف خطر السمنة أو تدخين 15 سيجارة يوميًّا.
كما أن الأشخاص المعزولين اجتماعيًّا يزيد تعرُّضهم للإصابة بالاكتئاب والخَرَف بنحو ثلاثة أضعاف أو أكثر مقارنةً بغيرهم. ويزداد مع الوحدة أيضًا الشعور بالخمول بنحو 2- 3 مرات، وهو ما قد ينتج عنه ارتفاع القابلية للإصابة بالسكر بنحو 7%، والقابلية للصدمة بنحو 8%، والقابلية للإصابة بأمراض القلب بنحو 14%.
وتقدم الأبحاث العلمية تعريفًا مختلفًا لكلٍّ من الظاهرتين، فالعزلة الاجتماعية هي البُعد –بشكل مادي- عن الآخرين وعدم وجود قنوات للتواصل، أما الوحدة فتمثل شعورًا بعدم وجود مَن يتفهمك ويشاركك الاهتمامات، وهو ما قد تختبره حتى وأنت داخل غرفة مزدحمة بالأشخاص.
وعادةً ما يجري قياس درجة وحدة الشخص أو عزلته من خلال أسئلة عن حجم شبكة الاجتماعيات الخاصة به، ومدى الاختلاف فيها، وعدد مرات التواصل مع دائرة المعارف، أو حضور المناسبات الاجتماعية، وكذلك حجم أوقات التواصل مع الأصدقاء والعائلة، والمشاركة في الأنشطة التطوعية، وأخيرًا القدرة على التعلُّم ومشاركة التجارب والخبرات الجديدة.
في هذا الإطار، استطاع جوليان هولت لونستاد -أستاذ علم النفس والأعصاب، بجامعة بريجهام يونج بالولايات المتحدة الأمريكية- في التقرير السابق، البرهنة على أن الأشخاص الذين يتمتعون بعلاقات اجتماعية أقوى كان لديهم احتمالية أكبر للبقاء على قيد الحياة بنسبة 50٪ مقارنةً بنظرائهم. قام لونستاد بتحليل نتائج 148 دراسة سابقة، شارك فيها 309 آلاف مُسِن، بمتوسط أعمار 64 عامًا.
يقول لونستاد في تصريحات خاصة لـ"للعلم": "نستطيع ببساطة اختبار صحة هذه الفرضية بمشاهدة قصص الناجيات من سرطان الثدي، إذ ساعدهن دعم أسرهن على الشفاء والتغلُّب على آلامهن واستكمال رحلة العلاج القاسية.
وأوضح أن المريضة يكون دافعها للشفاء هو العودة لأحبائها، وعلى النقيض نجد الشخص الوحيد يفتقر إلى هذا الدافع للحفاظ على الحياة؛ لأنه فقد نوعًا ما رغبته في الاستمتاع بها ومشاركة أحداثها السعيدة أو الحزينة مع الآخرين، مما يجعله يستسلم للأفكار السوداوية.
يستطرد: وهو ما استطعنا إثباته بمتابعة المرضى المشاركين لفترة امتدت إلى 7 سنوات ونصف السنة في المتوسط.
شكل المواطنون من أمريكا الشمالية نحو 51٪ من عينة البحث، تلتها أوروبا بنسبة 37٪، وآسيا بنسبة 11٪، وأخيرًا أستراليا بنحو 1٪.
عادات صحية خطأ
يفسر جوليان لونستاد الارتباط بين العزلة الاجتماعية وزيادة التسبب في الوفاة نتيجة ميل الأشخاص المعزولين إلى عادات صحية خطأ، مثل الإكثار من التدخين، وإهمال الرعاية الصحية الشخصية والنفسية، كإهمال الشعور بالاكتئاب على سبيل المثال، بجانب عوامل اجتماعية واقتصادية أخرى.
ويؤيد هذه الفرضية ممتاز عبد الوهاب، أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، قائلًا: "خُلق البشر ليعيشوا في جماعات، وهو السلوك الطبيعي الذي أصابه خلل كبير في الآونة الأخيرة"، موجهًا الاتهام إلى عصر الصناعة ونمط الحياة المدنية المعاصرة، التي أسهم وجهها السلبي في زيادة العزلة والوحدة بين أفراد المجتمع.
وأوضح: "أصبح كل فرد مشغولًا بعمله وأهدافه ومتطلباته الحياتية، مهملًا الجانب الاجتماعي والتواصل مع العائلة والأصدقاء". وأضاف أن هذه الظاهرة تتفاقم بين المغتربين أو المهاجرين، إذ يواجه بعضهم صعوبةً في الاندماج مع أنماط الحياة وثقافتها الجديدة. كذلك يُعَدُّ كبار السن من الفئات الأكثر تعرُّضًا للوحدة وأعراض الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب والقلق بعد تركهم زملاء العمل، أو بعد زواج الأبناء أو سفرهم.
ربما تكون المجتمعات العربية أفضل حالًا، وفق قول عبد الوهاب، نتيجة الالتزام بالموروث الأسري وصلة الرحم، كما نجد تقبُّلًا نفسيًّا ورفقًا تجاه المرضى وذوي الإعاقة والمسنين، ناصحًا: "لا بد من الاهتمام بالتنشئة الاجتماعية للأطفال ومشاركة الهوايات مع الآخرين، ودمجهم في الرياضات الجماعية".
ويبدو أن الرجال هم الأكثر عرضةً للعزلة، مقارنة بالنساء، إذ دائمًا ما يكون الرجال أقل اتصالًا بكلٍّ من الأبناء والأصدقاء على السواء.
مفاجأة صادمة
ولعل هذه الاستجابات على النطاقين الحكومي والرسمي جاءت انعكاسًا للعديد من الأبحاث العلمية حول خطر ظاهرتي الوحدة والعزلة الاجتماعية، اللتين أصبحتا تهددان المجتمع المعاصر.
تشير تقديرات إحصائية عالمية إلى أن نحو نسبة الثلث إلى النصف من فئة كبار السن في عمر الـ60 عامًا فما فوق، معرَّضون لاختبار مشاعر الوحدة والعزلة الاجتماعية، وهو ما يترك أثرًا سلبيًّا على صحتهم، وذلك في الوقت الذي يشكل فيه كبار السن نحو 11.7% من إجمالي السكان في العالم.
ومن المتوقَّع زيادة أعداد هذه الفئة إلى 21% بحلول 2050، وفقًا لدراسات وتقديرات بحثية عديدة، منها تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية عام 2002.
وكشف تقرير سابق قام بدراسة الشيخوخة في المجتمع البريطاني عن أن قائمة أكثر الفئات تعرضًا للوحدة في الكبر شملت كلًّا من الأفراد غير المتزوجين، أو المطلقين، أو الأقليات المختلفة؛ بسبب حواجز اللغة والتباين الثقافي والديني، كذلك الأشخاص الأقل دخلًا الذين يميلون إلى الانزواء والهروب من الأنشطة ذات الرفاهية.
كما تُعَدُّ الإعاقات مؤشرًا مهمًّا على الوحدة، ووفقًا للتقرير فإن حوالي 23% من الأشخاص ذوي الإعاقة يشعرون بالوحدة أغلب أوقات اليوم، وترتفع هذه النسبة إلى 38% في الأشخاص ذوي الإعاقة الأصغر سنًّا.
وكان من الصادم التوصُّل إلى أن المعرضين للوحدة ليسوا كبار السن فقط، فقد أظهر استطلاع رأي أُجري عام 2006، بمشاركة 2393 مواطنًا أوروبيًّا، أن 9% من المشاركين الأقل من 25 عامًا صُنِّفوا ضمن الفئة الأكثر حدةً في الشعور بالوحدة، مقارنة بنسبة 5% في الأشخاص في المرحلة العمرية 22- 44 عامًا.
الاستخدام السلبي للتكنولوجيا
تقول حنان سالم -أستاذ علم الاجتماع المساعد بجامعة عين شمس-: إن الشباب يمكنهم اختبار مشاعر الوحدة والعزلة نتيجة متغيرات الحياة، ومن بينها الاستخدام السلبي للتكنولوجيا.
وتوضح: "أصبح الشباب يكتفي بوسائل التواصل الإجتماعي والرسائل النصية للتعبير عن مشاعرهم، وفقدنا التواصل الحقيقي في تبادُل الزيارات والحديث وجهًا لوجه".
وتستطرد: أصبحنا نرى الابن موجودًا ببدنه في البيت، ولكنه يتحدث قليلًا، ويميل إلى قضاء أغلب وقته مستخدمًا الكمبيوتر الشخصي أو التليفون المحمول.
وأوضحت أن الوحدة تكون اختيارًا للفرد بكامل حريته ورغبته في بعض الأحيان، نتيجة غياب التفاهم مع الآخرين، فقد نرى أبًا اختار عدم الحديث في البيت، أو آخر يبتعد عن زملاء العمل، وقد تأتي الوحدة فرضًا في أحيان أخرى، كما في حالات عدم الزواج، أو من جَرَّاء سفر الأبناء على سبيل المثال.
وترى سالم أن الانعكاسات الاقتصادية والاتجاه إلى اقتصاد السوق الحر في المجتمعات العربية تلبي دورًا مهمًّا في إعادة تشكيل الجوانب الاجتماعية والأخلاقية؛ إذ أصبحت مجتمعاتنا العربية تتجه إلى محاكاة الغرب، وهي نقطة مهمة، ينبغي التمهل أمامها بالدراسة؛ حتى لا نعاني من السلبيات كما هي المجتمعات الغربية الآن.
مقاربات علاجية
حاولت دراسة علمية، نُشرت بالمجلة الطبية البريطانية (بي إم جيه) BMJ، الإجابة عن التساؤل حول كيفية خفض الشعور بالوحدة والعزلة الاجتماعية بين كبار السن من خلال البحث في كافة الدراسات المنشورة خلال الفترة من 1995 إلى 2016، والتي أجريت على كبار السن من الفئة العمرية التي تجاوزت الـ 60 عامًا.
يقول البرتغالي "فيليبا لانديرو"، أستاذ اقتصاديات الصحة بجامعة أكسفورد ببريطانيا، والباحث الرئيسي للدراسة، في تصريحاته لـ"للعلم": "يساعد العلاج الجماعي في تبادل التجارب بين الأشخاص، ومن ثَم إيجاد موضوعات ذات اهتمام مشترك، كما يمكن لهؤلاء الأشخاص العثور على رفيق لديه المشاعر نفسها، بما يُكسِبه ثقةً بالذات وأنه ليس وحيدًا في هذا العالم".
ويسهم الإرشاد والدعم المقدم في هذه المجموعات في إكسابهم المهارات الاجتماعية اللازمة للاندماج من جديد في الحياة، وفق لانديرو.
ويوجد نوعان رئيسيان من المقاربات العلاجية التي يمكنها أن تؤدي دورًا فعالًا في هذا الإطار، الأولى العلاج الجماعي أو ما يُعرف بعلاج المجموعات Group therapy، والثاني هو العلاج الفردي "وجهًا لوجه" من خلال الكمبيوتر أو الزائرين المتطوعين. ويمكن تطبيقها في مراكز رعاية كبار السن أو في منازلهم.
يقول لانديرو: "غالبًا ما نسمع ردودًا من نوع (لديَّ اهتمامات وأفكار ولكني لا أجد مَن أشاركها معه)، أو (علاقاتي الاجتماعية واسعة ولكنها سطحية)، أو (أشعر كثيرًا بأن الناس حولي ولكنهم ليسوا معي، أو أنهم ليسوا مهتمين بما سأقوله)".
ولذا هدف العلاج الجماعي إلى رفع المهارات الاجتماعية من خلال برامج تعليمية عن الصداقة، واستراتيجيات تنمية التصرف الاجتماعي، وزيادة فرص التفاعل من خلال أنشطة النقل وتوصيل الوجبات للمنازل، وبواسطة استخدام تكنولوجيات الإنترنت والألعاب والأنشطة التفاعلية.
وأخيرًا، ربما آن الآوان أن تفكر جديًّا في العديد من اختياراتك في الحياة، فقلة الأصدقاء، وتفضيل عدم الزواج، والميل إلى العيش منفردًا، خيارات بات من المؤكد قدرتها على التأثير السلبي على صحتك النفسية والجسمانية. وقد أضحى الأمر يمثل قلقًا يتزايد يومًا بعد يوم، فالعالم بنمط حياته المعاصرة أعطى للبشر حق الانفراد بخياراتهم الحياتية والعملية دون اختبار تأثيرات ذلك عليهم أو على مَن يعيشون في محيطهم الخاص.