وخيرُ جليس في الزمان كتابُ
علي حسين عبيد
2018-03-21 06:20
الجليس هو الذي يختاره أحدهم جليسا له، يفيدُ منه في المشاورة والنقاش والاستماع للتجارب المفيدة، فأنفع الجلاس هم أولئك الذين ينفعون من يجالسهم ويمنحونه خبرات وتجارب تجعل منه محنكا خبيرا في التعامل مع الحياة ومعوقاتها، ولكن قد تتباين درجة الفائدة والمنفعة بين جليس وآخر، وهناك من الناس إذا جالسته سينقل لك من المساوئ ما هو أكثر بكثير من المحاسن، أي هناك من البشر قد تكون مجالسته مسيئة تعود على الآخر بأفدح الخسائر المعنوية والأخلاقية وحتى المادية.
إن السبيل إلى كشف الجليس من حيث الجودة والإساءة، قد تكون بالغة الصعوبة، فالإنسان لا يمكن معرفة سريرته وأخلاقه وسلوكه إلا بالتجارب العديدة والطويلة، وهناك من الناس من يُظهر الجانب الجيد من شخصيته، لكنه عندما يجدّ الجد تظهر شخصيته المبطّنة التي تحمل في طياتها الكثير من الشر، لهذا لا يمكن أن نحزر الجليس البشري إلا إذا أحسنّا الاختيار.
هذا الأمر نفسه ينطبق على الكتاب أيضا، فقد قيل أن (الكتاب خير جليس في الزمان)، ولكن ينبغي أن يكون اختيارنا للكتاب سليما، خاصة أن مت الكتاب وبطنه تضج بالأفكار، منها ما هو حسن ومفيد للعقل، ومنها ما يقوده إلى الانحراف، وهناك أطراف ثلاثة تقود الى كسب المعرفة النظرية، الاول هو الانسان، ثم القراءة، ثم الكتاب، ولسنا هنا بصدد الجوانب التعليمية والمناهج التدريسية، وما الى ذلك مما يصب في تحصيل المعارف، بل نتحدث هنا عن أهمية وكيفية تحصيل الانسان للمعرفة النظرية، وفق سعي وجهد فردي يستند إلى رؤية سليمة لروافد الفكر السليم.
يرى المتابعون بعض الخلل في العلاقة بين مجتمعنا والكتاب، ففي مجتمعاتنا الشرقية عموما، والاسلامية والعربية خاصة، ثمة علاقة فاترة بين القارئ والكتاب، أي بين الانسان وفعل القراءة، والسبب الاهم الذي قاد الى انتاج هذه العلاقة الشائكة والمتقاطعة، هو الحكومات ذات الطابع الاستبدادي التي حكمت الشرق عموما، والعرب والمسلمين خاصة، فالاستبداد والمعرفة في تقاطع وتضاد دائم، لأن فعل القراءة ينتج المعرفة، وهذه بدورها، تضاعف الوعي، والأخير هو العدو اللدود للحكومات المستبدة.
إذا ضعف العلاقة بين الانسان الشرقي والكتاب او الفعل القرائي، حصل بسبب متعمَّد من الاستبداد، لكي يضمن بقاءه الى اطول مدة ممكنة في السلطة، ولكن هل الكتاب ينطوي على مثل هذه القدرات التي تساعد الانسان على التحرر فعلا؟، يقول ذوو الشأن، إن الكتاب عندما وُصِف بأنه خير جليس في الزمان، فإن هذا الوصف لم يأت جزافا ولا قيل من باب القول الذي لا يستند الى حقائق وأسانيد تدعمه، فالكتباب هو من أوصل الانسان الى ما هو عليه من تطور، كونه يحمل الافكار الجديدة بين دفتيه أو ينبغي أن يكون كذلك، وهذه الافكار في الغالب، تتمخض عن نتائج لصالح الانسان، اذا ما استطاع أن يتعاطى معها بالطريقة السليمة.
تبقى لدينا القراءة وكيفية التعامل معها، وكيف يمكن أن نغرس حبها بين الناس ونجعلها متاحة وقريبة منهم، فمن دون القراءة لن تكون هناك فائدة للكتاب أصلا، ولكن كيف يمكن أن نطور العلاقة بين المجتمع والفعل القرائي؟، إن البدء بالجذور هو الأصحّ غالبا، إذ من المستحسن أن يبدأ الاهتمام بالاطفال أولا، أي أننا اذا اردنا أن نضمن علاقة صحيحة بين القراءة والمجتمع، فعلنا أولا أن نحبب القراءة للاطفال، حتى تصبح القراءة حالة معتادة لديهم، كالمأكل، والملبس، وكألعاب التسلية، وما الى ذلك، مما يعتاد الطفل عليه، ولا يستطيع أن يستغني عنه، وهذا يعني قيام رابطة ثابتة قوية الجذور بين الكتاب والإنسان في طفولته ثم في المراحل اللاحقة.
ويُستحسَن بالعائلة كونها الحاضن الاول للطفل، أن تبدأ بهذه المهمة وتنميها لدى أطفالها، وهذه هي المرحلة الاولى التي تؤهل الطفل لعلاقة جيدة مع القراءة، ثم تبدأ المرحلة الدراسية الاولى (الابتدائية) التي ينبغي أن يكون لها دورها الكبير في غرس حب القراءة لدى التلاميذ، صعودا إلى المراحل الأخرى، فالمدرسة يمكن أن تسهم بصورة فعالة بتنشئة الطلبة الصغار على حب الكتاب، ومن الأهمية بمكان أن يتعلم حسن الاختيار، فلا فائدة في كتب أفكارها غريبة عن تقاليدنا وثقافتنا وأخلاقياتنا.
وحين يجد الجد لمعرفة مسؤولية هذا الجانب، فإن الجميع وخصوصا النخب والقادة مسؤولون عن تنمية حب الكتاب الجيد في نفوس الأطفال صعودا إلى الشباب وغيرهم، ولا يصحّ أن تنسى وزارة الثقافة دورها في هذا المجال، اذ يمكن لهذه الوزارة أن ترسم الأنشطة اللازمة، والمفيدة في هذا الاتجاه، وفقا لبرامج مخطط لها، من لدن لجان تخصصية مدرّبة، يمكنها وضع الخطوات اللازمة لارتقاء الفعل القرائي لدى الصغار والكبار معا، سواء في دورات او ندوات او مهرجانات وأسابيع ثقافية، وما الى ذلك من رؤى وأفكار يمكنها تحبيب القراءة، كفعل يؤدي الى زيادة الوعي والمعرفة.
ولدينا المنظمات الثقافية المتنوعة بشقيها الرسمي والاهلي، حيث يقع على عاتقها الاسهام بتحقيق هذا الهدف الهام، وهنا اتذكر أن الحكومة الفرنسية حين اطلعت على تقارير تشير الى تدني القراءة بين اوساط الشعب، أمر رئيس وزرائها جميع الموظفين التابعين لأجهزة الحكومة كافة، رؤساء ومرؤسين، واولهم رئيس الوزراء نفسه، بالنزول الى الحدائق العامة والشوارع حاملين معهم كتبا مختلفة، والقيام بفعل القراءة من اجل تشجيع الآخرين عليها، كما أننا سمعنا كثيرا عن موجة كتاب الجيب التي اجتاحت اوربا حيث يستغل الانسان اوقات السفر وغيرها في علاقة متواصلة مع القراءة، وهكذا يدل هذا الأمر على أن المسؤولية جماعية يشترك فيها الكبير قبل الصغير والرسمي قبل الأهلي، من أجل نشر حب القراءة بين الجميع، وأولهم الاطفال كونهم اللبنة التي تتأسس عليها جميع المنظومات السلوكية والمعرفية خدمة للمجتمع ككل.