نفايات الأخبار الرقمية
د. ياس خضير البياتي
2020-12-02 02:24
تعددت المصطلحات لدى رجال الاتصال حول مصطلح الأخبار المزيفة. هناك من يتحدث عن (تلوث المعلومات) بدلا من الأخبار المزيفة. وآخر يسميها (معلومات خاطئة) تُنشر معلومات كاذبة دون قصد ضار. ومنهم ما يطلق عليها (معلومات مُضللة) تم إنشاؤها ومشاركتها بواسطة أشخاص ذوي نوايا ضارة. وأنا أجدها (نفايات معلومات) يستهلكها الفرد بطرق مختلفة. لكنها ضارة تزكم الأنوف وتسبب أمراضا نفسية وعضوية للمتلقي! وهي في معاجم اللغة العربية والأنطولوجيا (المواد الكيماوية التي تفرزها العمليات الصناعية أو التكنولوجية التي تضر بالإنسان والبيئة)، أو (وما زاد عن الحاجة)، و(ما ألقى من الشيء لرداءته)، كذلك هي (نفايات القوم من رذالهم). وما دمنا نتحدث عن نفايات الإنسان والتكنولوجيا فأننا نتحدث عن شيء ضار أثر على العقل والنفس والصحة أكثر من نفايات المصانع والطعام. نتحدث عن مشكلة عصرية اسمها نفايات الأنترنت التي أدت إلى صداع مزمن للبشرية!
الأخبار المزيفة ليست جديدة إلا أنها أصبحت موضوعًا ساخنًا في السنوات الأخيرة، حيث أتاح الإنترنت طرق جديدة تمامًا لنشر المعلومات والأخبار، ومشاركتها واستهلاكها مع القليل جِدًّا من معايير التنظيم أو التحرير. فالجمهور اليوم متخما بنفايات المعلومات التي صنعها الإنسان من أمكنه مجهولة المصدر أو معلومة النسب، وبقدرات مهارية متفاوتة. وهذا هو سر صعوبة اكتشاف القصص الصحيحة أو الأخبار المزيفة المشغولة بالقيل والقال، والتضخيم والتضليل، والسرعة والمشاركة أكثر من توضيحها للحقائق!
والأخبار المزيفة هي كلمة جديدة غالبًا ما تستخدم للإشارة إلى الأخبار الملفقة. هذا النوع من الأخبار الموجود في الأخبار التقليدية أو وسائل التواصل الاجتماعي أو مواقع الأخبار المزيفة ليس لها أي أساس في الواقع. لكنها تُقدم على أنها دقيقة من الناحية الواقعية. ربما هي بروباغاندا من فصيل الأخبار المزيفة.
وبمنطق العلم، الأخبار المزيفة التي تحمل صفة النفايات الضارة هي: تهكم أو سخرية فيها القدرة على خداع وارتباط خاطئ. ومحتوى مُضلل للمعلومات لتأطير مشكلة. وسياق خاطئ حيث مشاركة محتوى أصلي مع معلومات سياقية خاطئة. واحتيال في محتوى بانتحال المصادر الأصلية بمصادر زائفة ومكيفة. ومحتوى مُعالج بالتلاعب بالمعلومات أو الصور الحقيقية للخداع، كما هو الحال مع صورة معالجة، ومحتوى ملفق بالكامل مصمم للخداع وإلحاق الأذى.
دعونا نكتشف الحقيقة التي يريدها طلبة قسم الإعلام أو الجمهور الغارق بأحلام القصص المزيفة، ونفايات المعلومات المضللة عن الطريقة العلمية لاكتشاف حقيقة الأكاذيب التي تتناسل بالملايين؟
هناك ثلاثة عناصر يتم نشرها في الأخبار المزيفة: عدم الثقة، التضليل، والتلاعب. والمشكلة اليوم تكمن بأننا كنا في الماضي نبحث عن مصادر للتحيز، بينما الآن نحن نبحث عن تحيزنا. هناك خدع كثيرة ومضللة يقع فيها الجمهور ابرزها: عامل الإثارة، الطريق السهل للتحكم بالعقل وتغيير الاتجاهات. فالإنسان كتلة من الغرائز والملذات. وهذا يعني بأن غريزة الإثارة هي جزء من شخصيته ومتطلباته الحياتية.لذلك فصانع الخبر يستثمرها في تلوين موضوعاته بالإثارة اَلْمُضَلِّلَة. يبدأها بالعنوان المضلل والمثير، وينتهي بها إلى نهاية القصة الخبرية. هناك قضية أخرى ،وتكنيك مضلل آخر هو عامل اللعب على المعتقدات الخاصة أو التحيزات عن طريق تغذيتها بما يتلاءم مع اتجاهاتها، بهدف رفع منسوب الصدقيّة والإقناع من قبل الجمهور، مادامت تلامس أفكارهم ومعتقداتهم. وغالبًا ما تستخدم عناوين مثيرة أو غير أمينة أو ملفقة لزيادة الإقناع وكسب العقول.
والملاحظ أن أهمية الأخبار المزيفة في السياسة تجاوز الحقائق، حيث ازداد الاستقطاب السياسي بسبب شعبية وسائل التواصل الاجتماعي، مما ساعد على انتشار الأخبار المزيفة التي تتنافس مع الأخبار الحقيقية المشروعة. وقد أشاع دونالد ترامب مصطلح (الأخبار المزيفة) بقوة قبل الانتخابات وما بعدها، بغض النظر عن صدق الأخبار، عندما استخدمها لوصف التغطية الصحفية السلبية لنفسه. بل وسع معنى الأخبار المزيفة لتشمل الأخبار التي كانت سلبية لرئاسته. لاحظوا انتخابات عام 2020 في الولايات المتحدة الأمريكية كيف ارتفع منسوب الأخبار المضللة إلى درجة عالية من القوة والتأثير. وأدت إلى إثارة جدل كبير، وقلق نفسي بين الجمهور، وذعر أخلاقي أو هستيريا جماعية مؤدية إلى تناحر سياسي ومجتمعي لا مثيل له في الحياة السياسة الأمريكية.
السؤال الأهم، كيف نكتشف الأخبار المضللة في هذا الكم من نفايات الأخبار والمعلومات والقصص الإعلامية الكثيرة؟
تؤكد معظم الدراسات العلمية بوجود سمات بارزة يمكن من خلالها اكتشاف الأخبار المضللة : كثرة الأخطاء النحوية والإملائية، الاعتماد على الادعاءات المشحونة عاطفيًّا، البُعد عن الواقع، استخدام عناوين مضللة، الاعتماد على مصادر غير موثوق بها، توجيه دفة الخبر في مسار واحد، توزيع الأخبار على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي، غياب أي معلومات عن الموقع أو مَن يديرونه ، تعمد نشر أخبار مغلوطة بقصد الإضرار بالآخرين ،النشر في مواقع سريعة الزوال يتم إنشاؤها لأغراض شخصية أو دعائية ،حداثة إنشاء موقع نشر الخبر، تشابه التعليقات والمشاركات الخاصة بالخبر، نشر صور غير دقيقة، واستهداف التأثير في المواقف والمعتقدات والنيات والدوافع أو السلوكيات.
ويثار السؤال مرة أخرى: لماذا تنتشر الإشاعات والأخبار الكاذبة بسرعة؟ ترجع معظم الدراسات العلمية إلى السبب الأهم وهو أنّ معظم الناس لا يتحققون من صحّة ما يصلهم من معلومات، ويُبادرون بمشاركتها على الفور الأمر الذي يؤدي إلى انتشارها بسرعة كما تنتشر النار في الهشيم. إضافة على قدرة هذا النوع من الأخبار الكاذبة أو المضلّلة في خلق مشاعر الخوف أو الاندهاش الكبير، فيزيدُ إقبال الناس على قراءتها ومشاركتها مع الآخرين.
المشكلة الأخطر، وقوع الكثير من الصحفيين والإعلاميين أنفسهم ضحايا للأخبار المزيفة. ما يستوجب تطوير مهارتهم التحليلية والنقدية. والتحقق من صحة الأخبار من عدمها من خلال التواصل مع المصدر الأصلي للقصة أو الفيديو أو الصورة. إذ إن التحدث إلى الشخص الذي نشرها يُعد خطوةً أولى مهمة. والتحقق من المصدر عن طريق أسلوب البحث العكسي للصور وتحديد مواقعها الجغرافية، وفحص البيانات الوصفية للفيديو أو الصورة، وكشف تفاصيل المكان الذي تم التصوير فيه. والأهم مقارنة الصور المتقاطعة مع زاوية الشمس أو الطقس مع الموقع في اليوم نفسه الذي تم تسجيله فيه، وبالتالي توثيق مصداقية المحتوى عن طريق تلك المقارنة. ولأن الإنسان ما عاد قادرا على اكتشاف الأخبار الحقيقية بسبب الكم الكبير لنفايات الإنترنت، فإن بعض المؤسسات الإعلامية بدأت تستخدم تطبيقات "الذكاء الاصطناعي" لتنقية المعلومات. وهي الوسيلة التي تعتمد على خوارزميات متطورة لتحليل المعلومات ورصد الأخبار المزيفة بشكل فوري وأوتوماتيكي. فهو أكثر سرعةً من مجموعات رصد المعلومات المزيفة التقليدية، وله القدرة على منع الحسابات الوهمية، ورصد نشر الحساب للخبر ذاته بشكل متكرر.
بالمختصر المفيد، العالم يمتلئ اليوم بنفايات التكنولوجيا التي لا تشمل السرد السياسي فقط. لكنه مليء بالأخبار المزيفة والشائعات عن مشاهير العالم في مختلف مجالات الحياة. كذلك الأخبار التي تثير توترات عرقية تؤدي بدورها إلى تزايُد حدة العنف بين المجتمعات المختلفة. فضلًا عن انتشار الحسابات الوهمية التي قدّر فيسبوك عددها بنحو 96 مليون حساب. يضاف إلى ذلك إنتاج العالم إلى 40 زيتابايت من البيانات أي ما يعادل 880 مليار قرص مدمج.
بالمقابل أيضا نعترف بصعوبة اكتشاف الأخبار المزيفة وسط أطنان نفايات التكنولوجية الرقمية. فغرائب الدنيا ومتغيراتها خلطت الأوراق. ما كان غريبا من القيم بالأمس، أصبح اليوم مألوفا ومأنوسا. كنا سابقا نقول لطلبتنا من باب المثال فقط في دراسة الخبر (إذا عض كلب رجلا) هذا ليس خبرا، أما (إذا عض رجل كلبا) هذا هو الخبر. اليوم تكثر أخبار عض الرجل للكلب أو قتله أو أكله كحدث عادي. بالتوازي تزداد رحمة الحيوان بأخيه الحيوان، مقابل وحشية الإنسان في عضه لأخيه الإنسان!
هنا نقف مذهولين ومتسائلين: هل هي أخبار مزيفة!