المؤسسات الخيرية في الظروف الاستثنائية
العراق في مواجهة وباء كورونا نموذجا
جميل عودة ابراهيم
2020-07-14 04:55
لا يخلو مجتمع إنساني في مكان ما من وجود أفراد أو جماعات تعمل مستقلة أو بالتنسيق مع السلطات الحاكمة لتقديم خدمة مجتمعية ما، فهناك اتفاق عام أن السلطات مما كانت مقتدرة لا يمكنها لوحدها أن تتكفل بكل حاجات المجتمعات ومتطلباتها دون الاعتماد على المبادرات التي يطلقها المواطنون العاديون، سواء في الظروف العادية أم في الظروف الاستثنائية.
لذلك أضحى وجود التنظيمات المجتمعية التطوعية إحدى أهم سمات الدول المتقدمة، فضلا عن الدول المتأخرة. فبالإضافة إلى الدوافع الدينية والعرقية والمهنية والإنسانية التي تحث أفراد تلك التنظيمات على تقديم خدماتها لعموم أفراد المجتمع أو لإفراد معينين على وجد التحديد، فان الحاجات الملحة لبعض فئات المجتمع، والحروب والنزاعات وما تركته من آثار خطيرة تمس حياة الناس وقوتهم وصحتهم هي الأخرى كان لها الأثر الكبير في تأليف العديد من المؤسسات الخيرية أو المنظمات الإنسانية.
يٌطلق مفهوم الجمعيات الخيرية على المنظمات التي لا تسعى إلى تحقيق الأرباح والكسب، ويكون الهدف من وجودها تقديم العون والمساعدات للمحتاجين، ودعم الحالات الإنسانية والفئات الخاصة من المجتمع التي تحتاج إلى الرعاية الخاصة. وعادة ما تكون المؤسسات الخيرية متعددة المسميات، حسب طبيعة عمل الأفراد وقوانين الدول التي تؤسس فيها، فتارة تٌعرف بالجمعيات الخيرية، أو الجمعيات ذات النفع العام، أو الجمعيات التطوعية، أو المنظمات غير الحكومية، أو منظمات المجتمع المدني، أو القطاع الثالث، أو القطاع غير الربحي، أو القطاع غير الحكومية وغيرها.
وكذلك تختلف مهماتها وواجباتها وتخصصاتها، فبعضها يعنى بتقديم المساعدات المالية أو العينة لمحدودي الدخل والفقراء والمعوذين، والمرضى والمعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة، وبعضها يعنى ببناء المراكز الصحية والمستسقيات الخيرية، أو المدارس والجامعات، أو الأسواق والتعاونيات الخيرية، وبعضها يعنى بقضايا حقوق الإنسان، وحقوق الضحايا، أو حقوق السجناء وغيرها. وتطور الأمر في كثير من البلدان إلى تأسيس منظمات تطوعية على شكل مراكز دراسات وبحوث تعنى برسم السياسات العامة للبلد، أو دعم القطاعات الزراعية والصناعية، وتنمية قدرات الأفراد ومهاراتهم في تأسيس المشروعات التنموية المختلفة.
ولما كانت ظاهرة تأسيس المنظمات التطوعية تحتاج إلى تشريعات قانونية تنظم نشاطاتها وفعاليات أعضاءها، بالإضافة إلى تنظيم علاقاتها مع المجتمعات والسلطات المحلية، فقد عملت العديد من الدول إلى سن عدد من التشريعات التي تنظيم عمل هذه المؤسسات الخيرية التطوعية على مختلف مسمياتها بما فيها طرق تمويلها. بل بعض الدول سن أكثر من قانون لها مثل العراق فهناك قوانين للنقابات المهنية، وهناك قانون المنظمات غير الحكومية بما فيها الجمعيات الخيرية وذات النفع العام، وتختلف بنود وتفاصيل هذه القوانين من بلد إلى آخر على وفق مجموعة من الاعتبارات والخصوصيات لكل بلد.
يمكن القول إن الجمعيات الخيرية التطوعية في العراق، لاسيما المنظمات الدينية على وجه التحديد كان لها دور مميز في مواجهة وباء كورونا ومازالت تعمل بطريقة وأخرى لسد الفجوات التي لم تلتفت لها المؤسسات الحكومية القطاعية أو كان دورها محدود بالنظر لعدم قدرتها على تغطية حاجات العديد من الفئات المجتمعية التي تضررت بسبب الحظر الكلي الذي استمر لأشهر أو بسبب الحظر الجزئي المستمر، كون ان الآثار التي أفرزتها تلك الظروف لامست حقوق الكثير من الفئات المستضعفة كحقوق كبار السن؛ والأشخاص ذوي الإعاقة؛ واللاجئين؛ والنساء والأطفال؛ والعمالة اليومية؛ وأصحاب المحلات والمشروعات الصغيرة؛ وسائقي سيارات الأجرة وغيرهم الكثير.
في الواقع لم يقتصر دور هذه الجمعيات الخيرية والمنظمات التطوعية العراقية على توفير السلة الغذائية لمئات الآلاف من المواطنين الذين اضطرتهم إجراءات الدولة بسبب جائحة كورونا إلى ملازمة البيت لفترات طويلة، بل عملت العديد منها على توفير الدواء والعلاجات المؤقتة للمرضى ومرضى الأمراض المزمنة الذين كانوا يحتاجون في العادة إلى مراجعة المؤسسات الصحية بين الحين والحين. كما قامت هذه المنظمات بحملات توعية وتثقيفية وإجرائية للمجتمعات المحلية بقصد التزام المنزل وتفعيل إجراءات الوقاية.
ولعبت العتبات الدينية لاسيما الحسينية والعباسية والعلوية ورئاسة المراقد الدينية الأخرى بالإضافة إلى الأوقاف الحكومية دورا متميزا في الحد من انتشار هذا الوباء والسيطرة عليها، ولعل أهم ما يُذكر هنا هو قيام هذه العتبات ببناء العديد من المراكز الصحية الاستثنائية وتجهيزها بالمواد الطبيعة والعلاجية بهدف دعم المؤسسات الصحة الحكومية على تلبية الحاجات الصحية المتزايدة بسبب كثرة الإصابات، بالإضافة إلى تخصيص بعض مراكزها الصحية ومستشفياتها لهذا الغرض. ليس هذا وحسب بل عملت العتبات العلوية على تأليف فريق كبير من أبناءها المنضوين تحت راية الحشد الشعبي للقيام بمهمات دفن ضحايا هذا الوباء في مقابر خاصة، وإجراء مراسم الدفن الطبيعية إلى حد ما بعد أن عجزت وزارة الصحة من القيام بهذه المهمة الخطرة كون جثث الضحايا يمكن أن تكون مصدرا لنقل هذا الوباء.
واللافت للنظر أن أعمال الخير في ظل وباء كورونا لم تقتصر على الجمعيات الخيرية التطوعية، ولا على التجار والميسورين من أصحاب القطاع الخاص، والتي تجسدت على صورة مساعدات غذائية؛ ومالية؛ وصحية، وإعفاءات شهرية للمستأجرين الذين عجزوا عن دفع أجور مساكنهم، أو محلاتهم التجارية، بل تعدت إلى الأسر والمنطقة والعشيرة في تجسيد صورة أروع ما يمكن من التكافل الاجتماعية المبني على أساس العقيدة الدينية والأعراف الاجتماعية. وكان للشباب الذين لم ينضووا بعد في منظمة خيرية دور مهم في دعم وإسناد العديد من الأسر المحتاجة، كان آخرها توفير قناني الأوكسجين للمئات من المرضى، سواء في المستشفيات أو الذين التزموا الحجر المنزلي.
وفي الوقت الذي سجلت فيه المنظمات الخيرية لاسيما الدينية منها، والشباب المتطوعون على شكل مجموعات محلية موقفا سيظل عالقا في أذهان المجتمعات المحلية، وفي أذهان بعض المسؤولين الحكوميين ممن تعاملوا مع هذه المنظمات في مواجهة هذه الأزمة كفريق إدارة الأزمات في الأمانة العامة لمجلس الوزراء وخلية الأزمة في المحافظات، لكونها ساعدت على الحد من الأزمة الوبائية، فإن من الضروري أن نذكر أن العديد من النقابات المهنية والمنظمات غير الحكومية المسجلة رسميا لم تتمكن من القيام بواجباتها المحددة في قوانينها أو أنظمتها الداخلية، ولم تكن بمستوى الأزمة وظلت تتفرج على أعضاءها عاجزة عن تقديم ما يدفع عنهم بعض البلاء. ناهيك عن بعض المؤسسات الحكومية أو المؤسسات المتعاقدة مع المؤسسات الحكومية التي استمرت في جباية الضرائب والرسوم وأجور الخدمات رغم فداحة هذه الأزمة وديمومتها.
ومن خلال ما تقدم، نرى أن يكون هناك تقييم حقيقي للعمل الطوعي في العراق، وأن تكون هناك مراجعة حقيقية تهدف إلى التمييز بين المنظمات غير الحكومية العاملة والمنظمات غير العاملة، وأن يكون هناك دعم أكبر للمنظمات الدينية والمجموعات الشبابية التي أظهرت إبداعا وتميزا لمواجهة وباء كورونا، كل حسب قدرته ومكنته، وذلك من خلال ما يأتي:
1. الثقافة التطوعية: رغم أن هناك إحساس بالمسؤولية ينبع من العقيدة الدينية والأعراف الاجتماعية لدى مجتمعنا العراقي، ولكن من المهم جدا أن تعمل الحكومة الوطنية والحكومات المحلية على وضع سياسات حكومية تهدف إلى تشجيع العمل التطوعي لاسيما في أوساط الشباب وكبار السن والمتقاعدين على وجه التحديد، كونهم إما يمتلكون طاقات كبيرة مثل الشباب، أو يمتلكون خبرات وتجارب مفيدة مثل المتقاعدين، فالعمل على توظيف هذه الطاقات وهذه الخبرات هي مسؤولية الحكومات المحلية.
2. التمييز بين المنظمات العاملة وغير العاملة: لابد من مراجعة لكل النقابات والاتحادات المهنية التي ظلت عاجزة عن حماية أعضاءها مع تفشي هذه الازمة، بل ظلت تفرض رسوما وأجورا من أجل تأييد أو هوية أو خدمة تقدمها. كذلك لابد من مراجعة للمنظمات غير الحكومية المسجلة في دائرة المنظمات غير الحكومية والتي لم تتمكن من القيام بفعاليات ونشاطات ترجع بالفائدة على أعضاءها، فمثل هذه المنظمات ينبغي أن تشطب من السجل المنظمات غير الحكومية.
3. إطلاع المجتمعات المحلية على أداء المنظمات الإنسانية الدولية: تعمل العديد من المنظمات الإنسانية الدولية الحكومية وغير الحكومية في العراق، وهي ينبغي أن تؤدي دورها في مواجهة هذا الوباء، فربما يكون بعض المنظمات قد تمكن من وضع خطة طوارئ لها في هذه الأزمة، وربما ظلت بعض المنظمات تغرد خارجها، بل بعض المنظمات ظلت بطريقة أو بأخرى تعمل على تأزيم الوضع الاجتماعي من خلال تهويل الوضع الصحي. من المؤسف حقا أنه لا يوجد في العراق من يتابع عمل هذه المنظمات على المستوى الوطني ولا على المستوى المحلي، وظلت وزارة الخارجية تتعامل مع الموضوع على أساس التراخيص فقط. بينما اكتفى بعض المحافظين بتعيين مستشارا لهم بهذا الشأن، ومعروف أن مستشارين المحافظين لا يقدمون ولا يؤخرون (مجمدين).
4. تكريم المنظمات الدينية والشباب المتطوعين: يتعين على الحكومة الوطنية والحكومات المحلية أن تعمل على تكريم بعض الجمعيات والمنظمات والشباب المتطوعين ممن أثروا إلى حد ما في الحد من هذه الأزمة وفي التقليل من آثارها. والتكريم ليعني فقط إقامة حفل تكريم لهم فقط، ونشر ذلك في وسائل الإعلام، بل يعني إيجاد طريقة ما في دعم هذه المنظمات وهؤلاء الشباب بما تمتلكه هذه الحكومات من سلطات وأموال وقرارات وإجراءات تسهيل، فليس هناك أحد أحق بالتكريم كهؤلاء الذين وقفوا معنا في أزمتنا، ومدوا لنا يد العون، حينما كنا أحوج ما نكون إليها.