تحول الصحف المطبوعة إلى رقمية
يتطلب تطورًا تدريجيًّا لحث المتابعين على دفع أموالهم للحصول على الأخبار
موقع للعلم
2022-02-09 06:14
بقلم تامر الهلالي
إقبال المتابعين على دفع مقابل مادي مقابل الحصول على خدمات خبرية يحتاج إلى مزيد من الجهد لمساعدة الجمهور على فهم الأخبار واستيعاب المعلومات وفهمها.. وليس مجرد الاهتمام بسهولة الاستخدام.
قبل 28 عامًا من الآن، لجأ ناشرو الصحف الورقية إلى الإعلام الرقمي باعتباره وسيلةً جيدةً لتقديم القصص الخبرية، عندما أطلقت صحيفة "ذا نيوز آند أوبزرفر" الأمريكية -وهي مؤسسة إخبارية يومية محلية بمدينة "رالي" في ولاية نورث كارولينا، وتُعد ثاني أكبر صحيفة في الولاية- أول موقع لتغطية الأخبار المحلية والإقليمية والوطنية عبر الإنترنت في عام 1994.
وتوالى اتجاه الناشرين نحو تحويل الإعلام الورقي "المطبوع" إلى إعلام رقمي، وسط آمال عريضة بإقبال القراء على الاشتراك في تلك المنصات الإخبارية مقابل دفع اشتراكات ثابتة، لكن الآمال لم تتحقق بالصورة التي حلموا بها؛ فعلى الرغم من تضاعُف اشتراكات القراء في الولايات المتحدة الأمريكية في المنصات الرقمية الإخبارية خلال السنوات الأربع الماضية، إلا أن نصف تلك الاشتراكات كان من نصيب صحفيتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست فقط.
ما سبق، دفع فريقًا من الباحثين في "مدرسة ميسوري للصحافة" للبحث عن أسباب عدم إقبال القراء على دفع أموال لمتابعة منصات الإعلام الرقمي الخاصة بالصحف الورقية، مشددين على أن "الصحف المطبوعة انتقلت إلى المنصات الرقمية دون فهم للخصائص التي تختلف فيها الوسائط الرقمية عن الوسيط الورقي، ودون فهم جيد للأدوات الرقمية التي تساعد على فهم الأخبار، ما أثر سلبًا على إقبال القراء على دفع مقابل مادي لمتابعة المحتوى الخبري الذي يقدمه الإعلام الرقمي".
وخلص الباحثون إلى وجود عناصر متأصلة في الإعلام الورقي تساعد القراء على فهم الأخبار، وأن بعض هذه القدرات (التي يتم توصيفها بشكل صحيح على أنها إمكانيات) مفقودة أو ضعيفة في المجال الرقمي، مؤكدين ضرورة "أن يدرك القائمون على المؤسسات الإعلامية الرقمية ما يريده القراء، وطبيعة الأخبار التي تستحق دفع أموال مقابل الحصول عليها، وأن يكون لديهم فهمٌ أفضل لكيفية تقديم الأخبار التي اعتادوا تقديمها في شكل مطبوع على منصات رقمية".
ووفق الدراسة، التي نشرتها دورية "ديجيتال جورناليزم" (Digital Journalism)، فقد "تضاعفت اشتراكات القراء الأمريكيين في المنصات الصحفية الورقية التي أولت اهتمامًا بالأخبار الرقمية خلال السنوات الأربع الماضية، لكن غالبية تلك الاشتراكات ذهبت إلى صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست وحدهما، في حين استحوذت "جوجل" و"فيسبوك" في عام 2015 على أكثر من 60% من عائدات الإعلانات التي تحققها صناعة الإعلام الرقمي في الولايات المتحدة".
أجرى الباحثون مقابلات متعمقة على مدار أسبوعين مع 12 مشتركًا في الصحف منذ فترة طويلة، وتمكنوا من تحديد 10 من الأشخاص الذين ما زالوا يحافظون على قراءة الصحف المطبوعة، مُرجعين ذلك إلى أن "الصحف الورقية تلبي نوعًا من الاحتياجات في الحياة اليومية للشخص، التي لا تجري تلبيتها على نحوٍ فعال في الوقت الحالي من خلال التجربة الرقمية، مثل القدرة على الاحتفاظ بالصحف المطبوعة كشيء مادي، والتنقل بين الأقسام والصفحات المحددة في الصحيفة، وإنشاء أرشيف مادي لطبعات متعددة لعرضها لاحقًا، إضافةً إلى القدرة على تحديد أهمية القصة، والتمييز بين الموضوعات المختلفة".
فهم القصة الخبرية
لكن الباحثين أكدوا -في الوقت ذاته- أن "الصحف المطبوعة انتقلت إلى المنصات الرقمية دون أن يكون لديها فهمٌ سليمٌ لكيفية استخدامها"، مؤكدين أنه "ينبغي على مسؤولي المؤسسات الصحفية تصميم منصاتها الرقمية بحيث تساعد المتابعين على فهم القصة الخبرية، وليس لمجرد سهولة الاستخدام".
يضيف الباحثون أن "طريقة تعامل الناس مع الأخبار واتخاذ الإجراءات بناءً على ما يقرؤونه أو يسمعونه أو يرونه تختلف عن الطريقة التي يعالج بها العقل البشري أنواعًا أخرى من المعلومات على أساس يومي، والوضع الحالي لصناعة الصحف في حالة تغيُّر مستمر، لكن الناس ما زالوا يحبون قراءة الصحف، ويعتقدون أن التخطيط المادي للصحف وإعادة هيكلتها يمكن أن يساعد القائمين على منصات الأخبار الرقمية في تعزيز تجارب المستخدمين".
توضح الدراسة أن "كل وسيلة من وسائل توصيل الأخبار تحتوي على مجموعة فريدة من السمات التي تسهل استخدام تلك الأخبار أو التعلُّم منها أو تعرقله، ما يستوجب تحديد الإمكانيات الموجودة -والغائبة- في مواقع الأخبار الرقمية".
استند الباحثون إلى وجهات نظر علم النفس الإيكولوجي التي وضعها "جيمس جي جيبسون" وتصوراته حول التفسيرات السائدة للإدراك، والتي تقوم على فكرة أن الإدراك مبني على المعلومات وليس على الأحاسيس، واعتمدوا أيضًا على "نظرية معالجة المعلومات" التي وضعها عالِم النفس "دونالد نورمان"، التي تستند إلى ثلاثة افتراضات أساسية، وهي أن معالجة المعلومات تتم من خلال خطوات أو مراحل، وأن هناك حدودًا لكمية المعلومات التي يستطيع الإنسان معالجتها وتعلُّمها، وأن نظام المعالجة الإنساني للمعلومات هو نظامٌ تفاعلي.
وتتعامل "نظرية معالجة المعلومات" مع ما يحدث داخل نظام معالجة المعلومات لدى الإنسان على نحوٍ مناظر لما يحدث في أجهزة الاتصالات، التي تهتم بنمط التفكير البشري على غرار نموذج الحاسوب؛ إذ إنها تركز اهتمامها على المدخلات، وطريقة الاختزان (العمليات)، وطريقة الاسترجاع (المخرجات)، وترى أن نموذج "معالجة المعلومات" يتم من خلال "الاستقبال" ممثلًا في عمليات تسلُّم المنبهات الحسية المرتبطة بالعالم الخارجي من خلال الحواس الخمس، و"الترميز" (إعطاء معانٍ ذات مدلول معين للمدخلات الحسية في الذاكرة على نحوٍ يساعد على الاحتفاظ بها ويسهل عملية معالجتها في وقت لاحق)، و"التخزين" الذي يشير إلى عملية الاحتفاظ بالمعلومات في الذاكرة، و"الاسترجاع أو التذكر" بحيث يتم استدعاء أو استرجاع المعلومات والخبرات السابقة التي تم ترميزها وتخزينها في الذاكرة الدائمة، و"النسيان".
يقول ديمون كيزو -أستاذ المهن الصحفية بجامعة ميسوري، والمؤلف الرئيسي للدراسة- في تصريحات لـ"للعلم": لدى "جيبسون" نظرية جميلة تساعد في تفسير كل ما نفعله نحن البشر، وتقوم على فكرة أن الإدراك مبني على المعلومات وليس على الأحاسيس، وهو ما يُعرف بـ"إمكانية الفعل"، ويمكننا التفكير في متابعة الأخبار بطريقة مماثلة؛ فعندما يرى القارئ عنوانًا رئيسيًّا، فإن الخط الغامق وحجم الخط يمنحان القصة الخبرية معنىً للقارئ، وهذه هي إمكانية الفعل التي يشير إليها "جيبسون" في نظريته، واستخدام هذا المفهوم النظري يمكن أن يساعدنا في فهمٍ أفضل لسبب إدراك الناس للأخبار بالطريقة التي يتعاملون بها، أعتقد أن المشكلة في معظم مواقع الصحف أنها صُممت دون التفكير في الميزات التي تساعد القراء على استيعاب المعلومات وفهمها.
تطور تدريجي
يقر الباحثون بأن تطور الأخبار في الصحف المطبوعة حدث تدريجيًّا بمرور الوقت وبالتواكب مع تطور التكنولوجيا المتغيرة واحتياجات القراء وتوقعاتهم، مؤكدين أن "من بين خصائص هذا التطور أن عناصر الأخبار وأدواتها ومدخلات إنتاجها وتصميمها وتوزيعها واستهلاكها تتفاعل معًا لدعم صنع المحتوى المقدم للقراء".
ويوضح الباحثون أن "هذا التطور التراكمي والتدريجي أمرٌ لا بد أن يحدث عند انتقال الصحف المطبوعة إلى المنصات الرقمية، كما أن تأثير الانتقال إلى الرقمية -حيث يختلف التصميم والتوزيع والاستهلاك بشكل واضح عن تقاليد الصحافة المطبوعة- يحتاج إلى إعادة تقييم لفهم الاحتياجات المعرفية للقراء والعمل عليها بشكل أفضل".
ثمانية عوامل
حدد الباحثون ثمانية عوامل مرئية ينبغي أن يهتم مسؤولو الصحف المطبوعة بمراعاتها عند التحول الرقمي، وتهتم تلك العوامل بتعامل القراء مع المحتوى الرقمي، وهي النوع، وقابلية الاسترجاع، والأولوية، والآنية، والارتباط الفائق، وسهولة الوصول إلى المعلومات، والقدرة على التكيف، والتفاعُلية.
تُعرف الدراسة "النوع" (Gender) بـ"العناصر التي تستخدم الإشارات الرقمية، مثل اللافتات البصرية، للتمييز بين أنواع المحتوى المختلفة وللمساعدة في تقليل الالتباس بين القصص الخبرية ومقالات الرأي على سبيل المثال.
أما قابلية الاسترجاع (Retrievability) فيعرفها الباحثون بـ"القدرة على العثور على قصص إخبارية سابقة من خلال تضمين وسوم أو كلمات مفتاحية أساسية لتسهيل البحث والعثور على المحتوى"، وأما "الأولوية" (Importance) فقد عرفوها بأنها "الإشارات المرئية الدالة على موقع القصة، وحجم العنوان وعدد الكلمات، والتي تتيح للقراء تقدير مستوى أهمية قصة معينة من عدمها".
ويذهب الباحثون إلى أن عامل "الآنية" أو (Immediacy) يتمثل في "القدرة على تحديث المحتوى بسرعة للمساعدة في تقليل الالتباس بين القصص الجديدة والقديمة عند المشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي على سبيل المثال"، بينما يعرفون "النص التشعبي" (Hypertextuality)، بـ"القدرة على تضمين معلومات رقمية إضافية للنص الصحفي عن طريق ربطه بالمقالات أو الموارد ذات الصلة"، وأما "سهولة الوصول" (Convenience) فتوصف بأنها "القدرة على الوصول إلى كميات هائلة من المعلومات وجعلها في متناول اليد بسلاسة".
ويتمثل العامل السابع في القدرة على التكيُّف (Adaptability)، ويُعرف بـ"الإشارات المرئية سهلة الاستخدام التي تسهِّل على المرء التنقل عبر محتوى الأخبار الرقمية والقدرة على قراءة الأخبار على منصات رقمية متعددة"، في حين يعرِّف الباحثون العامل الثامن وهو "التفاعلية" (Interactivity)، بـ"القدرة على مشاركة القصص الخبرية مع الآخرين، والتفاعل مع التعليقات الخاصة بالتقرير الصحفي".
إرباك القارئ
ويؤكد الباحثون أنه "عندما تكون هذه العوامل المرئية مفقودة أو غامضة، فقد يؤدي ذلك إلى إرباك القارئ"؛ فعلى سبيل المثال، قد يعتقد القارئ أن "مقال الرأي هو قصة إخبارية، أو يفترض أن مقالة قديمة تمت مشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي هي في الواقع جديدة"، وقد يسهم ذلك في تقليل ثقة القراء وابتعادهم عن مشاركة القصة الصحفية.
يقول "كيزو": "إن الصحافة تُعد عملية إنشاء للتعلُّم واكتساب للمعرفة والمعلومات، ولهذا فإن الوسيط الذي يتم تقديم المواد من خلاله أمرٌ بالغ الأهمية".
ويضيف "كيزو" في تصريحات لـ"للعلم": استهدف البحث مساعدة الناشرين على تصميم منتجاتهم الرقمية بشكل أفضل لدعم حاجة جمهورهم إلى فهم الأخبار؛ فعلى سبيل المثال، إذا وجد القارئ قصةً عمرها خمس سنوات تمت مشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي، دون أن يخبره أحد بأن هذه القصة تعود إلى عام 2016، فلن تكون لديه القدرة على فهم التفاصيل أو السياق، ويؤدي هذا إلى انتشار المعلومات المضللة انتشارًا نشطًا.
وتفيد دراسة سابقة بأنه "بالرغم من أن 53% من الكنديين يحصلون على الأخبار من وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن ثقتهم بالأخبار التي يحصلون عليها من وسائل التواصل الاجتماعي تبلغ 19% فقط".
ويوضح "كيزو": تقيم تجربة المستخدمين الإجمالية للعديد من المواقع الخبرية -بشكل عام- بأنها سيئة؛ إذ يمثل طول فترة تحميل الصفحات، ومقاطع الفيديو ذات التشغيل التلقائي مشكلة، وهناك أيضًا مشكلة النوافذ المنبثقة التي تحجب الشاشة، لكننا نحن الباحثين نعمل على فهم المشكلات الأساسية التي تتعلق بالفهم والإدراك في وسائط نقل الأخبار، لقد بدأت وسائل الإعلام البحث في تحديد بعض نقاط الارتباك في الأخبار الرقمية ومعالجتها، وشعرنا كفريق بحثي بأن هناك إمكانيات متعددة متضمنة في تصور الأخبار وصنعها، ينبغي دراسة آثارها بما يضمن إمكانية وصول القراء للقصة الخبرية والتفاعل معها.
ويضيف: عملنا على استكشاف ما إذا كان من الممكن تحديد كل نقطة ارتباك وحلها بشكل فردي، لكننا نأمل تطوير نظرية أكثر تماسكًا تشرح المشكلة شرحًا موسعًا وتوفر أساسًا للعمل على معالجة المشكلة بشكل أكثر شمولية.
احتياجات الجمهور
من جهته، يرى فادي رمزي -أستاذ الإعلام الرقمي والمحاضر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة- أن "الدراسة لم تضف الكثير"، يقول "رمزي" في تصريحات لـ"للعلم": أغفلت الدراسة مبحثًا مهمًّا في الدراسات التي تتناول التحول الإعلامي من المطبوع إلى الرقمي، وهو التركيز على احتياجات المتلقي، وهو ما تتبناه الآن مؤسسات صحفية كبرى مثل صحيفة وول ستريت جورنال ومعهد رويترز للإعلام وهيئة الإذاعة البريطانية، وبالرغم من أن المتلقي العربي في طريقه إلى تقبُّل أن يدفع مقابلًا ماديًّا نظير محتوى من الميديا، كما هو الحال بالنسبة للإقبال على منصات ترفيهية مدفوعة الأجر مثل "شاهد" و"نتفليكس"، إلا أن المحتوى الإخباري التقليدي الجاف الذي يقدم كنص خبري مجرد هو محتوى غير جاذب، وما تفعله كل المنصات التي تريد جذب القارئ للمحتوى الخبري هو محاولة تقديم قيم إضافية للبيانات والمعلومات تعزِّز من قابلية المحتوى للجذب البصري والتفاعلي.
وفي الوقت الذي يشدد فيه "رمزي" على أن عينة البحث كانت قليلة جدًّا، يرى "كيزو" أن قلة عينة البحث ساعدت فريق البحث على تتبُّع تلك العينة والتعرف على أفكارهم بصورة أكثر دقة"، مؤكدًا في الوقت ذاته أن "فريق البحث يستهدف إجراء مزيد من الدراسات التي تشمل عينات بحثية أكثر حجمًا".
بدوره، يؤكد ياسر عبد العزيز -الخبير الإعلامي، ومدير مكتب صحيفة الشرق الأوسط بالقاهرة- أن "ما توصلت إليه الدراسة من عوامل صحيح، لكنها أغفلت عوامل أخرى مثل الدقة والموضوعية والعمق، وهي عوامل يؤدي الافتقار إليها إلى تسهيل نشر المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة".
يقول "عبد العزيز" في تصريحات لـ"للعلم": فيما يخص المتلقي العربي فإن الاهتمام الأكبر ينصب على التحديث المتواصل، حتى لو كانت تلك التحديثات تخلو من القيم الإخبارية التقليدية، وأستبعد حدوث طفرة في توجُّه المتلقي العربي إلى دفع مقابل مادي لقاء الحصول على خدمة خبرية؛ لأن دفع مقابل للحصول على محتوى خبري ليس من ثقافة الجمهور العربي، على حد قوله.