مسلسل الفندق: بين الدراما وعلم النفس

أ. د. قاسم حسين صالح

2019-06-02 04:33

تنتهي الحلقة الأخيرة من مسلسل الفندق بمفاجأة يطلقها نعيم (عزيز خيون) بوجه بطل المسلسل الروائي كريم (محمود ابو العباس) بأنه مريض نفسيا وان شخوص روايته هي اوهام صنعها عقله، فيصرخ بوجهه بانه يكذب.. ويفاجأ المشاهد بان كل ما شاهده في الحلقات العشرين كانت (لعبة) درامية من السيناريست حامد المالكي.

لا يعنيني هنا البناء الدرامي(مع أنني اكتب دراما وكنت اكتب عن المسلسلات التلفزيونية بمجلة الإذاعة والتلفزيون)،ولا يعنيني ما اذا كان النص مقتبسا من رواية " عناكب الآفو" للروائية لمياء رشيد، وهذا امر سيقرره القضاء ونقاد الدراما، مع ان للكاتب حق الأقتباس شرط أن يبدع في الذي اقتبسه ويشيرالى ان "بعض الأفكار، الأحداث..مستوحاة من..."،بل يعنيني ما يدخل باختصاصنا السيكولوجي، وتحديدا نوعية المرض النفسي لبطل المسلسل، وما اذا كان الأخ حامد المالكي قد وفّق في توظيف(سيكولوجيا) اوهام الروائي دراميا؟،وما اذا كانت اوهام برانويا ام نوعا من الشيزوفرينيا؟،وما اذا كانت فكرة الأضطهاد المصحوبة بفكرة العظمة فيها تجسيد لشخصية الكاتب؟!

وبدءا نشير الى ان اكثر افلام السينما مشاهدة هي الافلام ذات المضمون السيكولوجي التي يعزى احد اهم اسباب نجاحها الى تعاون علمي بين كتّابها والسيكولوجيين، وأن لجوء الكاتب العربي الى الأوهام هي وسيلة دفاع مشروعة امام سلطة لا تسمح بنقدها..فيتخذ منها خط دفاع امين اذا ما احيل الى القضاء!.

ولأن الكاتب حدد ان بطل مسلسله مريض نفسيا وأنه مصاب بالأوهام، فأن هذا يتطلب منّا ان نتحدث عنها، لأن الفهم الشائع بشأنها انها نوع واحد، فيما هي غير ذلك، نوجزها علميا بالآتي:

تعني الاوهام وجود معتقدات لدى الفرد لا يوافقه عليها المجتمع، او قد ينظر اليها الناس على انها تفسيرات خاطئة للاحداث لا تستند الى اسس واقعية. وهذه ابرز خاصية يتصف بها الفصامي، واصعب صفات السلوك الذهاني، ليس من حيث اقتناع الفصامي بمعقتداته الخاطئة فحسب، وانما لكونه يسعى جاهداً لاقناع الاخرين وحملهم على التصديق بهذه المعتقدات. وبرغم ان هذه الاوهام يمكن ان تصاحب اضطرابات نفسية متنوعة مثل: الهوس، الاختلال العضوي، الحالات الناتجة من تناول جرعات كبيرة من العقاقير..الا انها شائعة بين الفصاميين، لحضراتكم حالة حقيقية من مستشفى الرشاد (الشماعية)للأمراض العقلية يوم اصطحبت طلبتي لها والتقينا بمصاب بالفصام ،فقال لهم بصوت ممتليء يقيناً (يقينه هو):

-(انفجار جالنجر كان بسبب خطئهم)،( وجالنجر سفينة فضاء امريكية انفجرت بعد اطلاقها بثوان وعلى متنها سبعة رواد،بكارثة فضائية حدثت في ثمانينات القرن الماضي)؛

سألوه كيف؟

اجاب: كان عليهم ان يستشيرونني.

وسألوه: لماذا؟

اجاب: لأن انا الذي وضعت برنامج جالنجر! .

ومحتويات اوهام الفصاميين غنية جداً بالخيالات والتصورات، وبعض اخيلتها تفوق ما تظهر في افلام (الكارتون) وغنية بافكار فنتازية. وهنالك روائيون يتعاطون حبوب (أل أس دي- مثلا) لأنها تسبب هذيانا وهلاوس تحررهم من عالم الواقع وتحلّق بهم في عالم خيال بلا حدود..يبدعون في تصويره. غير أن التصنيفات الحديثة لهذه الاوهام وضعتها بانماط معينة، اهمها:

1- اوهام الاضطهاد: اعتقاد الفرد بان هناك من يتآمر او يتجسس عليه،او يهدده او يسيء معاملته. ويميل اكثر الى الاعتقاد بأن من يكيد له،ليس شخصاً واحداً بل جماعات،او مخابرات،اتحدوا في مؤامرة ضده( فلم بيتوفل مايند- انموذجا).

2- اوهام السيطرة (او التأثير): وتعني الاعتقاد بوجود اشخاص اخرين،او قوى، او كينونات بعيدة، تسيطر على افكار واحاسيس وافعال الفرد،بوسائل غالباً ما تكون اجهزة الكترونية ترسل اشارات مباشرة الى دماغه.

مثال: بزيارة علمية لمستشفى أبن رشد للامراض العقلية قال احد الفصاميين لطلبتي بأنه على اتصال بالقمر، وانه يتلقى اشارات منه،وهو بدوره يرسل له اشارات ايضاً. وفي اثناء كلامه اعترته هزة ورجفة جفلت منها الطالبات بخوف، وبعد ثوان قال انه كان قد تلقى اشارة من القمر!.

3- اوهام المرجع (او الصلة): وتعني الاعتقاد من ان احداثاً او تنبيهات ليست لها اية علاقة او صلة بالفرد،ويرى انها تعنيه هو بشكل خاص.فقد يفكر المريض بأن حياته جرى تصويرها بفلم سينمائي او تمثيلية تلفازية.

4- اوهام الشعور بالخطيئة والذنب: وتتضمن اعتقاد الفرد بانه ارتكب خطيئة لا تغتفر. او انه تسبب في الحاق اذى كبيراً بالاخرين. فقد يدعي بعض الفصاميين- على سبيل المثال- بانهم قتلوا اطفالهم .

5- اوهام العدم (النهلستية): وتعني اعتقاد الفرد بأنه، او الاخرون او العالم بأكمله، قد توقف عن الوجود. فقد يدعي الفصامي، مثلاً،ان روحه قد عادت من الموت( ظهرت بعض اعراضها على (نعومي-عزيز خيون) مصحوبة عنده باعراض ما بعد الصدمة.

6- اوهام العظمة (والفخامة):اعتقاد الفرد من انه شخص مشهور جداً، ومهم جداً، وصاحب قوة عظيمة، قد تتجمع في شخصية يثبت عليها المريض، كاعتقاده بانه نابليون الجديد، أو هتلر مثلا.(في الأعظمية كان هنالك شخص يدّعي أنه هتلر، لدرجة أنه لا يرد عليك السلام ما لم تقل له: هاي هتلر!..وقد مثله الفنان عزيز كريم في مسلسل الفندق بلطافة) .

هل كان بطل (الفندق) مصابا بفصام زوري- شيزوفرينيا؟

يمكن تحديد الخصائص التي يعرف بها الفصام الزوري(بارانويا) بالاوهام و/ أو الهلاوس ذات الصلة بافكار الاضطهاد والعظمة. واذا وصفناهما بدلالة الاستمرارية، فان الاوهام الاضطهادية للفصام الزوري يمكن ان يكون مداها من شكوك ساذجة وغامضة ومتناقضة،الى تصورات منتظمة، وكأنها مدروسة بعناية لخطط تآمرية تحاك ضد حاملها.

وتعدّ اضطرابات الزور (Paranoid Disorders) اكثر انواع الذهان الوظيفي شيوعاً في مجالي الادب والفن. فالشخصيات الزورية غالباً ما تتضمنها القصص والروايات، وتصورها الدراما السينمائية والتلفزيونية. ومع ذلك فان النظام الوهمي (Delusional System) من الفصام الزوري هو فقرة واحدة، او حبه واحدة في عنقود من شذوذات اخرى، جميعها تعمل بصورة مستقلة، فيما يكون النظام الوهمي في اضطرابات الزور هو الشذوذ الاساس فيه.

وفي كل الاحوال، فأن الأوهام تكون مصحوبة في العادة بالهلاوس،(سماع اصوات في الليل ..) تقوي معتقداته الوهمية. وفي كلتا الحالتين، الاوهام والهلوسة ،فان فكرة الاضطهاد غالباً ما تكون مصحوبة بفكرة العظمة، فالمريض قد يدعي بقوة خارقة، وبالحكمة والعبقرية.

ومن متابعتي لحلقات المسلسل وجدت ان هذه الصفات تنطبق بهذا القدر او ذاك على الروائي كريم، لاسيما فكرة الأضطهاد المصحوبة بفكرة العظمة، والتي تجسّد الحالة النفسية التي يعيشها الكاتب حامد المالكي فعلا!(دون اوهام).أقول هذا على مسؤوليتي، واذهب الى انها موجودة لدى معظم الكتّاب والأدباء والشعراء والكفاءات في عراق الزمن الحالي!..وتلك انجح رسالة درامية اوصلها المسلسل بشكل غير مباشر، فيما كانت الكثير من رسائله الأخرى اقرب الى التقارير الصحفية منها الى العمل الدرامي.

وعلميا..هنالك التباس درامي سبب اشكالية لدى المتلقي.. فمن جهة،يتهم (نعومي) الروائي (كريم)بأنه مصاب بالأوهام وأن كل الشخوص التي يتحدث عنها في روايته هم من صنع اوهامه، ومن جهة أخرى فأن (نعومي) يؤكد له ان هؤلاء الأشخاص الذين قص عليه حكاياتهم، كانوا يسكنون الفندق وانهم غادروه، وتعددت مصائرهم وبينهم ما يزالون احياء (سنان ودنيا يذكرهم بالأسم).

تباينت المواقف بخصوص مسلسل الفندق، فمنهم من حكم عليه بالفشل قبل ان يكتمل عرضه، وأدانه آخرون وبرلمانيون بأنه يشوه المجتمع العراقي..(وكأن ما حصل له لا يعد تشويها!).ومع كل النقد الموجه له فان المسلسل يعدّ اول انتاج بعد سبع سنوات حرّك عجلة الدراما العراقية بنجوم من الممثلين، ومخرج مبدع (حسن حسني) الذي غادر العراق مضطرا في التسعينيات. ويحسب له انه تناول ظواهر اجتماعية خطيرة حصلت بعد 2003 ركز فيها على الدعارة والمخدرات وتجارة الأعضاء البشرية، ولمّح الى ان وراءها سياسيون فاسدون،وفي هذا جرأة لحقيقة واقعة.

ولولا ان الشرقية استجابت (لتهديد) شبكة الآعلام بحذف المشاهد التي تخدش الحياء في رمضان، لكنّا صدمنا بها فعلا، ولأوصلت رسالة للناس تدين من كان السبب..لو طرحت بمعالجة درامية وليست تقريرية ،وبأداء تلفزيوني وليس مسرحيا.

اننا ينبغي أن نحيي كادر مسلسل (الفندق) على ما فيه من مآخذ، وعليهم أن يتقبلوا النقد الذي ظلمه زمن عرضه.. وقد يخف ان عرض كاملا في الأعادة!. وأن لا نشيع الأحباط في الذين يعملون على اعادة الدراما العراقية في ظروف سياسية واجتماعية صعبة وخطرة..وقاتلة!

تحية للكاتب حامد المالكي، والمخرج حسن حسني، والمنتج علي جعفر السعدي،ولممثلين اجادوا(محمود ابو العباس،عزيز خيون،هند طالب-افضل عنصر نسوي اداءا،و علي عبد الحميد،أبن العائلة..الشاب الضائع)..متطلعين الى عمل آخر يتناول ظواهر اجتماعية اخرى (انتحار الشباب ،الطلاق ،التفكك الأسري..) وقد استفادوا من الذين اصدقوهم النصيحة..ومن يرونهم اساءوا!.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا