الحمائمُ لا تعودُ أحياناً

اسماء محمد مصطفى

2019-10-15 05:50

حطت حمامتان على شرفة البيت في ذلك الصباح، حيث وقفت السيدة البغدادية التي جاوزت الخمسين عاماً، تنظر الى السماء تارة، وتارة أخرى الى الجمع المتجمهر الذي كان يتبادل الحديث والتصورات، بعد أن أعلنت خطى الدبابات في شوارع المدينة عن انتهاء الحرب بسقوط نظام الحكم.

نظرت السيدة الى الحمامتين الهادئتين اللتين وقفتا على حافة الشرفة من جانبها الآخر. أحضرت صحناً فيه ماء ووضعته أرضاً عند ذلك الجانب كما نثرت بعض الحبوب بقربه وابتعدت الى الجانب المقابل.. فنزلت الحمامتان لتشربان من الماء وتلتقطان الحبوب.

ـ أتراهما يعودان الآن؟

سألت زوجها، وقد تحلق وجها شابين حول رأسها، نظرا بحنين لها ولزوجها، وهما يمدان أياديهما اليهما بصمت من خلف قضبان معتقل في صحراء.

قالت بحزن وحسرة:

ـ أمازال سجن نقرة السلمان على حاله كما رأيناه في آخر زيارة لنا لعلي ومحسن؟

ـ نعم. ولا أدري لماذا سفرّت السلطة أختي وزوجها الى ايران وأبقت على ولديهما الشابين في المعتقل؟ لو سفرّتهما لكان الامر أهون عليهما وعلينا من اعتقالهما. كانا بريئين لم يفعلا شيئا.

ـ أن تكون كرديا فيليا.. كان ذلك ذنباً في نظر السلطة.. ليكن الله في عون أختك وعون أمهات المعتقلين الذين كانوا معهم. أنا أم وأعرف ماذا يعنيه فراق الأبناء. كانا ينتظران زيارتنا منتصف كل شهر بشوق.

ـ وكانت رؤيتهما لنا تخفف عنهما الهم والحرمان والبعد عن والديهما. حتى هذا حُرما منه بعد أن منعت السلطة الزيارة.

في آخر لقاء، قال علي ومحسن لخالهما وزوجته إن إدارة المعتقل سلمتهما بذلتين عسكريتين مع الآخرين.

كلما فكرت زوجة الخال بالشابين في أثناء وقوفها عند الشرفة، كانت الحمامتان تأتيانها من نقطة ما في السماء، وتحطان عندها قليلاً ثم تحلقان بعيداً.

كثيراً ماعولت على إشارة القدر تلك، وعلى ماتراه في أحلامها من أنهما عائدان كما الحمائم، يذهبان ويرجعان.

لطالما رأت في أحلامها قبل دخول الدبابات رموزاً وأحداثاً توحي بعودة الشابين من غياهب المجهول. لكنها في الليلة التي داست الدبابات شارعهم، رأت في منامها أن علياً ومحسناً وقفا ضمن جمع من الشباب وسط الصحراء وهم ببزاتهم العسكرية. سأل محسن شقيقه علي إن كانت لديه فكرة عما ينتظرهما في تلك الصحراء، وإن كان من الممكن أن ترسل لهما السماء معجزة تمنحهما حريتهما وتبشرهما بعودة. ضحك علي ضحكة مريرة ممزوجة بسخرية، وهو ينظر الى الأجساد التي بدأت تتساقط واحدا تلو الآخر.

حرية..؟! عودة؟!

تلكما آخر كلمتين قالهما قبل أن تظهر حماماتان في السماء من حيث لايدري، أصابهما الطلق الناري فسقطت إحداهما على جثة علي، والأخرى على جثة محسن، وامتزجت القطرات الحمر مع بعضها وهي تسيل على الرمال.

كان ذلك أيضاً آخر حلم او رؤيا تراها زوجة الخال عنهما تلك الليلة.

في الصباح وخزها قلبها وهي ترى الحمامتين بعد ارتوائهما من ماء صحنها وشبعهما من الحبات، ترتفعان بعيداً عن شرفة بيتها، فيصيبهما طلق عشوائي، وتسقطان بعيداً عن مدى نظرها في ذلك الصباح.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي