الكانتية وسيطرة الراشدية
د. جليل وادي
2020-06-21 08:17
يذكرني كثير من المسؤولين الذين قدر لهم أن يمسكوا بمصائرنا والاتجاه بها نحو الهاوية، بعبارة النفري (توفي965م) التي تقول (اذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة)، وهي عبارة تقول الكثير من المعاني بالقليل من الكلمات، وهذا هو الابداع بعينه، ومع ان غالبية النقاد استقر تفسيرهم لعبارة النفري بأنه يريد بها بيان عجز اللغة عن استيعاب المعاني العميقة التي تنتجها الرؤية الواسعة.
ومن باب ان في التأويل جمالا لا يقل قدرا عن جمال النص، ذلك انه اجتهاد ينطلق من مرجعيات ثقافية قد تختلف عن تلك التي يستند اليها مؤلف النص، وهو ما يكسب النص أبعادا ربما لم تخطر على بال مؤلفه، وعلى هذا رأيت ان اتساع رؤية الكاتب او المفكر يعني المزيد من المحددات والقيود التي تجعله يتأمل بالمعاني مليا قبل اطلاقها قولا او كتابة، ولذلك يكتفي كثير من المفكرين بالقليل من الكلام عند التعبير عن أفكارهم.
حتى يخيل لك عند محاورة أحدهم انهم لا يجيدون الكلام، لكن ما يطلقونه عميقا بمعانيه وكثيفا بلفظه ويعبر تمام التعبير عن الفكرة، بدلالة عجزك عن ايجاد مفردات بديلة اذا ما أردت التعبير بدقة عن الفكرة ذاتها، وعندما تغيب تلك المحددات والقيود بغياب الرؤية او ضيقها، يُطلق الكلام على عواهنه، فقد تسمع أكداسا من الكلام التي لا تقول شيئا، وهذا ما نراه عند الذين لم تتوافر لهم حصيلة كافية من التعليم، وليس من وصف لهذا النوع من الكلام الا بالكلام السطحي الفارغ من المعنى، وكأني بذلك أقلب عبارة النفري لأجعلها على النحو الآتي ((كلما ضاقت الرؤية اتسعت العبارة)).
وما أكثر الذين رؤيتهم من الضيق بمكان، بينما تتسع عباراتهم بلا حدود، وما هم سوى ظواهر لفظية، يهدرون وقتك بالسطحي، ويشغلونك عما هو عميق. تأملوا في حوارات بعض المسؤولين السياسيين والتنفيذيين، وقلبوا كلام الكثير من الذين يطلقون على أنفسهم بالمحللين الذين يلفون ويدورون في التحليل، فضللوا الناس وأضاعوا الحقيقة، ومثل هؤلاء لا تحتاجهم سوى بعض الفضائيات لتملأ بكلامهم مساحة زمنية يتعذر عليها شغلها بما هو نافع لضعف قدراتها وبدائية عملها وافتقادها للعناصر الماهرة،.
ولذلك تذهب باتجاه اولئك الذين ينطبق عليهم فحوى مثلنا العراقي الذي يقول (يسوي للبكة عزا)، أي يقيم عزاء ويولم الولائم لبعوضة نفقت، ويريدون بذلك الاستخفاف بمن يضخم الامور البسيطة، كما هو حال بعض المدراء الذين تطول اجتماعاتهم بمنتسبيهم ساعات طوال، تصل في بعضها الى أكثر من سبع ساعات كما روى لي ذلك أحد الأصدقاء، وعندما سألته عن فحوى المسائل التي ناقشها الاجتماع تبين انها لا تقتضي سوى ساعة واحدة، ومع طول هذا الوقت الا ان الدائرة ظلت على حالها ولم يحدث تحسنا فيها. وهذا هو ديدن أغلب مؤسساتنا، طول في الاجتماعات وكثرة في اللجان، لكن النتيجة انخفاض في الأداء وتراجع في الخدمات، وهذا ما يعكسه تذمر المواطنين الذين لم نسمع منهم اشادة بخدمة الا ما ندر.
مَنْ اتسعت رؤيته كثرت ضوابط تفكيره، أي أن التفكير صار منهجيا يسوده المنطق والتنظيم، وهذا يحتم الاقتصاد في الكلام والوقت وغيرهما، فليس بالمقدور تحقيق النجاح وبلوغ الأهداف من دون تنظيم، وهو بديهية يفترض عدم التطرق لها، لكن الحقيقة تشير الى افتقاد حياتنا الى التنظيم، وبخاصة في الفكر العملي وتطبيقاته، وكأني بذلك اذكّر بتأكيد الفيلسوف الألماني ايمانويل كانت 1724 ــ 1804 على هذا الفكر المنهجي المنظم، فالكثير من المشكلات التي يقاسيها الناس ويدفعون بسببها من صحتهم النفسية والجسدية لا تحتاج من أهل الحل والعقد في بلادنا لتذليلها الى أموال، بل الى تنظيم فقط، كما هي معاناة الناس في سيطرة الراشدية التي مضى عليها سنوات، ولكنك عندما تقول لهم ذلك يفلسفون الأمور بطريقة تفوق الفلسفة الكانتية.