الإعلام الأسود: فن صناعة التضليل والتثقيف الهدام
دلال العكيلي
2020-01-23 06:01
المتابع لمنصات التواصل الاجتماعي ذات التوجه السوداوي الملغم يدرك ما مدى الخطر المحدق بالمجتمع والذي يستهدف شرائح محددة منه الا وهم محدودي الثقافة او المراهقين وغيرهم، نحن اليوم امام سيل جارف يجب ان يتصدى لها عقلاء المجتمع ونخبهم والّا سوف نصل الى ما لا يحمد عقباه، وبالنتيجة نحصل على جيل معبأ بالأفكار السلبية والكراهية المحضة والنظرة السوداوية للمستقبل ولشرائح المجتمع المتنوعة لا يحترم ماضٍ ولا يسعى للمستقبل.
هناك ثلاثة مليارات شخص حول العالم يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي، أي ما يعادل 40 في المئة من سكان العالم كما إننا نقضي في المتوسط نحو ساعتين يومياً في تصفح هذه المواقع والتفاعل من خلالها، وذلك وفقا لبعض الدراسات الحديثة، ويمكن القول إن هناك نحو نصف مليون تغريدة وصورة تنشران على موقع سناب تشات للمحادثة كلّ دقيقة.
يستخدم الناس مواقع التواصل الاجتماعي للتنفيس عما بداخلهم، سواء حول موضوعات سياسية أو غيرها، لكن الجانب السلبي في هذا الأمر هو أن تعليقاتنا تشبه في الغالب موجة لا تنتهي من التوتر والضغوط، ففي عام 2015، سعى باحثون بمركز "بيو" للدراسات، ومقره واشنطن دي سي بالولايات المتحدة، إلى معرفة ما إذا كانت مواقع التواصل الاجتماعي تزيد من حدة التوتر لدى المستخدمين، أكثر مما تخففها، وفي استطلاع أجراه المركز، وضم 1,800 شخص، عبرت النساء عن أنهن يشعرن بتوتر وضغوط أكثر من الرجال، عند استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وتوصل الباحثون أيضا إلى أن موقع تويتر يعد مساهماً قوياً في هذا الشعور، لأنه يزيد من وعي المستخدمين بالتوتر الذي يتعرض له أشخاص آخرون غيرهم.
ما هو الإعلام الأسود؟
يقول ألفريد براود وهو محلل إعلامي في المؤسسة البريطانية لميديا الاختلاف عن الإعلام الأسود:
أنه نوع جديد من الإعلام ظهر بعد أحداث 11 سبتمبر وموقعة الخرطوم (ويقصد تأثيرات الاعلام في احداث الشغب بعد مباراة مصر والجزائر في العاصمة السودانية )، حيث استعمل البلدان عن قصد كل ما أوتي لهما من أسلحة إعلامية ليس فقط لتحريض الطرفين بل لتحويل مباراة كرة قدم إلى ساحة للتنفيس عن غضبهم من الأزمات التي يعيشونها في بلدان تعيش على القمع والديكتاتورية، هذا الاستعمال متعمد من طرف القائمين على البلدين فمن خلاله يتم قياس سلوك المواطن وتحدد الأساليب التي سيعتمدها القادة في تعاملهم معه مستقبلا، لذلك وللأسف الشديد الخاسر الوحيد في كل هذا هو الشعب وخاصة الفئة التي لا حول لها ولا قوة!
ويبدو لي ان الفريد براود لو كان قد عاصر او اطلع على اداء الاعلام وما رافق الاحداث في كثير من دول الشرق الاوسط منذ بدايات القرن الماضي وربما قبله بسنوات في عمليات الابادة الجماعية للارمن والكرد وما حصل في فلسطين ثلاثينات القرن الماضي وحملات الهليكوست في المانيا وصولا الى ما كان يرافق ويعقب الانقلابات العسكرية في المنطقة ويرى تلك المشاهد الدموية التي اعقبت ثورة 14 تموز 1958م وما حصل في العراق منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، والتي لعب فيها الاعلام الاسود دورا رئيسيا في كثير من الاحداث والمآسي ودوامة العنف وإشاعة ثقافة القتل والموت والإقصاء من خلال طبع ونشر وبث تلك المشاهد على آلاف النسخ من الصحف والمجلات وشاشات التلفاز، لأدرك إن هذا النوع من الإعلام الأسود إنما جاء قبل ما يذهب اليه بعقود كثيرة حيث مورست هنا عمليات الاغتيال والتصفية امام انظار الناس، وما تلى ذلك من عمليات قتل بشعة في شوارع الموصل وكركوك وبغداد التي شهدنا الكثير منها خلال تلك السنوات العجاف التي استمرت حتى سقوط الحرس القومي الذي تفنن في اشاعة وممارسة تلك الانماط من السلوكيات السادية السوداء، حيث كان الاعلام يفعل فعلته الكارثية في زرع مفاهيم خطيرة لدى المجتمع عموما والاطفال والشبيبة بشكل خاص عندما كان يظهر عمليات القتل والاعدام في الساحات العامة ويكررها على شاشات التلفزيون لأيام طويلة حتى غدت صور مقبولة من الاهالي عامة بل واخذت مجاميع من الاطفال تقليدها وتمثيلها في العابهم البريئة؟
وما كاد عقد الستينات ان ينتهي حتى عاد ذلك الاعلام المتوحش اثر انقلاب تموز 1968م لكي تعود ثانية مظاهر تعليق الناس على المشانق في الساحات العامة بالعاصمة والمحافظات تحت مسميات كثيرة وتبريرات لا يقبلها العقل او المنطق، مهما كانت المبررات أو نوع الجريمة المقترفة من قبل الجناة، لما ستتركه هذه العملية الاعلانية والاعلامية من آثار سلبية حادة على النظام النفسي للفرد والمجتمع، وربما الى درجة التضامن مع الضحية حتى وان كان مجرما حقيقيا، اضافة الى انطباعات الاطفال والشبيبة عن تلك الصور ومدى تاثيرها على تكوين الشخصية في جانبيها النفسي والاجتماعي، حيث تم توظيف الجريمة كأداة لإشاعة الخوف والاذعان والاستكانة لدى الاهالي من خلال مجموعة الجرائم التي تم تنفيذها من قبل ما سمي في حينه بـ (ابو طبر) ونشر واظهار صور الضحايا على الشاشات والصحف، مما خلق اجواءً مرعبة وشعور بفقدان الامن والسلم الاجتماعيين وذلك ما كان يريده النظام واعلامه لتوجيه (القطيع) الى ملاذه الامن وربطه نهائيا بمقدراته وبرامجه، وهي ذاتها النظرية التي تستخدم منذ نهاية 2003م وحتى يومنا هذا على ايدي ذات التنظيمات العسكرية والاعلامية التي أسسها النظام ويتعاون من خلالها مع تنظيمات القاعدة وغيرها من مافيا الجريمة المنظمة في المنطقة؟
ومع مطلع الثمانينات من القرن الماضي ابان الحرب العراقية الايرانية بدأت عملية عسكرة المجتمع بكل مفاصله وفعالياته بما يخدم تطلعات النظام بما في ذلك نمط الاعلام الموجه للاهالي من كافة وسائله المرئية والمسموعة والمقروءة وبالذات الى شريحة الشباب والمراهقين من خلال توجيههم للمؤسسات العسكرية باشكالها المختلفة وتصوير الضباط وكأنهم ملوك وأمراء في امتيازاتهم وصلاحياتهم، تلك الوسائل التي لا تتوانى عن استخدام اي شكل من اشكال الاساليب والغرائز لتحقيق اهداف النظام السياسي وهي جميعا ذات اتجاه واحد ومكثفة في قنوات معدودة سواء في الراديو او التلفزيون ولا يكاد المرء يفرق بينهم جميعا الى درجة انهماك المذيعين مثلا بالانتقال من استوديو الى آخر بين قناتي التلفزيون وإذاعتي بغداد وصوت الجماهير ناهيك عن ذات المواضيع المكررة هنا وهناك، ذلك النمط المصمم لإشاعة أجواء الحرب الدائمة ليل نهار في داخل الأسرة، وجعل المتلقي صغيرا كان أم كبيرا في شد عصبي وعاطفي مستمر ومتناغم مع طبيعة البيانات التي كانت تصدر يوميا، إضافة الى البلاغات وتصريحات الناطق العسكري وهي مصاغة بشكل دقيق لكي تعطي النتائج المرجوة لتحقيق اهداف النظام السياسي آنذاك في تكثيف كل إنتاج الفرد والمجتمع من اجل الحرب والطاعة العمياء، وإبقاء المزاج العام متشنجا باتجاه الأحداث اليومية المرتبطة بشاشة التلفزيون وبرامج الاذاعة.
لقد تم توظيف الاعلام والمسرح والغناء بشكل كبير لتحقيق تلك الاغراض وغدت كل الاغاني والاناشيد تمجد الرئيس الذي اختزل البلاد والعباد بشخصه فقط حتى دون حزبه او رفاقه، مما كرس نزعة انفرادية نرجسية لدى شرائح كبيرة من الشباب والمراهقين تتقمص تلك الشخصية وتقلدها في سلوكها اليومي بشكل ارادي او غير ارادي، وقد رافق ذلك مجموعة من البرامج التي تظهر لقطات حقيقية من مجازر الحرب واكداس الجثث التي تدفن بشكل جماعي*، اضافة الى حفلات الاعدام رميا بالرصاص لمئات الشباب امام ذويهم وعشرات من المسؤولين المدنيين والعسكريين وشيوخ العشائر في كافة المحافظات والمدن العراقية على خلفية الهروب او التخلف من الخدمة العسكرية ومثلها ما كان يحدث في الوحدات العسكرية امام الجنود والضباط، مما اشاع اشكالا من النظم النفسية في تلك الشخصيات التي شاهدت وعايشت تلك الاحداث والممارسات ميدانيا او اعلاميا، وزرعت انماطا من بذور تلك السلوكيات التي بانت للوجود بعد سقوط النظام وظهور مجاميع من الشباب على شكل عصابات تجتمع حول شخص من ضحايا ذلك الاعلام الاسود وتمارس الجريمة على ذات الخلفية التي كان يستخدمها النظام السابق في الشعارات الوطنية والقومية مستسهلة الموت والقتل والتدمير والتلذذ بايذاء الاخرين وتصفيتهم او تعذيبهم حتى الموت كما ظهر خلال السنوات الاخيرة من الصراع الطائفي والجرائم التي اقترفت من كل الاطراف المتصارعة على ايدي شباب لا تتجاوز اعمارهم سنوات الحكم البعثي للعراق.
نشأته
«الإعلام الأسود» أو «صناعة الكذب» هو من أخطر الوسائل أو الحروب التي تستهدف عقول البشر، وقد نشط الإعلام الأسود في عهد ألمانيا النازية، وظهر بوضح في كتاب «كفاحي» لـ«أدولف هتلر» الذي كتب يقول: «إنني أفضِّل الحديث إلى جمهور قد فرغ لتوه من تناول عشائه؛ لأنه يكون حينها مرتاحاً ويغلبه النعاس».
وكانت صناعة الكذب تمارَس عبر الصحف المطبوعة والراديو والتلفزيون الحكومي، ولكنها سرعان ما توسعت عقب انتشار وسائل الإعلام الحديثة وتكنولوجيا الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما برعت فيه الدول الكبرى تحديداً.
ففي عام 2010م، بدأ الجيش الأمريكي برنامجاً دعائياً أطلق عليه اسم «عملية الصوت الصادق»؛ الهدف منه تدمير الجهاز الدعائي لـ«أعداء أمريكا» على شبكة الإنترنت، ونشر وجهة نظر الإدارة الأمريكية، والتأثير في الرأي العام بين مستخدمي الشبكة في المنتديات والمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي خارج الولايات المتحدة، وخاصة في المنطقة العربية وباكستان وأفغانستان وإيران.
هذا البرنامج يقوم على فكرة «الإغراق المعلوماتي» لإيجاد انطباع بوجود رأي عام مؤيد لوجهة النظر الأمريكية، وهذه الفكرة يتم تنفيذها باستخدام برنامج صممته شركة «إنتربيد» الأمريكية المتخصصة فيما يسمي بـ«خدمة إدارة الشخصيات الافتراضية»؛ حيث يجعل هذا البرنامج من السهل إنشاء وتشغيل آلاف الحسابات المزيفة التي يمكن استخدامها في نشر آلاف التعليقات على الأخبار والنقاشات وآلاف الرسائل على شبكات التواصل الاجتماعي حول القضايا التي تهم الإدارة الأمريكية، وكل حساب من هذه الحسابات مزود بمعلومات شخصية مفصلة، ومصمم بحيث تكون الرسائل التي ينشرها على قدر كبير من الاتساق الفكري والثقافي، وتظهر كأنها حسابات لأشخاص حقيقيين.
وسائله
تتراوح وسائل الإعلام الأسود بين الكذب الصريح وبين تحريف المعلومة والتضخيم والتهويل والإثارة والبلبلة، والمقصود به توصيل المعلومة محرفة أو خارج سياقها الصحيح لكي تشوه وعي المواطن، وهي درجات:
تحريف المعلومات: ومن أمثلة ذلك تحريف تصريح لشخصية عامة؛ بغرض تشويه صورته أو الاتجاه الذي يمثله، التكتيم والتجاهل الإعلامي: ويقصد به إخفاء معلومات عن الرأي العام، أو إخفاء المتسبب الحقيقي في استمرار اشتعال الموقف، المصادر المجهلة: وهو صياغة الخبر منسوباً لمصادر مجهلة، وعادة ما تلجأ الوسيلة الإعلامية إليه في نشر الشائعات الكاذبة لتوجيه الرأي العام أو التأثير عليه دون تحمل أدنى مسؤولية، مثل قول: «أفادت مصادرنا الخاصة.. صرّحت مصادر مطلعة.. تواترت الأنباء».
التهويل أو التضخيم: يقصد به المبالغة في تضخيم الحدث، مثل تركيز عدسة الكاميرا على جزء معين من ميدان التحرير يمتلأ بالمتظاهرين في حين أن باقي الميدان لا يوجد به أحد.
بث الذعر ويقصد به إثارة الفزع والخوف لدى جمهور المشاهدين أو القرّاء من شخص أو اتجاه بعينه عن طريق الإلحاح على فكرة الخطر البالغ الناتج عن تأييد هذا الشخص أو هذا الاتجاه حتى ينصرف الناس عن ذلك.
الكذب الصريح وقلب الصورة: يقصد به اختلاق معلومات غير حقيقية وكاذبة للتأثير على الرأي العام، أو توجيهه في اتجاه بعينه.
البلبلة وهي من أشهر أساليب التضليل الإعلامي بنشر معلومات متضاربة يكذب بعضها بعضاً في الزمن الواحد أو المكان الواحد؛ بهدف إحداث حالة من البلبلة لدى الرأي العام.
التدليس وهذا يظهر بنشر أخبار كاذبة ثم أخذ رأي خبراء فيها قبل أن يتبينوا صحتها؛ فتصل المعلومة للقارئ على أنها منقولة عن خبير، بينما الهدف توريط الخبير أو السياسي والتدليس على القارئ أو المشاهد.
علاقته بالامتداد الرقمي
يستخدم العديد من خبراء الإعلام الرقمي اليوم مصطلح "الذات الممتدة" أو "امتداد الذات"، والمستعار من علم النفس، للإشارة إلى الهوية التي نخلقها لأنفسنا على مواقع التواصل الاجتماعي ويشير المصطلح أيضًا للهواتف الذكية التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من ذواتنا، نشعر بالخسارة الكبيرة إذا فقدناها، "مفهوم الامتداد" لوصف ظاهرة أصبحت ملمحًا أساسيًّا في نزاعات اليوم، مسلحة كانت أو سياسية أو اجتماعية، الظاهرة محل النقاش هي دور الإعلام الرقمي في تأجيج النزاع وبث خطابات الكراهية والتحريض على العنف فامتدت مؤخرًا ساحات القتال لتجعل من فيسبوك وتويتر ويوتيوب وتليجرام وغيرها ساحات رئيسة تحاول فيها أطراف أن تجعل صوتها الأعلى، ورسائلها الأكثر انتشارًا، ورؤيتها هي الحقيقة.
ويمكن استعارة مفهوم الامتداد أيضًا لوصف دور الإعلام الرقمي اليوم في حالات النزاعات من كونه امتدادًا وتوسعًا لدور الإعلام التقليدي في تغطية ونقل النزاعات، فعلى مدار القرن الماضي، عرض العديد من الصحفيين حياتهم للخطر لنقل وقائع أحداث العنف من موقع الحدث، بالإضافة لاهتمامهم بنقل معاناة المدنيين وغير المعنيين بالنزاع ومع التغيرات التي شهدها القرن الحالي من قرب الجمهور من الصحفيين ومن بعضهم البعض، ومن ارتفاع وطأة التحديات التي يواجهها الصحفيون عند تغطية النزاعات، وفرت منصات الإعلام الرقمي أدوات من شأنها تسهيل عمل مراسلي الحروب، إذ تقربهم من مصادر المعلومات ومن مستقبليها في آن واحد وفي عالم صغير يتشارك صفحة واحدة، واسمًا واحدا، أو قناة واحدة.
وبالرغم من التأثيرات والاستخدامات الإيجابية للإعلام الرقمي في حالات النزاعات، فقد شهدت الأعوام القليلة الماضية عدة أمثلة تبرهن على قابلية هذه المنصات للاستخدام كسلاح ذي حدين فمن جهة، توفر منصات الإعلام الرقمي مساحات بديلة للتعبير عن الرأي ونقل وتغطية الوقائع من زوايا لا تغطيها وسائل الإعلام التقليدية وقد مكنت تلك المنصات أيضًا فئات كانت على محك الخطر، كالمهاجرين والنازحين، من الوصول للمعلومات والبيانات، كانت منقذة للحياة في بعض الأحيان فوجدت دراسة أجرتها مفوضية اللاجئين أن كلًّا من الهاتف الذكي والإنترنت مهم لسلامة وأمن اللاجئين تمامًا كالطعام والمأوى والمياه ورأينا أيضًا كيف استُخدم واتساب وفيسبوك وغيرهما من وسائل التواصل الاجتماعي لنقل ظروف احتجاز غير آدمية لبعض المهاجرين هذه الأمثلة غيض من فيض، وهي تثبت الدور الفعال للإعلام الاجتماعي خلال النزاعات المسلحة التي ضربت المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة.
لكن هناك جانبًا مظلمًا، فيه استُخدم الإعلام الرقمي لتغذية خطابات تتبنى العنف وتحض على الكراهية وتكرس الطائفية وقد تناولت بعض الدراسات دور منصات التواصل الاجتماعي في التأثير على سلوكيات المستخدمين فعلى سبيل المثال، قد يؤدي تعرضنا لجرعات معينة من المعلومات سواء صحيحة أو مغلوطة إلى تغيير أو ترسيخ رؤيتنا لـ"الآخر" وبغض النظر عن مخالفة ذلك "الآخر" لنا في الهوية الاجتماعية أو الاثنية أو الدينية، أو حتى مجرد آرائنا السياسية أو الفنية، فلهذا التأثير أهمية كبرى في تشكيل مجتمعاتنا المعاصرة الساعية أحيانًا لدمج الثقافات وكسر الحواجز والحدود فأثبت بحث مؤخرًا أن تعرضنا لخطاب تحريضي قد يؤدي للتقليل من حساسيتنا تجاه الآخر وزيادة التباعد بيننا مما يعزز من التحيزات والأحكام المسبقة لدينا.
دوره في خطاب الكراهية
من نواح كثيرة، كانت النقاشات التي تواجه المحاكم والهيئات التشريعية والجمهور حول كيفية التوفيق بين القيم المتنافسة للتعبير الحر وعدم التمييز الموجودة منذ قرن أو أكثر تباينت الديمقراطيات في مناهجها الفلسفية تجاه هذه الأسئلة، حيث إن تكنولوجيا الاتصالات سريعة التغيير أثارت تحديات تقنية لرصد التحريض والتضليل الخطير والاستجابة لها.
في الولايات المتحدة، تتمتع منصات التواصل الاجتماعي بصلاحيات واسعة، تضع كلّ منها معاييرها الخاصة بالمحتوى وأساليب تطبيقه. تتبع منصات مراقبة المحتوى قانون آداب الاتصالات يعفي قانون 1996 المنصات التقنية من المسؤولية عن الخطاب العملي من قبل مستخدميها على سبيل المثال، يمكن مقاضاة المجلات والشبكات التلفزيونية لنشرها معلومات تشهيرية خاطئة أو زائفة؛ ولكن في المقابل لا يمكن العثور على منصات التواصل الاجتماعي عن المحتوى الذي يتداولونه.
سلطت جلسات الاستماع الأخيرة للكونغرس الضوء على الهوة بين الديمقراطيين والجمهوريين، حول هذه القضية. عقد رئيس اللجنة القضائية بمجلس النواب جيري نادلر جلسة استماع في أعقاب هجوم نيوزيلندا، قائلًا إن الإنترنت ساعد في انتشار الدولي للتطرف البيض، وأضاف أن خطاب الرئيس يشجع على النيران بلغة، سواء أكان مقصود أو من دون قصد، قد تحفز وتشجع حركت تطرف البيض، واتهم الجمهوريون في اللجنة الخصم، كذلك عقدت اللجنة القضائية التابعة لمجلس الشيوخ، بإدارة تيد كروز، جلسة استماع متزامنة، ادعى فيها أن قوانين شركات التواصل الاجتماعي الكبيرة تفرض رقابة غير متناسبة على الخطاب المحافظ، ما يهدد المنصات بالتنظيم الفدرالي، وقال الديمقراطيون في تلك اللجنة إن الجمهوريين يسعون لإضعاف السياسات التي تتعامل مع خطاب الكراهية والمعلومات المضللة التي يجب تعزيزها بدلاً من ذلك.
في الاتحاد الأوروبي، يقوم جميع أعضاء الكتلة 28 عضوًا بتشريع مسألة خطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مختلف، لكنهم ملتزمون ببعض المبادئ المشتركة على عكس الولايات المتحدة، ليس الخطاب فقط هو الذي يحرض مباشرة على العنف الذي يخضع للتدقيق. كذلك الخطاب الذي يحرض على الكراهية أو ينكر أو يقلل من الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، إن الحركة العنيفة ضد الملايين من المهاجرين واللاجئين الذين معظمهم من المسلمين والذين وصلوا إلى أوروبا في السنوات الأخيرة جعل من هذه القضية قضية بارزة بشكل خاص، كذلك حصل ارتفاع في الحوادث المعادية للسامية في بلدان مثل فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة.
في محاولة لاستباق التشريعات على نطاق الاتحاد ككلّ، وافقت شركات التكنولوجيا الكبرى على مدونة قواعد سلوك مع الاتحاد الأوروبي، تعهدت فيها بمراجعة المشاركات التي أبلغ عنها المستخدمون وإزالة تلك التي تنتهك معايير الاتحاد الأوروبي في غضون أربع وعشرين ساعة في تقرير شباط/ فبراير 2019، وجدت المفوضية الأوروبية أن منصات التواصل الاجتماعي تلبي هذا المطلب في ثلاثة أرباع من الحالات، جعل الإرث النازي ألمانيا حساسةً بشكل خاص تجاه خطاب الكراهية، حيث يشترط قانون 2018 على منصات وسائل التواصل الاجتماعي الكبيرة أن تتولى الوظائف "غير القانونية بشكل واضح" وفقًا للمعايير المنصوص عليها في القانون الألماني، خلال أربع وعشرين ساعة، أثارت هيومن رايتس ووتش مخاوف من أن تهديد الغرامات الضخمة من شأنه أن يشجع منصات التواصل الاجتماعي على أن تكون "مراقبة مفرطة الحماس".
في الهند. بموجب القواعد الجديدة لوسائل التواصل الاجتماعي، يمكن للحكومة أن تطلب من المنصات أن تتخلى عن الوظائف في غضون 24 ساعة بناءً على مجموعة واسعة من التبليغات، وكذلك الحصول على هوية المستخدمن وقد بذلت منصات وسائل التواصل الاجتماعي جهودًا لوقف هذا النوع من الكلام الذي كان يؤدي إلى عنف الانتقام، فقد اتهم مشرعون من حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم (منصات التواصل) بمراقبة المحتوى بطريقة تمييزية من الناحية السياسية، وتعليق حسابات اليمين بشكل غير متناسب، وبالتالي تقويض الديمقراطية الهندية، كذلك يتهم منتقدو حزب بهاراتيا جاناتا (منصات التواصل) بإلقاء اللوم على منصات التواصل، لأنها تتجاهل استضافة نخبهم الحزبية. وابتداءً من نيسان/ أبريل 2018، حددت جمعية الإصلاح الديمقراطي التي تتخذ من نيودلهي مقرًا لها ثمانية وخمسين مشرعًا يواجهون قضايا خطاب الكراهية، بما في ذلك سبعة وعشرون من حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم. وقد أعربت المعارضة عن عدم ارتياحها لتدخل الحكومة المحتمل في الخصوصية.
في اليابان، أصبح خطاب الكراهية موضوع التشريع والاجتهاد القضائي في اليابان في العقد الماضي، حيث تحدى نشطاء مناهضون للعنصرية التحريضَ القومي المتطرف ضد الكوريين اجتذب هذا الاهتمام بالقضية توبيخًا من لجنة الأمم المتحدة للقضاء على التمييز العنصري في عام 2014 وألهم حظرًا وطنيًا على خطاب الكراهية في عام 2016، حيث تبنت الحكومة نموذجًا مشابهًا لنموذج أوروبا وبدلاً من تحديد العقوبات الجنائية، فإنها تفوض الحكومات البلدية مسؤولية "القضاء على الأقوال والأفعال التمييزية غير العادلة ضد أشخاص من خارج اليابان" وقد تشكل حفنة من القضايا الأخيرة المتعلقة بالكوريين العرقيين اختبارًا: في إحدى الحالات، أمرت حكومة أوساكا موقع ويب يحتوي على مقاطع فيديو تُعدّ مكروهة، وفي محاكم كاناغاوا وأوكيناوا غرمت الأفراد المدانين بتهمة التشهير بالكوريين العرقيين في مشاركات مجهولة عبر الإنترنت.
والأن لا بد من آليات للمواجهة، وبالتالي فإن منصات التواصل الاجتماعي وأبرزها فيسبوك تتحمل مسؤولية كبيرة في السيطرة على اعمال العنف التي تندلع بسبب تداول الآراء والمنشورات الحاضة على العنف والكراهية من خلالها، حيث يشكل ذلك النوع من أعمال العنف تحديًا يتعارض مع الاهداف الربحية لهذه الشركات، بيد أن جهود هذه الشركات في هذا المضمار تواجه تحديًا آخر هو محاولة تحقيق التوازن بين إيمانها بالحرية والتعبير وبين تلك المخاوف، لا سيما في البلدان التي يعتبر الوصول إلى الانترنت فيها حديثًا نسبيًا والتي تكون المصادر الاخبارية الموثوقة التي تتصدى لشائعات وسائل التواصل الاجتماعي، محدودة وفيما يتصل بالإجراءات التي تتبناها شركة فيسبوك للسيطرة على العنف والحد من انتشاره عبر صفحات موقعها، تذكر لنا نظير بعض جوانبها، أبرزها اتخاذ إجراءات ضد المنشورات التي تضم محتويات عنيفة، والتصدي لنشر المعلومات المضللة بما في ذلك التلفيات التي تحرض على العنف، فأصبح من الممكن لشركة -مثلاً- أن تزيل محتويات غير دقيقة او مضللة مثل الصور المعدلة، نشرت أو تم تشاركها لإشعال أوضاع متفجرة في العالم، وذلك عبر إقامة شراكات مع منظمات محلية وسلطات خبيرة في التعرف على رسائل "زائفة" ويحتمل ان تثير أعمال عنف.
بكلّ تاكيد أن خطاب العنف والكراهية لا يميز بين هدف عسكري ومدني ومع أن مهاجمة هدف عسكري قد ينتج عنها خسارة مادية آنية، إلا أن الخسارة والشق المجتمعي الناتجين عن تأثيرات خطاب الكراهية عادة ما يستمران لأجيال وقد تنتج عنهما نزاعات لا تتوقف لعقود قادمة.