عندما يصبح اللاعب مؤلفًا دون أن يدري
أحمد الشطري
2025-07-13 03:11
يشهد فن سرد القصص في ألعاب الفيديو تطورًا مذهلا، حيث لم يعد اللاعب مجرد متلقٍ للأحداث، بل أصبح عنصرًا فاعلا في توليدها. غير أن هذا التفاعل لا يعني دائما أن اللاعب مؤلف حرّ بالكامل. هنا يظهر مفهوم "التراكب السردي"، بوصفه بنية سردية معقدة تتيح تعددا في المسارات والنتائج، دون أن تخل بتماسك الخط السردي العام.
التراكب السردي هو إحدى سمات السرد التفاعلي المتقدم، حيث تُصاغ الحبكة بطريقة تجعل كل مسار يختاره اللاعب جزءًا من نسيج أوسع، يشمل في داخله جميع المسارات الأخرى الممكنة، حتى وإن لم تُفعَّل. بهذا المعنى، تصبح التجربة السردية فريدة لكل لاعب، ولكنها تنتمي دائمًا إلى بنية واحدة متعددة الاحتمالات.
ينحدر مصطلح "التراكب" (Superposition) من فيزياء الكم، وما عرف بـ(مبدأ الريبة لهايزنبرغ)، والذي يرى أن الجسيم لا يمكن تحديد موقعه وسرعته معًا بدقة، وأن الذرة، التي هي أصغر وحدة في المادة، لا "تختار" وضعها إلا عند الرصد، وتأسيسا على ذلك يأتي التراكب في السرد التفاعلي ليشير إلى حالة يكون فيها النص مفتوحًا على احتمالات متعددة، كلها كامنة في بنيته، ولا تُفعَّل إلا باختيارات اللاعب. غير أن هذه الاحتمالات، وإن بدت مفتوحة، تُدار ضمن بنية سردية محكمة تُخفي حدودها خلف وهم الاختيار المطلق.
وهذا ما يشكل تقاطعا للنص السردي مع مفاهيم الفوضى والاحتمال واللايقين، فالنص- في هذا المسار- لم يعد مغلقًا أو خطيًا، بل أصبح فضاءً تأويليًا متعدد الوجوه. كل خيار يتخذه اللاعب يُرَجِّحُ فرعًا دون آخر، لكن بقية الفروع تظل قائمة كاحتمالات سردية غير مفعّلة، على غرار الحالات الكمّية التي لم يتم رصدها بعد.
ولكي يتحقق التراكب السردي، لا بد من شرطين رئيسين:
أولًا: أن يشعر اللاعب بقدر كبير من الوكالة السردية، أي أن له أثرًا حقيقيًا على مجريات السرد. هذا الشعور ضروري لإشراك اللاعب نفسيًا ومعنويًا في التجربة.
ثانيًا: أن تكون هذه الوكالة محدودة واقعيًا ضمن تصميم محكم، بحيث لا تؤدي إلى انهيار البناء السردي أو فشله. الحدود هنا ليست قمعًا، بل وسيلة لضمان إنتاج سرد ذي معنى.
التراكب السردي هو إذًا نوع من التوازن بين الحرية والتقييد، بين الوهم والتحكم الخفي. السرد لا يُمنَح بالكامل، ولا يُسلب بالكامل، بل يُوزَّع كاحتمالات قابلة للتفعيل. وهذا ما يميّزه عن الألعاب ذات البنية المفتوحة أو تلك التي تقدم روايات خطية مقنّعة.
وتمثل لعبة Disco Elysium أحد أكثر النماذج نضجًا في تطبيق التراكب السردي. حيث اللاعب لا يبتكر قصته من العدم، بل يستخرج خيوطًا سردية كامنة في نص فائق التعقيد. ينطوي على خيارات تفتح مسارات معينة، لكنّ اللاعب فيها لا يخلق السرد من العدم، بل يستخرج أحد مساراته الممكنة. وهكذا، فإن التجربة السردية الناتجة هي نتيجة "تراكب" مسارات سردية عدة ممكنة التحقق.
تُخفي اللعبة هذا التراكب خلف واجهات لَعِب ذكية ونظام حواري يتكاثر تلقائيًا وفق سمات الشخصية، مما يمنح اللاعب شعورًا فريدًا بأن اختياراته تشكل السرد لحظة بلحظة. لكن هذا التشكيل ليس حرًا بالكامل، بل مُصمم مسبقًا ضمن معمار سردي متعدد المستويات.
هنا، يصبح التفاعل ذاته أداة سردية، ويتحوّل الشعور بالتحكم إلى عنصر من عناصر الحبكة. لا يمكن للاعب أن يُفشل السرد أو يخرج عنه، لأن كل احتمالاته قد صيغت مسبقًا، ولكن بذكاء يسمح بتوليد شعور أصيل بالاختيار والتأثير.
على الجانب الآخر، هناك ألعاب تمنح اللاعب حرية شبه مطلقة في صياغة السرد، مثل The Sims أو Skyrim. هذه الألعاب تُنتج ما يُعرف بـ(قصص اللاعب) (Player Stories)، وهي قصص ذات طابع ذاتي، لكنها تفتقر إلى التماسك البنيوي أو الاتساق الدلالي، مما يجعل التراكب السردي مستحيلًا، و قابلا للفشل.
بالمقابل، هناك ألعاب تعتمد مسارات سردية مغلقة (مثل الروايات البصرية أو بعض ألعاب Telltale)، حيث تكون الخيارات سطحية أو نتائجها محددة سلفًا بوضوح، مما يؤدي إلى كسر وهم الوكالة السردية، وتحوّل اللعبة إلى بنية سردية تفاعلية تفتقر إلى العمق التعددي.
ومن ثم، فإن التراكب لا يتحقق إلا عندما تندمج الحرية الظاهرة بالتقييد الخفي، في معمار محكم يقدّم شعورًا بالاحتمال دون فوضى، وبالتعدد دون تفكك.
وفي ضوء ما تقدم يمكن لنا ومن وجهة نظر نقدية أن نطرح سؤالا: هل يمكن للاعب أن يكون مؤلفًا دون أن يعي الحدود، التي صاغها له المصمم؟ وهل تحوّل الوكالة السردية إلى وهم خلاق يُقوّي التجربة الجمالية أم يُفرغها من حرية المعنى؟
بالمفهوم التقليدي، يتناقض التراكب السردي مع حرية الإبداع الفردي. لكن من منظور نقدي احتمالي، فإن هذا المفهوم يعيد صياغة العلاقة بين القارئ والنص، بين اللاعب والسرد. بدلًا من أن يكون اللاعب مبدعًا فرديًا، يصبح "مفَعِّلًا سرديًا" (Narrative Enabler)، يعمل ضمن شبكة من الاحتمالات المصممة مسبقًا، لكنه يخلق تجربته الفريدة ضمن هذا الإطار.
وهذا ما يجعل التراكب السردي ليس مجرد تقنية تصميم، بل مقولة جمالية وفلسفية تُعيد النظر في مفاهيم مثل: المؤلف، الحرية، البناء، الاحتمال، واللايقين.
وفي هذا المسار يصبح مفهوم التراكب السردي أفقًا خصبًا لتحليل السرديات التفاعلية، ليس في ألعاب الفيديو فقط، بل في كل خطاب سردي يتعامل مع اللايقين والتعدد والاحتمال. ويمكن لهذا المفهوم أن يسهم في تطوير نظرية نقدية جديدة تعيد التفكير في علاقة المؤلف بالنص، واللاعب بالحكاية، والقارئ بالعالم السردي الممكن.
كما أن هذا المفهوم يتقاطع بعمق مع طروحات نظرية الأدب في القرن الحادي والعشرين، وخاصة تلك التي تتبنى مفاهيم من العلوم البحتة (كالاحتمال، والفوضى، والنظم المعقدة)، مما يجعله أحد المفاتيح الرئيسة لبلورة نظرية سردية احتمالية تُعنى بالفن التفاعلي وتعدد المعنى.