علي حسين عبيد: الفقر قادني إلى عالم الكتابة

شبكة النبأ

2020-05-05 04:40

حوار مع الكاتب العراقي علي حسين عبيد الفائز بجائزة الطيب صالح:
سلوى محمد - القاهرة

من دون مقدمات سوف أدخل عالمك، أنت كاتب قصة قصيرة، وأحد روادها فى العراق، وصحفي متميز، رغم الفارق بين الإبداعي والمهني! أين تجد نفسك؟

- بدءاً، لا شيء يعلو على الإبداع، وإن كانت الصحافة أو العمل الصحفي بقولٍ أدق لا يخلو من الومضات الإبداعية هنا وهناك، ولكن عندما تكون هناك مقارنة بين النص السردي وأحد أنواع الكتابة الصحفية كالتحقيق بأنواعه، أو العمود الصحفي، أو التقرير وسوى ذلك، فإن الكفّة الإبداعية وخصوصاً الجمالية سوف تميل للنص الإبداعي، ولا سبيل للمقارنة بينهما (إبداعيا وجمالياً)، لهذا أقول بوضوح على الرغم من عملي في الصحافة ما يزيد على عقد ونصف من السنوات، فإنّني لم أجد نفسي فيها، والسبب لأن خيارات الإبداع في الصحافة نادرة، فمثلا هل يمكن أن أجنح بخيالي كما يحلو لي في كتابة عمود أو مقال صحفي؟، هذا شبه مستحيل، لكن يمكن أن يتحقّق ذلك في قصة أو رواية، كما أن العقل يكاد أن يتعامل بحرفيّة (جافة) مع حقول الصحافة ولا أستطيع أن أقول (فنون) الصحافة، وهذا العقل نفسه، يثور يتحرك يتمرد يتخيَّل ويصبحُ عقلا آخر حينما يتعاطى مع النص الأدبي، إذاً، من كلامي هذا يمكنك اكتشاف ميْلي وتفضيلي للقصة لأنني أجد نفسي فيها أكثر من الصحافة بكثير، ويجب أنْ أشير هنا إلى أنني لستُ رائدا من رواد القصة القصيرة العراقية، بل تَتلْمذتُ على روّادها الكبار من أمثال أستاذنا محمد خضير.

* البعض يرى العمل الصحفي عائقاً أمام المبدع.. وفى المقابل هناك من يرى أنها إضافة.. ويبقى السؤال الموجه لحضرتك ماذا أضافت الصحافة إلى إبداعك؟

- أتفق تماما مع الرأي القائل بأن العمل الصحفي يحدّ من فرص وقدرات المبدع، وقد عانيت من هذا الأمر بنفسي، لقد أخذت مني الصحافة وقتاً ثمينا لا يمكن تعويضه، وحتى لا ألحق غبنا بالصحافة أو العمل الصحفي الخاص بي، أقول إنني حصلتُ منهُ على فائدتين، الأولى، كتابتي لأعمدة صحفية فاقت 200 مئتي عمود ثقافي نشرْتُها في وسائل النشر المحلية والعربية، وانتهى المطاف بها إلى أنْ تُجمَع في كتاب تحت عنوان (ثقافة الجدران) طبعته وزارة الثقافة العراقية في دار الشؤون الثقافية.

أما الفائدة الثانية فقد منحتني الكتابة الصحفية ميزة المطاولة في الكتابة، أي أنها ساعدتني في الاستمرار بالكتابة لساعات متواصلة ولأيام متعاقبة من دون أن أشعر بالتعب، وبهذا تكون الإجابة على الشكل التالي: الصحافة أضافت لي الفائدتين اللتين ذكرتهما قبل قليل، لكنها سرقت مني أعواماً لو أنني استثمرتها في الإبداع لكانت تجربتي الإبداعية مختلفة عمّا هي عليه الآن بكثير!.

** جائزة " الطيب صالح " العالمية للإبداع منبرآ ثقافيآ ضمن الكثير من المنابر الحاضنة للأدباء ، والروائيين.. برأيك ما مدى تأثيرها وخدمتها للرواية؟

- الجوائز الأدبية في عموم العالم وفي مختلف المجالات الإبداعية، هي نوع من الإقرار بالمبدع وإبداعه، هذا أولا، وثانيا الجوائز تعطي للمواهب الجيدة زخما هائلا من المواصلة والمضيّ قُدُما نحو عوالم التميّز، أما جائزة الطيب صالح، فهي في الحقيقة تأخذ قوَّتها ورصانتها وحيويتها من الاسم الأدبي الكبير الذي أُطلِقَ عليها وهو الروائي الراحل الشهير (الطيب صالح)، ولكي أكون دقيقا في الإجابة، أعود إلى ما قلتهُ لموقع العين الإخبارية حول سؤال مقارب، بأنّ القيمة المعنوية لجائزة الطيب صالح تفوق بكثير قيمتها المادية، وانطلاقا من هذه الرؤية، أقول بأن ما قدمته هذه الجائزة للرواية العربية مهم وبالغ الوضوح من خلال تقديم أسماء (من كل الأجيال)، حلَّقت بالرواية العربية إلى مستوى نعتزُّ به، ولعلَّ أبرز ما قدمته جائزة الطيب صالح أنها فتحت نافذة جادة للرواية العربية، مع غيرها من جوائز السرد.

**تكريمكم ومنحكم المركز الأول من جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي فرع القصة القصيرة عن مجموعتكم القصصية " لغة الأرض " يضعكم أمام تحد كبير .. ماذا أعددتم فيما بعد؟

- من المفارقات التي أتذكّرها وقد لا أنساها، أن المعلّم الأول الذي وضعني على سكّة الأدب في دراستي الابتدائية، حين سمع بفوزي بالطيب صالح وجاء لتهنئتي، قال وهو يبارك لي، إن هذا الفوز خير نهاية لمشوارك مع السرد وهو مسك ختام متميز، حينها ضحكت واستغربت كلامه وقلتُ لهُ: بل هذا الفوز هو بداية المشوار يا معلمي. بالفعل هو تحدٍ كبير وضعتني أمامه هذه الجائزة، وضاعفت من القلق الإبداعي الأشدّ جمالاً من بين جميع أنواع القلق، في الحقيقة هناك أعمال أدبية خطّطتُ لها قبل وبعد الفوز، وهي قيد التنفيذ، ومن أجمل ما قدَّمهُ لي هذا الفوز أنَّ تعاملي مع كتابة السرد باتَ مختلفا عمّا كان عليه قبل الفوز، أقصد أنهُ ضاعف من حجم المسؤولية والتحدي، وقد انتهيت قبل أيام من مجموعة قصصية جديدة تبنّتْ إحدى دور النشر المعروفة طباعتها، آملاً أن أتفوّقَ فيها على (لغة الأرض)!.

** هل ساهمت الجوائز الأدبية فى الارتقاء بكتابة الرواية؟

- ربما أجبت عن هذا السؤال سابقا، والجواب القاطع أنّ إسهام الجوائز الأدبية في تطوير الرواية العربية بات واضحاً للجميع، بدليل أنّ عمالقة السرد العربي لا زالت أعمالهم الروائية تحصد الجوائز الأدبية حتى اليوم، وأنا من وجهة نظري جميع الجوائز الأدبية تؤدي دورها في دعم الرواية، لكن لابد من القول بأن هذا الدور يأتي في مستويات متباينة، وهو أمر طبيعي جدا، ولكن في النهاية تبقى كل جائزة أدبية في الرواية مساهمة في وضع حوافز ودوافع إضافية لمواصلة التنافس بين الكتّاب والروائيين العرب كي يجترحوا الجديد ويضيفوا الأجمل والأفضل والأرقى للرواية العربية التي باتت اليوم تقف بلا تردد إلى جانب المنجز الروائي الإنساني العالمي.

** عودة إلى البدايات، والدخول الى عالم الكتابة من خلال القصة ثم انتقلت إلى الرواية.. ما هى العوامل التي ساهمت فى تشكيل رؤيتكم الأدبية؟

- الفقرُ هو أهمّ العوامل التي دفعت بي إلى الاحتماء بالسرد، وإذا كانت نشأتي في عائلة فلاحية يقودها أب وأمّ أمّيان لا يقرءان ولا يكتبان، فإن هذا قد يكون سببا في دفعي نحوَ التعلّق بالكتابة الأدبية التي وجدتُ فيها متنفَّسا وتعويضاً لما أفتقدُ إليه في الواقع، لن أنسى أنني كنتُ أصنع في كتابة (القصة) طعاما يمكنُ أن أتناولَهُ في الخيال حين يكون شحيحاً في الواقع، وهذا ينطبق على الاحتياجات الأخرى كالحب والفرح الذي يقل في الحواضن الاجتماعية الفقيرة، كان الحبُّ مفقودا في مرحلة شبابنا بسبب مجتمعاتنا المحافظة، ومن العسير أن تجد من تحبّكَ، ليس هناك مهربْ من كتابة قصة حبّ ملتهبة لا أساس لها في الواقع، لأنّها محض خيال، ومع ذلك تسدّ النقص وتمنحنا الأمل وتجعل حياتنا الجافة أكثر ليونة وتمنحنا قدرة على تحمّلها، لم تكن في بيتنا مكتبة، ولا مثقفاً يقودنا إلى الأفكار أو الكتب المهمة، الفقر دافعنا الأول، وقراءة القصص والروايات التي كنّا نعيشُ أحداثها أثناء القراءة.

** شاركت فى العديد من المؤتمرات واللقاءات الأدبية.. ماذا تقدم هذه الملتقيات للأدب الروائي؟

كثيرة هي المؤتمرات والندوات الأدبية التي شاركتُ فيها، ولعل من أهمّها مؤتمر الرواية الذي يُقام في البصرة بالتعاون بين اتحاد الأدباء وجامعة البصرة، البحوث والأوراق النقدية التي يتم مشاركتها في هذا المؤتمر مهمة وذات أفكار تبحث في المنجز النقدي العربي والعالمي الذي يتناول الرواية وما حقّقته من قفزات متجدّدة، ومن المهرجانات المهمة التي أتذكرها، مشاركتي في الذكرى الرابعة لرحيل الروائي والقاص المغربي محمد زفزاف بدعوة من اتحاد كتاب المغرب، وكانت لي ورقة عن هذا الروائي الذي مثَّل أحد التجارب السردية الجيدة التي اطلعتُ عليها مبكرا، هذه المؤتمرات قدمت الكثير في إطار تطوير الكتابة الروائية، لأنها تجمع الروائيين العرب واقعاً ولا يقتصر ذلك على العالم الافتراضي، ليحدث نوع من الحثّ التبادلي بين التجارب المختلفة، مع خلق جوّ تنافسي يدفع الجميع إلى نوع من التحفيز والتحدي على الإنجاز المتقدّم.

** دائماً ما تحمل رواياتك السير في التفاصيل.. ماذا تقدم من نصيحة لكل روائي يقدم على هذا كي يحقق إنجازاً في هذا السياق؟

- هي ليست نصائح، إنما تجربة لها تفاصيلها التي قد تتباعد أو تتقارب من تجارب الآخرين، وكلٌ له طقوسه وأجواؤه ودوافعه وإمكانيته للكتابة، لا أتذكّر إنني طلبتُ نصيحة من روائي كي أستفيد منها لكتابة إبداعية أفضل، ولابد أن أقول أنني طيلة مشواري مع الكتابة السردية لم يحدث أن فرض أو مرّرَ كاتب أو روائي، نصيحة كتابية كي أستفيد منها، وأكاد أن أقول إن إتقان الكتابة الروائية يتم بجهد فردي حاسم، حتى النصائح أو الفوائد عليك أن تكتشفها بنفسك من تجارب الآخرين، نعم أنا أتعمّق في التفاصيل، أعرضها كما هي، لكن في إطار فني إنساني يرتقي بتلك التفاصيل إلى مستوى جمالي مضاعف، والمستوى الجمالي هنا يشمل حتى الأحزان الجميلة، ولا فائدة من تقديم التفاصيل الواقعية كما هي، ولعل قمة الصعوبة تكمن في كتابة السرد الواقعي، فهو سرعان ما يصبح مملّاً يهربُ منه القارئ، لذلك قوّة الكاتب تكمن في قدرته على تقديم تفاصيل واقعية لا تسمح للقارئ بمغادرتها، ولكن أرى أن نقل الواقع محكوم بكتابة (واقع كتابي)، يبتكره الروائي بحيث لا يمثل نسخة هزيلة من النسخة الأصل أو الأم.

** ماذا عن علاقتك بأبطال رواياتك وقصصك؟ وهل يتم السرد من خلال علاقة ودّ أم تنافر؟

- يعيدني هذا السؤال المتميز إلى قصة كتبْتها في بواكير رحلتي مع السرد، بطلة القصة جَدَّتي ذات الشخصية الحيوية المتسلطة، تجاوزت الثمانين ولا تزال في عنفوان عشقها للأوامر والتحكّم بالجميع، كانت هذه الشخصية بطلة قصتي الموسومة بالعجوز، ولا زلت أتذكَّر كيف كان القلم هو الذي يسيطر عليَّ وينعتُ جدّتي بصفات ليست في صالحها، وهكذا أكون في حالة خصام بصياغة ورسم الشخصية عندما أكرهها في الواقع، هذا الأمر يتكرر مع شخصيات أحبّها وأرسمها بكلّ الودّ وأُكيلُ لها المديح وأبدو متصالحاً معها بدرجة واضحة، ولذلك سوف يجد القارئ أو الناقد شخصيات جيدة محبّبة وأخرى عكس ذلك، وحاولت في أكثر من مرة أن أتصالح مع شخصيات سيئة في الواقع من باب الاختبار، لكنني فشلت في رسم الشخصية بجودةٍ عالية بحيث كان الإقحام والافتعال والتصنّع يبدو واضحا لدرجة قد تطيح بالقصة فنيّاً، نعم هنالك أبطال يتمردون على الروائي وهو خالِقهم في النص، وهنالك أبطال مطيعون يستجيبون للرسم والخَلْق الإبداعي، لكنني أعتقد بأنّ درجة التوازن النفسي للكاتب هي التي تتحكم بمدى التصالح والتنافر بينه وبين أبطاله.

** النقد الأدبي، أين هو؟ أم أن هناك توافق بين أفراد الجماعات الأدبية يؤدى إلى إنتاج نقدي متطور؟

- في العراق اتفق معظم النقاد على مصطلح الأجيال الشعرية والقصصية، فقالوا بوجود جيل خمسيني وآخر ستيني والتحق به الجيل السبعيني صعودا إلى الأجيال اللاحقة، وكان لهذا النوع من التجييل فوائده، وأهمها مواصلة المتابعة النقدية للأجيال، والذهاب إلى ما هو أكثر إثارة وحيوية، وأعني بذلك المفاضلة بين هذه الأجيال ومن هو الجيل الأهمّ والأقوى إبداعيا، وقد حدثت صراعات فكرية وفنية بين شعراء وقصاصين من أجيال مختلفة، ضجَّت بها الصفحات الثقافية، وكانت من علامات العافية التي تزخر بها محافلنا الأدبية، وحتى في تلك العقود التي مثَّلت نضجاً أدبيا لا يمكن نكرانه، كان النقد متأخرا في ملاحقته أو مواكبته لما يُطرَح من إصدارات أدبية، اليوم الهوّة بين النقد والأعمال الشعرية والسردية الجديدة واسعة إلى درجة يصعب ردمها أو حتى تقليصها، نعم هناك تجارب نقدية عربية بالغة الأهمية، ظهرت في الأدب الخليجي ومصر والعراق ولبنان والمغرب العربي، ولكن يظلّ النقد متأخراً أو متلكِّئا عن إنصاف ما يُطرح، وقد يكون هذا أحد أسباب الخلط المزري بين الغث والسمين مما يُنتَج في السرد وحتى الشعر، بالطبع هناك مؤتمرات وندوات نقدية تسعى بجدية لحصر المنجَز الأدبي بدقة والخروج بأُطر نقدية ثاقبة، إلا أنّ البون لا يزال واضحا بين النقد والأجناس الأخرى كالرواية والمجاميع القصصية.

** فقدت الساحة العراقية كبار الكتاب والشعراء والفنانين والمفكرين.. كيف تصف المشهد الأدبي العراقي - العربي الآن؟

- سأبدأ بتوصيف المشهد العراقي الآن، فأقول بأنّ هذا المشهد هو نتاج مشهد أعمّ وأشمل، إنه نتاج مجتمع كامل، حدثت فيه متغيرات هائلة، سياسية اجتماعية اقتصادية، وهذا ينعكس بما لا يقبل الشك على الأدب، فيصبح جزءاً لا يتجزّأ من المشهد الكلّي، ربما لا أخطئ إذا قلت أن هنالك فوضى ثقافية في العراق، تعكس الفوضى في المجالات الأخرى، ولكي أقرّب المعنى أو المقصود أقول هناك حركة أدبية عارمة في العراق، ونشاطات متعددة كثيرة وكبيرة، تقوم بها منظمات واتحادات مدنية ورسمية، هذا الزخم والتعدد والتنوع في الحراك الأدبي جيد ومهم ولكن عيبه فقدان التنسيق، فيظهر بصورة عشوائية، وهو أمر متوقّع في ظل مشهد كلّي متشظّي، ذهاب الأدباء والفنانين الكبار من أمثال (مظفر النواب وسامي عبد الحميد/ المشهد العراقي) و(إسماعيل فهد إسماعيل، والمترجم العربي صالح علماني)، لا يشكّل كبوة للأدب العراقي، فتجارب الكبار تُحفَظ وتبقى فاعلة في الذاكرة الأدبية، لكن ما نحتاجه هو وضع قواعد رصينة وتقاليد سليمة لضبط إيقاع الحراك الثقافي للمشهد برمّته، وقد ينطبق ما ذكرته على المشهد العربي ولكن بدرجة أقلّ.

** ولكن كيف تفسر صمت المثقفين على المشهد الدموي والصراعات التي تشهدها الكثير من العواصم العربية وليست الساحة العراقية فقط؟

- في العراق لم يصمت المثقفون، في مدينتي تم اغتيال روائي ضجَّت وسائل الإعلام العربية والعالمية بواقعة اغتياله، إنه علاء مشذوب الذي عوقِبَ على كلمات كان يكتبها ولم يطلق الرصاص على الحكومة أو سواها، والتحق به آخرون، ولا يزال اتحاد الأدباء العراقيين في مقره العام بغداد وفروعه في عموم المحافظات، يرفض التكميم ويؤازر الحرية في وقفات فعلية وفي حراك أدبي ثقافي تنويري حر، بالطبع هناك من يقف فوق التل من المثقفين، أو منهم من يصطف مع الطبقة السياسية المرفوضة، ولكن على العموم كانت مواقف المثقفين العراقيين في الواقع وعبر مواقع التواصل مشرّفة، أما انتشار المشاهد الدموية في بعض العواصم العربية فهذا أمرّ متوقّع في ظل حكومات تخشى الثقافة وتحيّد الكتاب المبدعين وتهملهم عن عمد، حتى بعض الشرائح المدنية المتمكنة تتقاعس عن دعم الثقافة والفكر التنويري، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى إضعاف دور المثقفين والأدباء والفكر بشكل عام في تغيير الوقائع على الأرض.

** دائماً ما يغيب كتّاب الرواية ليعودوا من جديد بعمل أحدث؟ فهل أنتم في حالة انتظار دائمة؟

- الرواية ليست فلماً وثائقيا، يلتقط الواقع كي يقدّمه للقارئ في لحظة وقوع الحدث، الرواية تأخذ مادّتها وأحداثها وشخصياتها في الغالب، من الماضي بأبعاده المتعدّدة، ويندر أن تكون الأحداث آنية، لهذا مشروع الروائي يجبرهُ على البحث والتقصّي واستغوار بطون التاريخ بحسب ثيمة الرواية، كما في العديد من الروايات الناجحة، نجد ذلك في رواية "اسم الوردة" وفي معظم روايات يوسف زيدان، على أن تمتلك هذه الروايات رؤية للمستقبل، فقد قال نقاد غربيون إن الثورة الفرنسية أفادت من روايات سبقتها بعقود!، هذا يعني بأنّ الروائي سيبتعد حينا، أو يعتكف في عزلة قد تطول وقد تقصر، كي يختزن أحداث وشخصيات روايته، يُضاف إلى ذلك لجوء الروائي إلى بعض فنون الكتابة حتى يبتعد عن الآن، منها مثلا استخدام الاسترجاع "فلاش باك" أو الميتاسرد أو تعدد الأصوات، حتى يُتاح له التحرك في وعاء خيالي غير محدود، ربما يدعمهُ أحيانا بوقائع أو مجسَّدات مثبتة واقعيا، وبهذا يحتاج الرواة إلى الانتظار حتى تختمر الأفكار والأحداث والشخصيات التي يسعى الروائيون إلى زجّها في الرواية لتقديم حبكة ناجحة ترتفع بالعمل إلى درجة النجاح.

** ما هي الرواية التي تمنيت أن تتناولها بشكل مغاير؟

- قبل عقدين أو أكثر أغرِمتُ بأسلوب عبد الرحمن منيف، بدأ ذلك حين قرأت روايته "شرق المتوسط" ثم شرعتُ بقراءة كل رواياته، وما أشدّ سحر الكلمة لديه في أقصر رواياته وأعني رواية "قصة حب مجوسية" وبطلتها المتفرّدة ليليان، لأذهب إلى مدن التيه والأشجار واغتيال مرزوق، وسباق المسافات الطويلة، والعديد من رواياته باستثناء روايته الرمزية الوحيدة "حين تركنا الجسر" التي اختلفت عن جميع أعماله، وحين أُعلْنَ في ذلك الوقت عن مشروع روائي مشترك يجمع بين منيف وجبرا إبراهيم جبرا في رواية عنوانها "عالم بلا خرائط" ظل محبّو هذين الروائيين الكبيرين يترقبون هذا العمل وأنا منهم بطبيعة الحال، وعندما قرأتُ عالم بلا خرائط مرةً، أعدتُ قراءتها ثانيةً، المفاجأة أنني لم أكتشف مطلقا أيَّ الأسلوبين لمنيف وأيهما لجبرا، كان الأسلوب واحدا متماسكا أخاذا والرواية مسبوكة في لغة وإيقاع لا يمكن أو يصعب معهُ التفريق بين الأسلوبين، بيني وبين نفسي كنتُ أتمنى لو تعمَّد الروائيان الكشف عن أسلوبيهما، وتمنيت لو أنني كنتُ أنا الشريك لأحد المؤلّفيْن في هذه الرواية كي أكتب حصّتي بطريقتي التي تفردني عن أسلوب شريكي، كانت أمنية عابرة، ولا أعرف مدى صحّتها أو مغالاتها، ولكن تبقى عالم بلا خرائط تحتفظ بعالمها المختلف ومدينتها الخيالية "عمورية" وبطلتها الخرافية نجوى العامري!.

** ما هي مشاريعك المستقبلية في حقل الكتابة والتأليف؟

- من حَسنات الجوائز أنها تمنحك دافعا إضافياً وزخماً كي تخطط للجديد دائما، مع مضاعفة مسؤولية التفوق على العمل السابق، وهذا يتسبب بقلق مستمر وضغط نفسي إبداعي مزدوج، ربما يكون سببا بالنجاح أو الفشل، الطيّب الصالح حشرتني في زاوية صعبة، قد يصعب التخلّص منها، هناك رواية لا تزال تختمر أحداثها، هي من بطون الماضي طبعا، الشروع بكتابة عمل جديد أمر مخيف، هكذا أشعر بيني وبين نفسي، لا يمكنك أن تكتب قبل أن تتيقّن من أمرين حاسمين، الأول: هل لديك جديد متميز يتجاوز ما كتبتهُ سابقاً؟، الثاني: هل لديك قدرة على مواصلة الكتابة حتى نهاية العمل الذي بين يديك؟

هذان أمران أركّز عليهما كثيرا قبل البدء بالكتابة، أنجزت بعد مجموعة لغة الأرض مجموعة قصصية أخرى، تبنّت طبعها دار نشر مهمة، ربما تكون جاهزة للتوزيع في العام 2020. وهناك كتاب نقدي عنوانه "محاولة لتنسيق أحزان العالم"، أعمل على تنقيحه وعرضه على بعض الأصدقاء قبل النشر.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي