باحث في شؤون الصحة النفسية يدعو لتغييرات جذرية
دورية Nature
2022-12-06 07:40
بقلم: أليسون أبوت
لنتخيلَ أن خاطفًا ما احتجز طبيبة قلب وطبيبًا نفسيًا رهينةً، ثم تعهَّد بأن يُفاضل بينهما، فيطلق سراح الأكثر خدمةً للبشرية ويقتل الآخر رميًا بالرصاص. هنا، تتدخَّل طبيبة القلب لتُوضِّح أن العقاقير والعمليات الجراحية التي خرجت للنور بفضل تطورات مجالها قد أنقذت أرواح الملايين، وفي المقابل، يبدأ الطبيب النفسي حديثه بنبرة تأملية فيقول: "في الواقع.. إن الدماغ هو العضو الأكثر تعقيدًا على الإطلاق بين أعضاء جسم الإنسان"، وفي هذه اللحظة، تتدخَّل طبيبة القلب مرة أخرى وتقول للخاطف: "لا يمكنني أن أستمع إلى هذا الكلام مجددًا، فلتطلق الرصاص عليَّ فورًا".
كانت هذه واحدة من النكات التي نثرها توماس إنسل، الرئيس السابق للمعهد الوطني الأمريكي للصحة النفسية (NIMH)، بين سطور الفصول الأولى من كتابه الصادر بعنوان «التَعَافي» Healing، وهو الكتاب الذي يتناول فيه بالتحليل الثاقب عثرات الطب النفسي في الولايات المتحدة وإخفاقاته في علاج الأمراض النفسية هناك. وإذ ثبت بالدراسات العلمية نجاعة العلاجات في التعامل مع أعراض تلك الأمراض، في بعض الحالات على الأقل، يتساءل إنسل عن السبب وراء عدم تراجع معدلات الانتحار والوفاة المبكرة والتشرّد والبطالة رغم ذلك بين المصابين بالأمراض النفسية الأكثر حدة.
يُجيب إنسل في كتابه الشيق والمؤثر عن هذا التساؤل الذي أثاره هو نفسه، مُستشهِدًا بإحصائيات وأقاصيص شخصية. كما يطرح تصوّرًا يهدف إلى النهوض بمستوى الرعاية الطبية المقدمة للمرضى النفسيين، ورفع عدد المستفيدين منها. ومن هذا المنطلق، فالكتاب يُعَدّ دعوة للساسة كي يُوجِّهوا كمًا أكبر من الموارد نحو تعزيز الدعم المُقدَّم للمصابين بالأمراض النفسية، مع مراعاة أن يكون استثمارهم هذا أكثر حصافةً مما هو عليه حاليًا.
كل تلك الأمور يتناولها إنسل من واقعِ خبرةٍ تؤهِّله للإدلاء برأيه فيها، فبعد أن ترأَّس المعهد الوطني للصحة النفسية، قاد فريق الصحة النفسية في شركة «فيريلي» Verily، وهي شركة علوم الحياة التابعة لـ«جوجل»، ومقرها مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا. وقد شغل إنسل أيضًا منصب مستشار الصحة النفسية لحاكم ولاية كاليفورنيا عام 2019، ليكون قائمًا على رصد المشكلات العديدة التي تعتري نظام الرعاية الطبية النفسية بالولاية.
كل عام، ينتحر نحو 47 ألف شخص في الولايات المتحدة، ثُلثاهم على الأقل من المصابين بالأمراض النفسية الخطيرة، كالاكتئاب والفصام. وقد بلغ معدل الوفيات جرَّاء الانتحار نحو ثلاثة أضعاف معدل الوفيات جرَّاء القَتل حتى الآن في أمريكا، والأرقام في تزايد مطّرد رغم تراجعها في بلدان أخرى. نجد أيضًا أن المصابين بأمراض نفسية خطيرة في الولايات المتحدة تنتهي آجالهم إثر أسباب أخرى غير الانتحار، كأمراض القلب والسرطان، عند أعمارٍ أقل بنحو عشرين عامًا من أقرانهم غير المصابين بالأمراض النفسية، لأنهم لا يتلقون الرعاية الطبية اللازمة. أمَّا من ناحية متوسط العمر المتوقع لأصحاب الأمراض النفسية، فهذه الأرقام تجعلهم يبدون وكأنهم يحيون في ظل المنظومة الطبية في أوائل عشرينيات القرن الماضي.
ومن هنا، كانت طبيبة القلب في نكتة إنسل مُحّقة في تأكيدها نجاحات مجالها، فمعدل الوفيات الناجمة عن أمراض القلب في الولايات المتحدة تقلَّص إلى ما دون النصف، مقارنة بما كان عليه في خمسينيات القرن الماضي، والفضل في ذلك يعود بنسبة كبيرة إلى ابتكار عقاقير تخفض الكوليسترول وتضبط ضغط الدم المرتفع. أمَّا العلاجات المُصمَّمة لعلاج الأمراض النفسية الحادة فتقل كثيرًا في كفاءتها عن عقاقير أمراض القلب، فلا تزيد نسبة من يستجيبون لها على الثلث، ونحو ثلث آخر لا يظهر عليهم أي تغيير على الإطلاق. كل ما هنالك أن الدماغ - وأرجو ألا يثير ذلك حفيظة أحدهم - بالغ التعقيد؛ وفي ظل الثغرات الكبيرة التي تعتري ما توصَّل إليه باحثو علم الأعصاب حتى الآن من معرفةٍ بالدماغ، يتعسَّر عليهم توجيه العقاقير لمواقع محددة فيها، بما يضمن بلوغ مرضاهم مرحلة التعافي.
التماس سُبُل الرعاية النفسية
ينصح إنسل باتّباع مسارات نمدّ من خلالها يد العون للمصابين بالأمراض النفسية إلى أن تتحسَّن كفاءة العلاجات، وذلك من خلال العمل على زيادة فرص استفادتهم من الرعاية الطبية المناسبة، وتعزيز جودتها. ففي الواقع ، لا تزيد نسبة مَن يتلقون نصيبًا ما من الرعاية الطبية من بين المصابين بالأمراض النفسية في الولايات المتحدة على %40 تقريبًا، ونحو %40 منهم فقط مَن يحصلون على علاجات تستند إلى أدلة علمية. ولمواجهة هذا الوضع، يوصي إنسل بالإقتداء بمسار تطور علاج سرطان الدم الحاد لدى الأطفال كنموذج للتعامل مع الأمراض النفسية، إذ كان معدّل الوفيات بسببه لدى الأطفال نحو 90% في سبعينيات القرن الماضي، أمَّا اليوم فباتت نسبة النجاة من المرض تبلغ 90%، بفضل ابتكار أساليب أفضل للاستفادة من العقاقير ذاتها التي كانت متاحة منذ عقود. يشير هذا النموذج إلى أنه يمكن تحقيق تقدّم مشابه في مجال الطب النفسي بدمج العقاقير والعلاجات النفسية الأخرى، غير الدوائية، ضمن برنامج رعاية موسّع للمصابين بالأمراض النفسية الحادة.
ومع ذلك، فأحد التحدّيات القائمة يتلخَّص في أن منظومة الرعاية الطبية الأمريكية مُصمَّمة في الأساس للتعامل مع أزمات الصحة النفسية، لا لتوفير إدارة أفضل للمرض على المدى الطويل، ولا للتعافي. وكان أول العقاقير المضادة للذهان قد ظهر في خمسينيات القرن الماضي، ما سمح بالسيطرة على قطاع كبير من الأعراض الأكثر حدة، وأتاح أيضًا إطلاق سراح بعض المرضى من المصحات النفسية التي كانت ظروف الحياة داخل معظمها قاسية. ثم صدر في عام 1963 قانون «الصحة النفسية من المؤسسات المحلية»، والذي أرسى مبدأ توفير العلاج للمرضى النفسيين في مراكز علاجية قريبة من مساكنهم بدلًا من الاحتجاز في المصحات، غير أن التمويل الذي تلقته تلك المراكز كان شحيحًا، ما أدى إلى إغراقها بعشرات الآلاف من المرضى دون أن تكون مُجهَّزة للتعامل مع الأمراض التي يعانون منها.
كانت الولايات المتحدة قد استحدثت نظام «مديكيد» Medicaid في 1965، وهو نظام حكومي للتأمين الصحي مُوجَّه لذوي الدخل المحدود. ولكن هذا النظام لم يسمح، ولا يزال لا يسمح، بأن يبقى البالغون في مراكز العلاج النفسي التي تحوي أكثر من 16 سريرًا للمرضى. وهكذا، فمن توافرت لديه القدرة المالية لجأ إلى المراكز العلاجية الخاصة، أما الباقين فقد انتهى بهم الحال إمَّا في السجون وإمَّا مشردين في الشوارع، حتى صارت السجون، عمليًا، مستشفيات نفسية، على حد قول إنسل. وبالفعل، كان استطلاع للرأي عام 2014 قد وجد أن نسبة المصابين بالأمراض النفسية الحادة في السجون الأمريكية قرابة عشرة أضعاف مرضى المستشفيات النفسية التابعة للولايات (انظر: go.nature.com/3kccfca).
غير أن مشكلة ضعف الاستثمار في منظومة الرعاية الطبية في مجال الأمراض النفسية لا تقتصر على الولايات المتحدة فقط، ناهيك بأن دولًا عديدة أخرجت المرضى من المصحات النفسية بمجرد توافر العقاقير، ومع ذلك، فإن ثقافة توفير الدولة الرعاية الاجتماعية لا تزال أقوى لدى أغلب الدول الديمقراطية الغنية، مقارنة بالولايات المتحدة.
يدعو إنسل لاستحداث توجّهات رعاية موسعة ومتكاملة، تتضمن توفير فِرَق من الأطباء والمعالجين النفسيين وممرضي الرعاية الطبية الأولية والاختصاصيين الاجتماعيين؛ فإعانة شخص على اجتياز أزمة نفسية لن يرفع بالضرورة فرص تحسن صحته النفسية مستقبلًا، لكن هذا الشخص يحتاج إلى الدعم والمساعدة على تلقي العقاقير بانتظام، والاعتناء بصحته بوجه عام، وإرجاع أمور حياته لمُجرياتها قبل الأزمة.
ويذكر إنسل أمثلة لبرامج صحية تلبي كثيرًا مما يدعو إليه، بعضها من دول أخرى (كالمملكة المتحدة)، وبعضها من الولايات المتحدة ذاتها. وفي هذا الصدد، يُثني إنسل، مثلًا، على مبادرة الرعاية المتكاملة المُقدَّمة من المعهد الوطني للصحة النفسية والموجَّهة لمن يمرّون بنوبات الذهان للمرة الأولى، ويتعاون فيها اختصاصيون على توفير برنامج رعاية مُصمَّم لتلبية احتياجات كل مريض على حدة، بما في ذلك تقديم العلاج النفسي وتنظيم تناول العقاقير، وتوجيه أسرة المريض ودعمهم، وكذلك تقديم الدعم للمريض في عمله أو تعليمه. ويجري حاليًا تعميم تلك المبادرة في أنحاء الولايات المتحدة بعد نتائج أوَّلية واعدة.
ثم إنه لا غنى عن رفع جودة الرعاية الطبية أيضًا. صحيحٌ أن أغلب الأطباء النفسيين تلقوا تدريبًا علميًا كافيًا، لكن برامج الطب النفسي والماجستير للاختصاصيين الاجتماعيين التي تدرّب طلابها على علاجات قائمة على الدراسات العلمية لا تزال أقل من %40. وتقول إحصائيات إن 18% فقط من الأطباء النفسيين، و11% من المُعالجين النفسيين من غير الأطباء، مَن يستخدمون مقاييس تصنيف الأعراض النفسية وترتيبها لرصد مدى تحسّن المرضى.
لا شك في أنه بإمكان النخبة السياسية الأمريكية، بل ومن واجبها، أن تغيّر الظروف الصعبة للمصابين بالأمراض النفسية، ولكن توفير موارد أفضل للرعاية الطبية لهؤلاء لا ينبغي أن يأتي على حساب الاستثمارات القوية من الحكومة الأمريكية في الأبحاث البحتة بعلوم الأعصاب. ومن المبادرات في هذا المسعى الأخير مبادرة «برين» BRAIN (التي يرمز اسمها إلى الأحرف الأولى من عنوان المبادرة بالإنجليزية ومعناه «دعم بحوث الدماغ بتطوير الابتكارات في تكنولوجيا علوم الأعصاب»)، المرصود لها تمويل مُقدر بنحو 6.6 مليار دولار بين عامي 2017 و2027. هذا القدر من الاستثمار يفوق كثيرًا تمويل برامج مماثلة في دول أخرى.
نحن في حاجة إلى مثل هذا السخاء في الموارد، إذ لن نستطيع أن نحسّن من الكفاءة المتفاوتة للعلاجات الحالية إلا بفهم أكمل للدماغ، وهو ما يستغرق زمنًا. يستعرض إنسل هذه النقطة دون الخوض في التفاصيل، وهو أمر منطقي، فإنسل في نهاية المطاف لم يتعرَّض خلال مشواره المهني إلا للأبحاث البحتة، والكتاب الذي بين أيدينا يعكس تحولًا مهمًا في منظوره فيما يخص أوجه القصور التي تعتري مثل هذه الأبحاث في مواجهة التمييز العنصري، وعدم المساواة ، وسوء ظروف السكن، وفقر التعليم، وتهشم المجتمعات المحلية.