ماذا حدث لشركة بوينج؟

بروجيكت سنديكيت

2024-03-12 04:08

بقلم: آشلي فولمر، ميشيل جلفاند

بالو ألتو ــ بدأت الأزمات المتصاعدة التي تواجه شركة بوينج (Boeing) تشبه أحد أفلام الطيران المثيرة من إنتاج هوليود. فبالإضافة إلى سقوط قطعة من بدن الطائرة في الجو أثناء رحلة ركاب تجارية مؤخرا، فوجئنا باكتشاف مخيف حول ثقوب حُـفِـرَت في غير محلها في طائرات لم تُـسَـلَّـم بعد، والكشف عن عثور أحد المفتشين على "كمية مفرطة من العيوب" في عمليات أحد الموردين.

وإذا لم تكن هذه المشكلات سيئة بما فيه الكفاية، فقد قدمت إدارة الطيران الفيدرالية في أواخر فبراير/شباط مراجعة لاذعة لثقافة شركة بوينج الشركاتية وَدَعَـتها إلى تنفيذ أكثر من خمسين تغييرا متعلقا بالسلامة. وأُمـهِـلَـت شركة بوينج تسعين يوما لوضع خطة للتغلب على مشكلات عميقة تتعلق بمراقبة الجودة.

اعترفت شركة بوينج بالمسؤولية، والتزمت بإبطاء وتيرة التصنيع المتهورة، ووعدت بتحسين أدائها. وقد التقى رئيسها التنفيذي، ديف كالهون، بأعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي؛ ونظمت مصانع بوينج فعاليات "التوقف" على مدار اليوم لوقف الإنتاج والتركيز على مراقبة الجودة؛ وكانت أحدث مناقشة لأرباح الشركة تدور حول السلامة والجودة والثقة. ولكن لكي يتسنى لها التعامل مع كل هذه القضايا، تحتاج شركة بوينج إلى تغيير ثقافتها التنظيمية.

أو بشكل أكثر تحديدا، تحتاج إلى إحكام خيوط ثقافة أصبحت شديدة التراخي. وكما يُـظـهِـر بحثنا، فإن كل منظمة، أو الوحدات التي تحتويها، يمكن تصنيفها على أنها مُـحـكَـمة أو مُـتَـراخية. في المنظمات التي تتسم بثقافات مُـحـكَـمة، يتبع الأشخاص والممارسات والقيادة عادة نمطا يخلق النظام من خلال التنسيق، والكفاءة، والانضباط الذاتي. وتكون الممارسات موحدة ورسمية ومنقولة بعناية، ويركز الموظفون على اتباع القواعد ومنع الأخطاء. تَـعـرِض مثل هذه المنظمات عادة شكلا تراتبيا أشبه بالهرم، حيث يكون اتخاذ القرار مركزيا على النحو الذي يمنح القيادات العليا التحكم والسيطرة. ويخلق هذا بيئة منظمة بإحكام حيث يتحقق التميز التنظيمي من خلال العمل المنضبط.

في المقابل، تركز الثقافات المتراخية على الانفتاح، من خلال اعتناق المدى، وإظهار التسامح، وتعزيز الإبداع. وتميل الممارسات في هذه البيئات إلى كونها أقل توحيدا، مما يسمح بقدر أعظم من المرونة، والطابع غير الرسمي، والتجريب. ويُـشَـجَّـع الموظفون على خوض المجازفات والتفكير خارج الصندوق. تتسم المنظمات التي تتمتع بثقافات متراخية عادة بهياكل أكثر استواء وأقل مركزية، حيث يتبنى القادة نهجا تعاونيا ويتحدون الوضع الراهن.

هذه الرموز الثقافية ليست عشوائية. وهي تتطور لتناسب متطلبات الأنظمة البيئية التي تحتويها. تميل الصناعات التي تتمتع بدرجة عالية من المساءلة العامة أو حيث ربما تكون الأخطاء والإخفاقات كارثية، إلى الاتجاه نحو الإحكام. وتساعد القواعد الصارمة والمساءلة في مختلف قطاعات النظام في حمل الأشخاص على التنسيق في مواجهة التهديدات. أما الصناعات التي تواجه تهديدات أقل وأخف حِـدّة وخطورة فيمكنها أن تتحمل قدرا أعظم من المرونة.

عادة، تصبح المنظمات متوافقة بشكل طبيعي مع المستويات المطلوبة من الإحكام أو المرونة التي تتطلبها بيئاتها. لكنها في بعض الحالات، من الممكن أن تصبح غير متسقة، مما يؤدي إلى ما نسميه انعدام التطابق الثقافي. وقد تصبح صارمة بإفراط، فتخنق الإبداع ــ كما حدث قبل سنوات في شركة United Airlines. أو قد تصبح أشد تساهلا مما ينبغي، فيقودها هذا إلى انعدام الكفاءة أو مخاطر تامة ــ كما حدث في شركة Tesla.

تحتاج شركة بوينج إلى محور ثقافي. وفي حين يشترك محيطها التشغيلي في كثير من أوجه التشابه مع صناعات أخرى عالية المخاطر، فقد انحرفت عن هذه البرمجة الثقافية وأصبحت شديدة التراخي. يتلخص أحد الأسباب في إعطاء الأولوية للربح على حساب الهندسة على نحو متزايد. في مناورة استراتيجية لتأمين الإعفاءات الضريبية، نقلت شركة بوينج مقرها الرئيسي من سياتل إلى شيكاغو، فتسبب هذا في خلق فجوة جغرافية تزيد عن 2000 ميل بين الإدارة العليا وعدد كبير من المهندسين والموظفين. ثم، في عام 2022، أعلنت عن انتقال آخر إلى أرلينجتون بولاية فيرجينيا. يعيق هذا الفصل المادي التواصل الفعال ويحد من القدرة على مراقبة القواعد وتنفيذها، مما يزيد من صعوبة تحقيق توافق متماسك في مختلف قطاعات الشركة.

امتد غياب المساءلة أيضا إلى الموردين. فلتعزيز أرباحها، استعانت شركة بوينج بمصادر خارجية تتألف من مجموعة واسعة من مقاولي الباطن لتصنيع قسم كبير من إنتاجها. ومرة أخرى، يعمل هذا التحول نحو شبكة لا مركزية أكثر توسعية على تعزيز التراخي والانفلات ويزيد من صعوبة مراقبة وإنفاذ القواعد.

كما ساهمت الاضطرابات داخل شركة بوينج في انفلاتها الثقافي. فبفضل التغييرات المتكررة في القيادة ــ تناوب خمسة رؤساء تنفيذيون على الشركة على مدار العقدين الماضيين ــ بات من الصعب الحفاظ على رقابة مُـحـكَـمة. الواقع أن دوران القيادة المستمر يعني أن معظم الاهتمام من القمة يركز على الإصلاحات السريعة القصيرة الأجل وليس على الأهداف الاستراتيجية الأطول أمدا ــ كما رأينا في حالة تحديث البرمجيات بعد تحطم طائرة Lion Air في عام 2018.

على نحو مماثل، تدهور الطابع الاجتماعي القوي الذي يميز عادة المنظمات الـمُـحـكَـمة. يَـجِـد تقرير إدارة الطيران الفيدرالية أن الإجراءات ومناهج التدريب "معقدة وفي حالة مستمرة من التغيير، مما يخلق نوعا من الارتباك بين الموظفين، وخاصة بين مواقع العمل ومجموعات الموظفين المختلفة". قد لا يُـفـضـي الحفاظ على التماسك الثقافي والالتزام بالقيم الأساسية إلى تحقيق أرباح على نحو فوري أو مباشر، لكنه ضروري وغير قابل للتفاوض لضمان العمليات السليمة.

الخبر السار هنا هو أن المنظمات قادرة على تغيير ثقافتها وإعادة معايرتها عندما تصبح غير متوافقة. ونحن ننصح شركة بوينج بتوظيف قدر أكبر من المساءلة في ثقافتها الـمُـفرِطة التساهل من خلال اعتماد نموذجنا SECURE. يرمز هذا الاختصار إلى: تحديد توقعات واضحة، وإنشاء هيكل سليم، وإضفاء الطابع المركزي على عملية صنع القرار، ودعم الإشراف من خلال زيادة المراقبة والرصد، وضمان فرض القواعد.

يتعين على شركة بوينج أن تعمل على نشر القيمة الأساسية المتمثلة في السلامة ليس فقط في مختلف قطاعات الشركة، بل وأيضا بين جميع الشركاء الخارجيين. ومن الأهمية بمكان الحفاظ على ثقافة محكمة من خلال التنسيق الوثيق بين الجميع بدءا من القيادة العليا إلى أرض المصنع.

يجب على الشركة أيضا أن توضح أن العمال الذين يلفتون النظر إلى مخاوف بشأن انتهاك معايير السلامة سيكافَـؤون. الواقع أن أحد الأقسام الأكثر إثارة للقلق في تقرير إدارة الطيران الفيدرالية كان اكتشافها أن العمال الذين يلفتون النظر إلى مخاوف تتعلق بالسلامة يتعرضون للانتقام. تُـنـبـئـنا مثل هذه العقوبات بالكثير عن انحلال وضعف ثقافة السلامة في الشركة، التي أصبحت تقدر على نحو متزايد الصمت والإنتاج المتسارع على حساب السلامة.

بينما تتصارع شركة بوينج مع هذه التحديات، يتعين عليها أن تعيد ضبط بوصلتها الثقافية. تُـعَـد المساءلة، والاستقرار، والالتزام بالسلامة من القيم الأساسية الضرورية لإعادة بناء الثقة، وتعزيز تدابير السلامة، ودعم التميز التنظيمي في صناعة الطيران. أما المسار الحالي الذي تسلكه شركة بوينج فسوف يقودها حتما إلى الانحدار التنظيمي والتراجع التنافسي.

* آشلي فولمر، باحث أمريكي في برنامج فولبرايت، وأستاذ مساعد في الإدارة في كلية روبنسون للأعمال في جامعة ولاية جورجيا.

ميشيل جلفاند هي أستاذة الإدارة عبر الثقافات وعلم النفس في كلية الدراسات العليا في إدارة الأعمال بجامعة ستانفورد.

https://www.project-syndicate.org/

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي