الحد الفاصل بين الاعلام الحر ودعاية القطيع
مسلم عباس
2019-07-16 04:50
هل سمعت من شخص يشتم رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي باعتباره السبب الاول لخراب العراق؟ هل سمعت من شخص يُلقي بكل اللوم على ايران باعتبارها المسبب الوحيد في كوارث العراق؟ هل شاهدت شخصا يشتم رجال الدين صباحا ومساء لكونهم السبب الوحيد في تخلفنا عن الركب الحضاري؟ في المقابل هل سمعت عن المؤامرات الامريكية الصهيونية التي تسببت بتدهور الوضع الامني والسياسي؟ هل سمعت عن الحزب الذي يختزل كل مشاكل البلاد بوجود السفارة الامريكية في بغداد؟
هناك الكثير ممن يتبنون أفكار الجبهة الأولى وبنفس المقدار من الجبهة الثانية، تبسيط شديد للمشاكل التي يمر بها البلد، فالشخص الليبرالي يختصر الطريق نحو التقدم بحل الحشد الشعبي، وخلع النساء لحجابها، وتقليل عدد المساجد والحسينيات وقطع العلاقات مع ايران، في تلك اللحظة سيتحول العراق الى دولة متقدمة حتى على اليابان، وكأن مفاتيح التقدم والتاخر متوقفة على قرارات صغيرة. يقابل هذا الخطاب محور تمتلئ قنواته الفضائية بالصواريخ الموجهة نحو السفارة الامريكية "الشيطان الأكبر" الذي يضع العصا في عجلة تقدم البلاد، هذه القنوات تفسر كل ما يجري في خانة المؤامرة الصهيوامريكية، حتى ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف يمكن اتهام امريكا واسرائيل بها، لكونهم يحوكون المؤامرات علينا ولا عمل لديهم غير ذلك.
هذا النوع من الخطاب التبسيطي يدخل ضمن اساليب الدعاية السياسية ويطلق عليه علمياً اسلوب "القوالب الجاهزة" والذي يعرف بانه تعميم فكرة بسيطة على حالة شاملة، بغض النظر عن مصداقية الفكرة او تطابقها مع الواقع، فالمهم هو التسويق لايدلوجيا معينة لضمان نجاحها في الصراع القائم اما بالتقدم خطوة نحو الامام او الحفاظ على المركز الحالي للحزب او الايدلوجيا كاملة باحزابها وتياراتها، وقد استخدمه وزير الدعاية النازي جوزيف غوبلز لكونه الاسهل لتحشيد الناس وتصويب خياراتهم نحو اتجاه تراه السلطة مناسب لها. يستهدف اسلوب القوالب الجاهزة عواطف الناس وبنفس المقدار يستبعد عقولهم، فالتفكير المنطقي يعني عرض الافكار بجوانبها المختلفة وبما ان الناس يختلفون في قدراتهم العقلية والفكرية والتعليمية، يمكن ان يختلفوا على بعض الجزئيات، ما يعرض الفكرة الرئيسية للارتباك وربما الرفض فيما بعد، لذا ومن اجل تحشيد الناس لا بد من التركيز على فكرة واحدة كبرى وانتزاع كل ممكنات نقاشها، اي انتزاع التفاصيل كلياً، والتسويق لها على انها قضية الامة الاكبر.
يتبع أسلوب القوالب الجاهزة أسلوب دعائي اخر، وهو أسلوب "خلق الاجماع"، ويقصد به التلميح للجمهور على ان الرأي العام يقبل بفكرة كذا او يرفضها كلياً، وقد يتم "خلق اجماع" من السلطة (التنفيذية او التشريعية)، على سبيل المثال في الخطاب الإعلامي العراقي قد تجد خبرا مفادة ان لجنة الامن والدفاع النيابية ترفض التدخلات الامريكية في العراق، والواقع ان اللجنة لم تصدر بيانا بهذا الشأن انما هناك احد أعضاء اللجنة قد ادلى بتصريح شخصي لا يمثل كل اللجنة، نتحول الى الدائرة الاوسع، في تقارير وسائل الاعلام هناك تقارير في وسائل الاعلام تتحدث عن رفض الشارع العراقي للفكرة كذا، او ان نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي يطالبون بكذا فكرة، والواقع لا يوجد الا القليل ممن طالبوا بالفكرة لكن المؤسسة الإعلامية تريد خلق اجماع عام.
وفي الصراع السياسي شديد الحساسية (مثل العراق) لا بد من وجود جبهتين، تتصارعان مع بعضهما، تضخم كل واحدة منهما إنجازاتها، وتقلل من أي شيء يقوم به الطرف الاخر، وباستخدام اسلوبي "التعميمات الجاهزة" و"خلق الاجماع" يتم حصر كتلة كبيرة من الجمهور في زاوية ضيقة، يضطر فيها وباللاشعور للانحياز الى طرف في المواجهة، هنا يتحول الى رقم في معادلة القطيع وينسى تفكيره المنطقي، وبما انه اصبح جندياً يتحتم عليه متابعة كل جديد في اخبار المواجهة، ويبحث بما يتوافق مع متطلبات جهده الصراعي، وفق نظرية "التوافق المعرفي" التي تفترض ان الشخص يبحث عما يُلائم أفكاره المسبقة. يستمر لولب الصراع حاملا معه قطيعا كبيراً من وسائل الدعاية والجمهور معه، يتحولون بعد فترة من الزمن الى ما يشبه موجات تسونامي التي تكتسح كل ما يقف امامها، فالقطيع هنا لا يفكر، ولا يتحقق من صحة المقولات والاخبار المتداولة، انه في معركة مصيرية كبرى ضد العدو، هذا العدو الذي شيطنته الدعاية، وهو شيطن نفسه أيضا بتقوقعه على ذاته.
الاعلام الحر
في ظل موجات "الدعاية الجامدة" لا يظهر افق لنجاح وسائل الاعلام الحرة، فالدعاية في زمن الصراع ليست صادقة تماماً، كما انها ليست كاذبة تماماً، بل تقتطع جزءاً من الواقع وتبرزه على انه الكل، حسب ما تقتضيه مصلحة القائم بالدعاية، اما الاعلام الحر فيبرز الواقع كاملا او اقرب ما يكون نفسه فعلاً، لكن هذا لا يحلو للطرفين المتخاصمين، فتجدهم يغضبون من الاخبار المحايدة ويعتبرونها تجاوزاً على القيم والمبادئ التي يؤمنون بها، وان كتبت مقالاً منصفاً حول قضية معينة قد تتعرض لانواع المضايقات.
القطيع الذي صنعته وسائل الدعاية المؤدلجة يكون على شكل جيش لحماية القيم والكرامة والوطنية ورافعاً لراية الامة العظمى، النقد البناء في قاموسه شتيمة، وقول الحقيقة لديه تعني "مؤامرة"، وربما تعني "ذَيْلاً" للجبهة المقابلة، وتحليل الاحداث بموضوعية فهي خيانة للامة او خروجاً عن الركب الحضاري. ماذا بقي للاعلام الحر، المساحة ضيقة جدا، والحد الفاصل بين الجبهتين يكاد يشبه درابين بغداد القديمة، وان حاول الاعلام الحر الوقوف في المنتصف يسحقه القطيع وتنهشه الشتائم ويُلقى من اعلى قمة الوفاء والولاء للوطن الى قعر الخيانة والتمرد.
يأتي اعلام القطيع ليستغل قاعدة ان من يحصل على شتائم اكثر من احد طرفي الصراع سيكون بالضرورة اعلامي حر، لكن في بعض الأحيان قد يتجاوز بعض الإعلاميين حدود قطيعهم ليعبروا الى حدود القطيع الاخر بما يخل بتوازنات القوى بين الطرفين ليجد نفسه قد سقط اسير التنكيل والتهديد والمحاكمات، أي ان فعله خطأ في الحسابات وليس بسبب دخوله عالم الاعلام الحر، علينا ان نعتمد قاعدة أساسية في الفصل بين الاعلام الحر ودعاية القطيع وهي ان الوظيفة الأساسية للاعلام هي عرض الحقيقة بجميع جوانبها، اما تجزئتها فهي دعاية مهما كان قائلها.