فاسيلي أكسيونوف: الرائد المؤسس للأدب الروسي المعاصر
جودت هوشيار
2016-10-30 05:42
كما خرج الأدب الروسي الكلاسيكي من "معطف" جوجل، فإن الأدب الروسي المعاصر قد خرج من سترة جينز أكسيونوف - الكاتب يفجيني بوبوف
لقاء مع أكسيونوف:
في مساء يوم خريفي ممطر من عام 1964، كنت في موقف الترام المقابل لمدخل جامعة هندسة الطاقة -التي كنت أدرس فيها- أنتظر تحت المظلة قدوم الترام المتوجه الى المنطقة التي اسكنها، حين اقتربت مني فتاة شابة، وسألتني ان كنت أنا فاسيلي أكسيونوف. قلت: كلا، ولكن لماذا تعتقدين أني فاسيلي أكسيونوف، هل هناك وجه شبه؟.
قالت: لم التق بأكسيونوف قط ولم أره في حياتي.
- وكيف تنتظرين شخصاً لا تعرفينه؟
- كلفتني لجنة الكومسومول في الجامعة أن أستقبله هنا، في موقف الترام في هذا الوقت تحديدأً. وقيل لي أنه يلبس معطفا مطرياً، في مثل لون معطفك الرمادي.
قلت: إن لم يكن سراً، هل هو تحقيق معه، أم ماذا؟
- أبداً، فاغلب أعضاء (الكومسمول) من قراء اكسيونوف، ومن المفترض أن أصحبه الى القاعة الكبرى في بناية الجامعة، حيث سيلتقي في تمام الساعة السابعة مساءاً، أي بعد عدة دقائق من الآن، بطلبة الجامعة للحديث عن أعماله الأدبية ومشاريعه المستقبلية، ويرد على اسئلة الحاضرين.
قلت: اذن انتظري قدومه هنا، وأنا سأذهب الى القاعة لأحجز لي مكاناً قريبا من المنصة، لأنني أيضاً من المعجبين برواياته الشيقة.
ولكن يبدو أنني تأخرت قليلاً، فالقاعة الكبرى التي تتسع لأكثر من ألف شخص، كانت تغص بطلبة الجامعة واساتذتها وحتى موظفيها، ووقف الكثيرون على جانبي المدخل وخلف المقاعد وفي الممرات. وبعد دقائق حضر اكسيونوف واستقبل بعاصفة من التصفيق. لم أجد أي شبه بيني وبينه، فهو أسن مني. ولا يوجد أي شبه بيننا.
كانت عيناه الزرقاون تشعان وهو يلقي نظرة فاحصة على القاعة. كان يلبس بدلة جينز. وكنت أعرف أنه من هواة موسيقى الجاز، ويمارس رياضة الجودو وكرة السلة، ويعيش على نحو مختلف عن الكتّاب الآخرين.
قرأ شيئا من رواية لم تكتمل بعد، وردّ على الأسئلة، التي كانت تتعلق كلها بمضامين رواياته الشهيرة التي يمتزج فيها تجربته الحياتية بالخيال..
ولد اكسيونوف في 20 أغسطس 1932 في مدينة كازان. كان والده بافل فاسيلوفيج عمدة المدينة وعضواً في اللجنة المحلية للحزب في منطقة تتاريا، ووالدته يفجينيا غينسبورغ مدرسة في معهد كازان التربوي، ومن ثمّ رئيسة لقسم الثقافة في صحيفة " تتاريا الحمراء ".
في عام 1937 كان فاسيلي اكسيونوف في الخامسة من العمر حين اعتقلت السلطات والدته، ومن ثمّ والده، وحكم على كل منهما بالسجن لمدة عشر سنوات مع النفي بعد إنتهاء مدة محكوميتهما. وقد ارسلت السلطات الصبي فاسيلي الى ملجأ لأطفال (اعداء الشعب). وفي عام 1938 نجح عمه في العثور عليه في ملجأ للأيتام يقع في بلدة كوستروم، وتمكن من استحصال موافقة الأمن على أخذ الصبي معه للعيش لدى احدى قريبات والده حتى عام 1948.
والده لم يعد من المعتقل، وقضت والدته يفغينيا غينسبورغ 18 عاماً في معتقلات (كوليما) في أقاصي سيبيريا، وسنوات أخرى طويلة أخرى في منفاها ببلدة (ماغادان). وقد نجحت بشق الأنفس في الحصول على الموافقة الرسمية على إقامة إبنها فاسيلي معها. وفي فترة (ذوبان الجليد) عندما عادت الى موسكو من منفاها أصدرت مذكراتها في كتاب بعنوان " الزوبعة " لقي نجاحا عظيما. وتناولت فيه الحياة المهينة في معسكرات الإعتقال الستالينية، كما وصفت لقاءها المؤثر بإبنها. لعبت هذه المذكرات دوراً عظيماً في تشكيل الموقف المضاد لعبادة الفرد لدى الإنتليجينسيا الروسية في السبعينات – الثمانينات من القرن الفائت، وكانت أول كاتبة تكشف مآسي المعتقلات، قبل سولجينيتسن وشالاموف. أمّا أكسيونوف فقد كتب ايضاً لاحقا عن لقاءه بوالدته في رواية مشهورة له يحمل عنوان "حرقة".
في عام 1956 تخرج في كلية الطب في لينينغراد، وكان من المفترض ان يعين طبيبا على سطح باخرة نقل للتجارة الدولية، الا أنه حرم من الحصول على الوظيفة بسبب ما نسب الى والديه من تهم، وعين طبيبا في (كاريليا) بأقصى الشمال، ثمّ عمل في الميناء التجاري بلينينغراد، وفي مستشفى السل بموسكو.
كنت قد قرأت في مجلة " يونست " كل ما نشره اكسيونوف من قصص وروايات، كما شاهدت الأفلام السينمائية المقتبسة منها. نتاجاته كانت نوعاً جديدا من الأدب، لا يشبه الأدب السوفيتي التقليدي الملتزم بـ" الواقعية الإشتراكية " ذات النظرة التفاؤلية الزائفة، بل يصوّر حياة الجيل الجديد من المثقفين، التي تختلف تماماً عن حياة الجيل المخدر بالبروباغاندا الستالينية والحالم ببناء الجنة الشيوعية الموعودة. أدب جديد بلغة مشرقة، وسخرية لطيفة، ومرح يتسلح به الشباب للتمرد على الحياة السوفيتية الرتيبة، وعلى البيروقراطية. كانت ملابسهم غير التقليدية، وسلوكهم البوهيمي وتعلقهم بنمط الحياة الغربية، نوعا من الإحتجاج على الواقع السوفيتي الكئيب. ولقد أتيح لي خلال دراستي الجامعية بموسكو في الستينات، أن أتعرّف عن قرب على الطلبة الروس، وأقاسمهم الخبز والملح، لذا فأن ما أكتبه عنهم حقائق لمستها بنفسي، فقد كنت معهم معظم الوقت: في الدراسة وفي السفرات الطلابية، وفي منتجعات البحر الأسود خلال العطل الصيفية. ونشأت بيني وبين عدد منهم صداقات أعتز بها.
قبل أكسيونوف كانت ثمة نوعان من الموضوعات في الأدب السوفيتي: أولهما -حياة العمال والفلاحين، وثانيهما- وقائع الحرب ضد ألمانيا الهتلرية. أما موضوعات روايات وقصص اكسيونوف فقد كانت مختلفاً تماماً. شباب لا يبنون الشيوعية، ولم يتطوعوا يوماً في الحملات الخروشوفية الكبرى لاستصلاح الأراضي البكر في الجنوب. ولا يريدون العمل في المصانع، بل يرغبون في الالتحاق بالجامعة للدراسة، ويلبسون الجينز، ويعشقون موسيقى الجاز. روايات تعبر أصدق تعبير عما يفكر فيه الشباب وما يحلمون به. وقد أطلق النقاد على هذا الأدب الجديد، اسماء شتى منها (الأدب الساخر، النثر الجديد، نثر الشباب، نثر المدينة).
شق اكسيونوف طريقه الى الأدب الروسي بسرعة خاطفة من أوسع أبوابه، واكتسب شهرة مدوية في عموم البلاد خلال فترة وجيزة، اثر نشر روايته الأولى" الزملاء " في عام 1960، التي تلقفها القاريء الشاب بشوق ولهفة، وبفضل هذه الرواية البديعة، الجديدة كل الجدة في مضمونها وفي اسلوبها ولغتها، ارتفعت مبيعات مجلة "يونست" التي نشرت الرواية الى مستوى لم يسبق له مثيل. وسرعان ما تم انتاج فيلم سينمائي مقتبس من الرواية، والذي لقي بدوره إقبالاً واسعاً، ثم كتب اكسيونوف مسرحية بالاسم ذاته عرضت على إحد مسارح موسكو. وفي السنة ذاتها استقال من وظيفته للتفرغ لأعماله الإبداعية. وترسّخ موقعه في الساحة الأدبية بصدور رواياته اللاحقة "بطاقة الى النجوم" و"برتقال مغربي" و"حان الوقت يا صديقي، حان الوقت"".
أما في الشعر فقد برز شعراء شباب موهوبون، يكتبون شعراً حقيقيا رائعاً، وهم لا يختلفون عن اكسيونوف في نظرتهم الى الحياة. شباب تتراوح أعمارهم بين 27، 28 سنة (يفتوشينكو، فوزنيسينسكي، روجديستفنسكي، أحمدولينا) الذين حملوا راية التجديد في الشعر الروسي في الستينات. كان هؤلاء الشعراء أصدقاء حميمين لأكسيونوف، شكلوا معاً ظاهرة فريدة في الأدب الروسي في ذروة فترة (ذوبان الجليد)، حيث فتحت بعض النوافذ على الغرب لتهب منها نسائم نمط جديد من الحياة يستهوي الشباب.
لا يمكن تصور اكسيونوف خارج دائرة من الأصدقاء، الذين سادت في حياتهم وابداعهم حرية الفكر والتعبير، التي كان الواقع السوفيتي يفتقدها. والتي تجسدت في سلوك وحياة وأعمال هذه النخبة من المبدعين.
ابداع اكسيونوف، وأصدقائه الشعراء، اصبح رمزا للصحوة والهواء النقي بعد الزمن الستاليني الخانق. كان هذا الإبداع يعبر عن رومانسية الحياة والحرية. ولم يكن عشق موسيقى الجاز، وموضات الملابس، مجرد تقليعات جديدة تستهويهم، بل احتجاجا على فرض اسلوب حياة موحد، ممل ورتيب على الجميع، خاضع لخط أيديولوجي واحد
السلطة التي كانت تغض الطرف عن هذه النخبة المتمردة في أوائل الستينات، لم تعد تحتمل أعمالهم، التي أحدثت إنقلابا في نظرة المثقفين الشباب الى الواقع والمستقبل. وحاولت تهميشهم والتضييق عليهم. وما زلت أتذكر كيف أن خروشوف - الذي جمع الأدباء في أحدى قاعات الكرملين في عام 1963 - هدد هؤلاء النوابغ الخمسة بالطرد من الإتحاد السوفيتي ان لم يتراجعوا عن مواقفهم (المضرة والمنحرفة). البعض منهم تراخى، واخذ يكتب بحذر، في حين أن أكسيونوف إزداد قناعة بمواقفه الصائبة، التي تجلت في أعماله اللاحقة، على نحو أكثر وضوحاً.
في منتصف الستينات، كان يفكر في اسباب فشل مرحلة "ذوبان الجليد" التي علقت عليها الأنتليجينسيا الروسية آمالها في التغيير. كان الطابع النقدي لنتاجاته يزداد قوة وعمقا. ففي رواية " "أكياس التغليف المكدسة" (1968) انتقل الكاتب الى "الهجاء الشامل" وعكس بقوة تناقضات الحياة السوفيتية، ذات الطابع السوريالي. بعد انقلاب اكتوبر 1964 وعزل خروشوف، عاد الخط الحزبي المتشدد الى ممارسة سياسة اضطهاد المنشقين، ومحاكمتهم او ادخالهم الى المصحات النفسية، وشهدت هذه الفترة محاكمة الكاتبين سينيافسكي ودانيال. كل ذلك إنعكس في أدب اكسيونوف. ففي رواية "حرقة" (1976) يعرض اكسيونوف حياة المثقفين الروس خلال الستينات – السبعينات من القرن العشرين. وفي رواية "جزيرة القرم " يفضح على نحو لاذع الواقع السوفيتي، وفي الوقت نفسه يحلم بالعدالة الاجتماعية.
وبطبيعة الحال لم يعد النظام يتحمل هذا الأدب، الذي كان يمارس تأثيراً عظيماً على عقول المثقفين الروس. ولجأ الى منع نشر نتاجات اكسيونوف الجديدة بذريعة أنها معادية للنظام السوفيتي.
في عام 1979 أصدر أكسيونوف مع كل من أندريه بيتوف، وفكتور يروفيف، وفاضل اسكندر، ويقغيني بوبوف، وببلا أحمدولينا مطبوعة سرية في أميركا، لا تخضع للرقابة بعنوان" ميتروبول" واثار ذلك غضب السلطة السوفيتية. وفي كانون الاول 1979 قدم استقالته من اتحاد الكتاب السوفيت احتجاجا على فصل زميليه فيكتور يروفيف ويفغيني بوبوف من الاتحاد.
في عام 1980 سافر اكسيونوف مع زوجته مايا الى أميركا، فجردته السلطة السوفيتية هو وزوجته من الجنسية السوفيتية. وعمل استاذا للأدب الروسي في عدة جامعات أميركية، وأصدر أهم أعماله " جزيرة القرم " وثلاثية " ملحمة موسكوفية ". ومع حلول فترة البيريسترويكا بدأت مرحلة جديدة في حياة اكسيونوف، حيث أخذ يزور وطنه كثيراً، وينشر أعماله الأدبية المحظورة في الحقبة السوفيتية السابقة..
في عام 2004 كان اول كاتب روسي ينال جائزة " البوكر" في نسختها الروسية، عن مؤلفه " الفولتيريون والفولتيريات " وهي رواية تأريخية تخيلية تسرد حكاية لقاء بين فولتير وقيصرة روسيا كاترينا الثانية، صديقة فلاسفة عصر التنوير. وعام 2005 حصل على وسام الأدب والفن من فرنسا.
اصيب الكاتب في عام 2008 بسكتة دماغية، ونقل الى المستشفي وخضع خلال عام ونصف لعدة عمليات جراحية حرجة حتى وافته المنية في السادس من يوليو 2009.