رحلة الحمير

عبد الامير المجر

2022-02-03 04:02

كانت ساعات مثقلة بالخوف، وكلما استعدتها اشعر بدقات قلبي تتسارع ويتملكني شعور غريب يجعلني انظر للغد بقلق.

مزرعتنا مترامية الاطراف، والطريق اليها طويل.. بيتنا الذي يقع بين شطين كبيرين، كثيرا ما يجعلنا نحن الصغار نشعر بالعزلة والخوف حين يتواري الصمت في جوف الظلام اوقات المساء ونحن عائدون مع ابينا من مزرعتنا الى البيت.

أمنا التي يتهلل وجهها بفرح عودتنا سالمين، لم تنس يوما احراق البخور التي تتضمخ بها اجواء البيت وتسيح الى الفناء الواسع، حيث تستقبلنا بها كل يوم.. ابي ونحن اولاده الاربعة، ننزل من العربة التي صار يستعملها كل يوم للذهاب بواسطتها الى المزرعة وقد اختار لها حصانا اصيلا، يطوي الارض ونحن في جوفها، وقد بنى عليها ما يشبه الكوخ وفرشه ببساط معبأ بالصوف ومغطى بقماش ناعم نسبيا.

حين تسير المركبة قليلا يشعر اخوتي الثلاثة الصغار بالتعب ويغريهم الفراش بالنوم، واحيانا انام معهم حين يشتد بي التعب، لكني دائما ما اجلس قرب والدي الذي يمسك لجام الحصان ويجلس خارج الكوخ ليهتدي الى الطريق اذا ما ضلته اقدام الحصان.

كان والدي كثيرا ما يحدثني، انا اكبر اولاده، عن اناس لم يصف اشكالهم لي، يباغتونه في الطريق كلما هبت ريح من الشرق، يقول؛ انهم يتربصون بي لقتلي ويحاولون ان ينقضوا على مزرعتنا الكبيرة.

في طريق عودتنا اليومي، اسمعه احيانا يدندن فاشعر كما لو انه يطلق انينا طويلا، أنين تتداخل فيه العذوبة بالشجن، لكني لم أره يبكي، خلافا لأمي التي كانت دموعها تنسكب على خديها حين تبدأ بما كنت احسبه نغم وعرفت لاحقا انها تبكي ايضا. يحصل هذا عندما يتمدد ابي بعد عودته من العمل ويكشف عن ساقيه فتظهر فيها اثار كثيرة لجروح وثقوب واشياء اخرى لا اعرفها، لكني عرفت انها ليست في رجليه فقط وانما تتوزع معظم اجزاء جسده.

تخرج امي ما تسميه دواء من صندوق خشبي كبير، بدا لي متهرئا لكنه سميك وعميق، وحين تغلقه يحدث سقوط بابه ما يشبه الدوي.. تبدأ بمداواة جروح ابي او تمسح اثارها فيشعر ابي بالراحة وينام، بعد ان يتناول العشاء ونسبقه نحن بقليل، الاّ ان صوتا شفيفا يبقى يطوح في فضاء البيت الكبير، يشبه صوت امي حين تبكي او تغني، ويبقى يدور ويدور حتى اغفو ولا ادري ان كان يبقى مستمرا او ينقطع، لأني أغط مع اخوتي في نوم عميق.

ذات يوم حذرتني امي وقالت لي انك اكبر اخوتك وعليك ان تحمل السلاح.. بقيت ذاهلا اول مرة لكني رحت اراقبها وهي تفتح الصندوق نفسه، وتخرج منه بندقية، بدت بطولي تقريبا، ثم قالت؛ ابوك سيعلمك كيف تستخدمها، في طريقكم تكثر الذئاب والكواسر الاخرى، واخشى ان تداهمكم ولن يتمكن منها ابوكم وحده.

تسرّب الخوف الى قلبي أول مرة، الاّ ان شيئا من الفخر دهمني وشعرت بمتعة حين اخذ ابي يعلمني وصرت استمتع باصوات الاطلاقات حين اضغط على الزناد.

بدأنا صباح يوم الحادثة التي تزداد دقات قلبي حين اتذكرها، بخبر سيئ، اذ وجدنا الحصان جاثيا على الارض وقائمتيه الاماميتين مكسورتان وتنزفان دما، اخذ والدي يبكي فيما كانت امي تطالع الافق كما لو انها تتوسل الله ان يوصلنا الى الارض ويعيدنا سالمين، نظر ابي الى ثنية الدار الواسعة، بعد ان كفكف دموعه، وقال كلمته التي لم تقتنع بها امي، لكنها اضطرت امام الحاحه.. زوج من الحمير يفي بالمهمة!!

الشيء الذي لم اعرفه من ابي وامي، هو كيف انكسرت قائمتي الحصان لكني تأكدت لاحقا من ان الحادث مدبّر وصار نذير شؤم جعل أمنا تطيل النظر بالإفق وتتمتم بكلمات لا افهم منها غير كونها تتوسل الله ان يعيدنا سالمين.

حين ركبنا عربتنا بعد انتهاء عملنا في المزرعة قبيل الغروب، شعرت بان شيئا قد تغير في مزاجنا جميعا.. الحمير ليست كالاحصنة بالتأكيد.. قالها والدي وهو يلتفت الينا، وكان يقصد اننا قد نتأخر في الطريق ومن ثم طمأننا ونحن نكمل ركوبنا ونتمدد في العربة بعد مشوار تعب طويل.. اطبق الليل جناحيه وطريقنا صارت اطول مع حميرنا التي تتعثر في المطبات، لكني صرت اسمع وانا ممدد قرب اخوتي الثلاثة ماكان يخيفهم ايضا.

صوت انين يخالط انغام ابينا وهو يطوح بصوته في الطريق التي لانعرف كم قطعنا منها لنصل بيتنا.. اخذ الخوف يتسلل الى قلوبنا بعد ان صحونا، ورحت انادي على ابي الذي يقود العربة لكنه لم يرد.. بينما كان صدى صوته يتردد كما لو انه امواج متلاحقة فنزداد خوفا حتى صاح اخي الاصغر بحرقة وبصوت متحشرج خائف .. ابي .. ابي .... كان الصمت يحيط بالمكان، والعربة توقفت عن المسير، اما ابي الذي خرجت لأعرف منه الذي حصل، فكان ممددا والدم يسيل من جانبيه.

تذكرت امي وانا امسك البندقية حين خرجت وقد عرفت ان ابي اصيب قبل وقت غير قليل وانه ظل ممسك بأحد اعمدة الكوخ وراسه على ظهره وانفاسه ثقيلة ولم يقدر على الكلام.. قافلتنا انحرفت كثيرا عن مسارها وبتنا وسط قطعان من الذئاب تريد الانقضاض علينا... لقد ضلت الحمير الطريق وضللنا معها..

يا الهي ..... صرخت بعفوية ثم كتمت صراخي محاولا اخفاء الامر عن اخوتي ... الاّ انهم صحوا على صوتي وتنادوا مفزوعين وقد خرجوا من الكوخ الذي يعلو العربة... كان الليل يحيطنا بصمته المخيف، وانا ممسك ببندقيتي واخوتي حولي، تحيطنا الذئاب من كل الجهات.. ومن بعيد كان صوت انغام ابينا القديم الذي يشبه الانين، يختلط بصوت امنا التي جاء من بعيد، كإنه ينادينا بان نتراصف، فيما كان عواء الذئاب من حولنا يملأ ظلمة الليل وحشة وخوفا!!

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي