بالونات قياس وتوجيه الرأي العام
شبكة النبأ
2025-09-28 06:16
بقلم: عبد الجليل الزبيدي
مع التقدم الهائل في تقنيات وسائل الاتصال والقفزات السريعة في تكنولوجيات المعلومات، وأهمية هذا التقدم في التثقيف والتوعية وتنمية المجتمعات، يتعين بالمقابل تحديد مديات استخدام هذه الأدوات في عمليات سلبية وغير أخلاقية وتآمرية ترقى إلى مستوى تهديد الأمن القومي وهدم كيان الدولة، مع مراعاة محاذير المساس بالحريات في المجتمعات الديمقراطية.
ومسؤولية أجهزة الاستخبارات المتطورة والمحترفة في الدول الديمقراطية هي حماية عقل المتلقي مع مراعاة حقوق الفرد في الاطلاع وحرية إبداء الرأي.
إن متلازمة الأمن والإعلام، أضحت من التعقيد والحرفية بحيث يصعب معرفة ما هو إعلامي وتثقيفي وما هو استخباري. وتخوض أجهزة الاستخبارات في العديد من الدول معارك ضروس في قلب العملية الإعلامية وباتجاهين:
اتجاه (دفاعي): وذلك عبر مراقبة ودراسة وتحليل المحتوى الإعلامي.
اتجاه (هجومي): من خلال استغلال وسائل الاتصال للتأثير على المتلقي، سواء كان المتلقي محليًا أم خارجيًا، عبر عمليات كبيرة طابعها إعلامي ولكن غاياتها استخبارية صرفة، مُستغلة تطور الأدوات التقنية ولاسيما برامج وتطبيقات التواصل والتراسل عبر السوشيال ميديا.
وتهتم الدول والحكومات بتحليل مضمون وسائل الإعلام، وبالأخص الرسائل ذات المضمون المبطن بالأيديولوجيات والأفكار لتحديد ما إذا كانت الرسالة ذات: نزعة ثورية، تحريضية، تغييرية، تخريبية، تآمرية. ولذلك تنشئ الحكومات دوائر وأجهزة سرية خاصة مهمتها رصد وتحليل مضمون ما يُنشر ويُبث عبر وسائل التواصل.
- في عهد النظام السابق أسس جهاز المخابرات عام 1985 مديرية البحوث الاجتماعية والنفسية، وكانت مهمتها رصد حركة الشائعة والدعاية والمعلومات عبر أدوات بسيطة مثل شبكة المتسولين وباعة البسطيات وسائقي التاكسي و...
- في السبعينيات من القرن الماضي أنشأت وكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA) قسمًا يتابع ويحلل من حيث الكم والمضمون ما تبثه محطات التلفزة والإذاعات والصحف في الدول التي تهتم بشؤونها الولايات المتحدة. إذ علمت أمريكا بالانقلاب السلمي في الصين والإطاحة بـ ماو تسي تونغ قبل أن تعلن بكين عنه!
- في إيران وفي عهد الشاه كان جهاز الساڤاك يراقب بالتفصيل الصحافة العربية. إذ يقول حسين فردوست المحلل السابق في جهاز الساڤاك: إن كمية المعلومات المستقاة من وسائل الإعلام كانت كافية لمعرفة ما يدور في غرف نوم حكام دول الخليج. بعد انتصار الثورة الإسلامية، احتفظ الثوار بـ حسين فردوست وعُين باحثًا في جهاز الاطلاعات، واستطاع عام 1981 كشف محاولة انقلابية غربية للإطاحة بنظام العقيد القذافي من خلال الاستماع إلى نشرات الأخبار في الإذاعات الأوروبية.
وعن التداخل ما بين ما هو أمني وما هو إعلامي، يقول إيهود باراك بعد أن عينه مناحيم بيغن مديرًا لشعبة الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية: "كنت أقرأ صباحًا صحيفة نيويورك تايمز وأستمع إلى إذاعة البي بي سي، فأحصل على إحاطة حول اتجاهات الحكومات في الدول المحيطة بإسرائيل وأيضًا بتوجهات الدول الغربية".
اليوم دائرة الاهتمام بالخبر (من رؤية أمنية) باتت أوسع وأكثر تعقيدًا بحكم تعدد الوسائط والأساليب والتطورات في علم الحروب النفسية والاجتماعية. فالموجات الإعلامية التي تُبث وتُدار عبر المنصات الرقمية باتت أكثر علمية من حيث:
صناعة المضمون.
من حيث جودة التقنية.
من حيث التخطيط المرحلي والاستراتيجي.
وبتقديري أن العراق قد تحول إلى حقل تجارب في تجريب العمليات (الإعلامية ذات الأهداف الأمنية التكتيكية والاستراتيجية) للتأثير على توجهاته وميوله. إذ صار بإمكان أفراد ممولين ودول وأجهزة ومنظمات الخوض في ساحة السوشيال ميديا العراقية وإطلاق موجات (بالونية) للتأثير على المتلقي في مراحل وأحداث محددة ومخطط لها مسبقًا.
وعلى سبيل المثال، ومن خلال رصد ما يُبث خلال الأشهر الأربعة الماضية، يُلاحظ أن نسبة كبيرة من المحتوى المرسل عبر تطبيقات تيك توك وفيسبوك مضمونه يركز على:
التأثير سلبًا على القرار الرسمي.
الإبقاء على الأمراض المجتمعية والنفسية الفردية السلبية كاليأس والإحباط والاتكالية و...
منذ ثلاثة أشهر تحديدًا، أغلب وسائل الإعلام التلفزيونية والرقمية تروج (للتغيير القادم في العراق). واللافت هو أن شخصيات سياسية رسمية وشبه رسمية (تبرعت) بإطلاق تصريحات تتماشى مع هذا التوجه، الأمر الذي حوّله من شائعة إلى حقيقة مثبتة ومُدعمة بتصريحات هذا المسؤول وذاك. ولكن هذه الحملة يمكن دراستها من زاويتين:
أولًا: أنها لأغراض انتخابية وهدفها إرعاب الناخبين من جمهور الحزب أو الجماعة السياسية لدفعهم نحو التصويت لها، باعتبار أن (تلك الجهة السياسية هي الراعي والضامن للمذهب والطائفة الحاكمة).
ثانيًا: أنها عملية عدائية مركبة والغرض منها:
ترسيخ الإحباط الجماعي لدى المجتمع.
رسم هالة من الضبابية والغموض حول مدى الاستقرار السياسي والأمني.
تثبيط مسار الإعمار وعرقلة جذب الاستثمارات الخارجية وإعاقة فرص الاستثمار في الاقتصاد الوطني.
تعميق حالة عدم الثقة بالنظام السياسي الديمقراطي.
تشويه صورة وسمعة العراق الخارجية وترسيخ الانطباع الزائف منذ عام 2003 بأن العراق بلد غير آمن وغير مستقر وأسوأ بلد للعيش.
هذه الأهداف والغايات تؤثر سلبًا بمجملها على الأمن القومي العراقي وعلى مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وصولًا نحو هدم وتفكيك النظام السياسي وأخيرًا هدم أركان الدولة الدستورية.
إن المحتوى الإعلامي المخطط له بعلمية وحرفية من قبل جهاز استخباري أو منظمة معادية أو عبر شبكة إلكترونية مؤدلجة، يصبح من قوة التأثير ما يتفوق على تأثير أي نشاط أمني واستخباري معادٍ تقليدي على الأرض.
بالونات قياس الرأي العام
ما سبق، كان حول تحليل مضمون المحتوى الإعلامي في سياق عمل (دفاعي) لغرض تحديد ما يمس الأمن القومي ويهدد كيان الدولة. وخلال عملية التحليل يمكن للباحثين والمحللين في المراكز والدوائر المعنية بالرصد والمتابعة أن يكتشفوا عمليات إطلاق بالونات قياس واختبار عدائية هدفها (تحديد مديات التأثير في العقل الجمعي العراقي).
للتوضيح والتبسيط، دعونا نتخذ قضية الطبيبة بان زياد طارق نموذجًا للدراسة ونسأل: هل كانت الموجة الإعلامية الهائلة التي رافقت الحدث، هل كان المقصود معرفة الحقيقة والدفاع عن حقوق الطبيبة المنتحرة أو الضحية؟!
بغض النظر عما كانت الحقيقة، أعتقد أن (عملية بان) كانت واحدة من أهم التجارب التي تستحق الدراسة والتحليل، كونها عملية ناجحة وتحولت إلى بالون اختبار مثالي متكامل حول قدرة الإعلام الإلكتروني في إثارة الغرائز العاطفية ومن ثم إثارة العقل الجمعي، وصولًا نحو تشكيل رأي عام ضاغط ومحرك للشارع العراقي، وهذا هو المهم بالنسبة للجهة أو الجهات التي:
إما أثارت القضية بدوافع اجتماعية بريئة.
أو للجهة التي تدرسها باعتبارها تجربة إعلامية ونفسية يمكن تكرارها مستقبلاً لتحريك الشارع في اتجاه أمني أو سياسي أو تخريبي.
وبتصوري، أن خبراء صناعة الرأي العام يدرسون (عملية بان) كتجربة مهمة لمعرفة:
حدود ومستويات استجابة المتلقي العراقي لموجات الدعاية والشائعة.
معرفة مدى استجابة العراقي للصدمة التي يمكن أن يحدثها حادث فجائي.
مدى تأثر العراقي بالحدث المصحوب بمحاكاة الغرائز العاطفية وتأطيرها بإطار سياسي.
معرفة كيفية إطالة المدة الزمنية التي يواصل خلالها المتلقي التفاعل مع الشائعة، ومعرفة الزمن الذي تستغرقه عملية سباحة القصة في الفضاء المجازي.
تحديد فاعلية ونسب نجاح (المواد المصورة) وطرق إنتاجها وأشكالها الفنية التي أُنتجت وتم الترويج لها خلال عملية تعزيز وإدامة التفاعل مع القصة واستمرارها.
تحديد نسبة نجاح المواد المفبركة التي أُنتجت عبر برامج الذكاء الصناعي ونُشرت لتعزيز (أحقية) القضية، ومعرفة مدى تصديقها وانطلاقها على المتلقي.
إن الطرف الذي يحلل (عملية بان) يتوصل إلى النتائج التالية:
إمكانية النجاح في تحديد مدى سهولة تمرير قصص مقرونة بحوادث صادمة ومؤثرة عاطفيًا.
النجاح في فهم طبيعة التفاعل العاطفي وبالتالي التحكم بردود أفعال المتلقي العراقي.
النجاح في إطالة أمد تحرك القصة من خلال تغذية السوشيال ميديا بمنتجات متنوعة تعزز استمرار القصة وتحولها إلى قضية رأي عام.
الأهم هو أن المتلقي العراقي يصدق وينساق خلف كل قضية (يتطرف) وينحاز إليها عاطفيًا وجمعيًا.
الأخطر هو أن المتلقي العراقي (يتبرع) من ذاته طوعًا وينتج وينسج قصصًا ويبتكر معلومات إضافية تمنح الموضوع الأصلي أهمية وإثارة أكبر وأوسع، وذلك طبقًا لنظرية (كرة الثلج) باعتبارها من أدوات صناعة وتضخيم الشائعة المتدحرجة.
إن صناعة الرأي العام ترتكز على (العقل الجمعي)، والعقل الجمعي يلتئم ويتجمع بالصدمة الفجائية التي تقترن بالعاطفة وصولًا لدفع المتعاطفين نحو إحداث الانفجار.
وهنا نشير إلى نماذج للشائعة العاطفية المؤطرة بإطار سياسي والتي تصدم العقل الجمعي وحشده في اتجاه رأي عام متفجر:
فالثورة الفرنسية اندلعت بعد شائعة اعتقال المفكرين في سجن الباستيل. ولكن بعد 200 عام، وبعد العثور على سجل السجناء آنذاك، تبين أنه لم يكن أيٌّ من المثقفين في سجن الباستيل!!
الثورة الرومانية التي أطاحت بنظام تشاوشيسكو. اندلعت بعد شائعة (مقتل متظاهرين في بلدة تيميشوارا جنوب رومانيا). وتبين لاحقًا أن الصور التي انتشرت للقتلى في تيميشوارا هي لجثث متوفين سُرقت من مشرحة مستشفى المدينة وأُلقيت في الطرقات حيث جرى تصويرها وبُثت عبر CNN.