موتُ الضعفاء

علي حسين عبيد

2019-02-19 06:03

تقاطر أهالي القرية إلى ضفة النهر وكان رجل القرية الكبير قد وصل آخر الناس وتضافرت الأجساد إلى جانب بعضها على امتداد الجرف وأطلقوا العنان لأبصارهم فوق صفحة مياه النهر، علَّهم يعثرون على أي أثرٍ للفتاة الصغيرة التي اختفت تحت سطح الماء ظهيرة هذا اليوم، وكانت من بين حشد الناس أمها التي ألقت بنفسها أكثر من مرة في النهر حال سماعها خبر غرق ابنتها الوحيدة من قبل أحد الصبْية، ولو لا وجود عدد من شبّان القرية ورجالها لكانت قد لحقت بابنتها، وأخيراً تحلَّق حولها عدد من النساء وامسكن بها بقوة وفي اللحظات التي كانت تفلتُ فيها من أيدي النساء، كان يتدخَّلُ عدد من الشبّان لإعادتها الى مكانها، فيما شرع عدد آخر منهم في السباحة والغوص إلى أعماق النهر علَّهم يلتقطون الفتاة الغريقة، ولكنَّ اهتياج المياه وتدفقها الصاخب كانا يشكلان عائقاً كبيراً أمام بحثهم الدائب إذ كانت أجسادهم تلبطُ وسط صخب المياه كأسماك صغيرة لا تقوى على مصارعة التيار المتراكض في النهر، أمّا الأجساد التي كانت تغوص إلى الأسفل فإنها سرعان ما تشهق فوق سطح الماء لاهثةً متعبة حتى بدا للجميع بأن البحث عن الفتاة بهذه الطريقة ما هو إلّا ضرب من العبث، مضت ساعات طويلة دون أن يعثروا على أي شيء يدل على وجود الفتاة في مكان ما من النهر وبدأت الشمس تنحدر باتجاه الأرض فيما أخذت الأم تؤكد لحشد الناس المتراكم حولها بصوت عال تشوبه حشرجة متقطعة باكية بأن ابنتها لم تقرب النهر ظهيرة هذا اليوم وان أحداً من أهالي القرية الكبار لم يرَها حينما غرقت ولم يؤكد لها ذلك قطّ، بل إن عدداً قليلاً من الصبية الصغار هم الذين اخبروها بغرق ابنتها وهي لا يمكن أن تصدق ما قاله هؤلاء الصغار – المخابيل – كما كانت تنعتهم، غير أن الجميع كانوا على يقين مُطلقّ بأن الفتاة قد غرقت وان أمّها هي وحدها لا تريد أن تصدق ذلك، أمّا الصبيّ – عادل – فقد وصل متأخراً إلى ضفة النهر واعتقد هو الآخر بأن – مريم– لم تغرق وان الأمر برمته أشبه بخدعة أو إشاعة مقصودة بثَّها ابن رجل القرية الكبير – جابر– هذا الصبي الذي أرهقني كثيراً وهو يحاول أن يسرق مني حبيبتي مريم، لقد حذّرتها كثيراً من هذا الولد الأرعن لكنها لم تكن تصغي لتحذيري وكنت غالباً ما أراهما هنا على ضفة النهر، ينزلان إليه، يسبحان ويتراشقان بذرات المياه وكنت حينئذٍ اختبئ خلف تلّةٍ قريبة تحجبني تماماً عنهما وأتابع نشوته ومرحه بمرارة لا تطاق، وحين أرى يده تمتد إلى شعر رأسها المبلل لتزيحه عن وجهها الأبيض المشعّ فأنهضُ مصعوقاً لكن يداً لا أراها تمتدّ وتمنعني، وكنت ألمح على حزناً مريراً يتكاثف في عينيها وأحس حرارةً تلتهم جسدي كلّهُ فاقفزُ من مكاني واركض صوبهما وألقي بنفسي بينهما في ماء النهر واستلُّها من يدها الصغيرة الناعمة واخرج بها إلى الشاطئ وألقي بثوبها فوق صدرها الصغير المتوهج وأركع أماها وابكي، وتمد يدها إلى رأسي، تمسّدُ شعري وتركع قبالتي تماماً وتمسح عيني وأحسُّ بأنفاسها السريعة الباردة تلطِّفُ وجهي فأبتسم وارى وجهَها الضاحك يشتعل أمام عيني جمالاً وبراءةً وحينئذٍ لا أجد أثراً لذلك الأرعن...... هو لم يكنْ يخافني قطّ، كان يأتي ويلاطفها متى ما شاء ذلك، وكان يختفي حينما يحلو له الذهاب.... وكنت لا أجد كلمةُ أوبِّخ بها مريم أو أحذِّرها إذ أنّ نشوتي كانت تطفئ حقدي عليه وتشلُّ قدرتي على التحدّث عنه وتلغي حزني تماماً، وكنّا أنا ومريم نرجعُ إلى مياه النهر.... نسبح... نتراشقُ بالماء... نتبرَّدُ ونمرح... فأنسى حينئذٍ كلّ شيء....…

اقترب الصبي – عادل– من أم الفتاة وجلس جنبها، لكنّهُ لم يكن يبكي بل أكد لها بأنَّ مريم لم تغرق وقد أبصر الجميع فرحةَ الأمّ المفاجئة واحتضانها للصبي عادل حين قال لها بأنه ظهيرة هذا اليوم كان ينتظر مريم هنا على ضفة النهر في هذا المكان، لكنها لم تأت ولم تقرب النهر، وأكد لها بنبرة واضحة متألمة بأنَّ – جبّار– هو الذي سرق مريم واختفى بها في مكان ما وربما أجبرها على ذلك (وما عليك الآن إلّا أن تبحثي عن هذا الأرعن لتجدي ابنتك).... قفزت الأم من بين أيدي النساء واشرأبت بعنقها باتجاه النهر وصرخت بنظرة مقتولة باكية (قلت لكم إنها لم تغرق ولم تقرب النهر) ورددت ذلك أكثر من مرة، فيما كان عدد من الرجال والشبان يبحثون بدأب عن الفتاة وليس ثمة منهم من أعار اهتماماً لهلوسة الأم أو لكلمات الصبي عادل الذي راح يؤكد لهم مرة تلو أخرى بأنّ مريم لم تغرق.

أخذ البحث يتزايد ويبدو أكثر جديةً ونشاطاً ذلك لأن الشمس كانت قد بدأت تنحدر سريعاً باتجاه الأرض، وكانت الأجساد التي تحتشد في ضفة النهر والتي تبحث عن الفتاة تصغي بارتياب يشوبه الخوف إلى الرجل الكبير حين كان يردد بصوت باهت (نرجو أن لا تنام البنت ليلتها هذه في النهر) ويردف: إن أمها لا تريد أن تصدق غرق ابنتها ويقف معها هذا الصبي المخبول عادل، لكن ابني جبار أكد لي بأنّه رأى بأمِّ عينيه صراع البنت في تلك اللحظات الأخيرة التي كانت تشهق فيها عالياً وتلوّحُ بذراعيها الصغيرتين لمن كان يقف على الجرف ورأى ارتعاش أصابع كفّها والاتساع المفاجئ لعينيها وهي تطل للحظة بوجهها فوق مستوى الماء ثم تختفي لتطل مرة أخرى حتى يئست فاختفت تماماً، ولم تترك في مكانها سوى بقبقة أنفاسها التي أسكتتها المياه حين دخلت فمها وملأت رئتيها وصدرها.

أذهلتني كلمات رجل القرية الكبير، وظللتُ صامتاً في مكاني لبرهة، إذا كان ابنك جابر قد رأى مريم وهي تصارع الموت في لجة المياه وصخبها فلماذا لم ينزل إليها ويخرجها، لماذا لم ينقذها، أم أنه هرب بها إلى مكان ما، أخذها مني لأبقى تائهاً حائراً بعيداً عنها؟، لم تكن تحبه لكنها كانت تخافه وكنت أرى جزعها وخوفها حينما يُقْبلُ عليها وهي تسبح في النهر، كانت تترك الماء فجأة كما لو أنّ أفعى قد لدغتها لكنه كان يركض إليها.. يهمس لها بكلمات لم اسمعها.. ما كان يقتلني أنها لم تقاومْهُ بل تخشع أمامه وترفع بيديها الصغيرتين ثوبها، تخلعه وتلقي به جانباً وترمي بجسمها في برودة الماء، يقترب منها فتبتعد ويحدث العكس، أصرخُ من مكاني عليها، احذّرها لكنها لم تستجب لي، لماذا يا مريم.. أصرخ لكنّها لا تسمعني، ربما كان يسحرُها هذا الأرعن... لا إنه كان يخيفها.. فأركضُ صوبهما وأقفزُ فوقه، أصارعه لكنه بين لحظة وأخرى يكاد يغرقني فأخرجُ مهزوماً إلى مكان خلف تلتي القريبة وأتابع بعينين مقتولتين هدوءها واستكانتها بين يديه الطويلتين، وبين حين وآخر كانت تستفيق من غفوتها فتفتح عينيها قليلاً وتنظر إليّ، كانت تعرف مخبئي هذا وكانت تسخر مني حين ألوذ به وكنتُ أمضغُ سخريتها وهدوءها وآلامها ببكاء صامت، كنتُ ألمس يأسها بيدي وارى فرحتها حينما اخرج من مخبئي وأقفُ أمامها وأخطو إليها وهي تستكين بين يديه، وكنتُ أرى في الوقت ذاته – رجاءها – الذي يترقرق في عينيها وخوفها عليَّ وأنا أخطو إليها لإنقاذها، تريدني خلاصاً لها ولا تريد.. ألقي بنفسي فوقهما، أحاصرُ عنقهُ بأصابعي، أطوّق ظهرهُ بذراعيّ، أضغطهُ، لكن دون جدوى، تزجرني بيأس، فأخرج مرة أخرى محمّلاً بيأسي ولا أجدُ مأوى سوى مخبئي، وحين يشبع منها يتركها في ماء النهر ويخرج، يرتدي ملابسه ويمضي إلى أبيه كالطاووس، كانت مريم لا تترك الماء حينما ينتهي منها، تتكوَّم فوق بعضها، تُخفي جسدها في الماء ولا تُخرِج سوى وجهها، أتقرَّبُ منها، أجلسُ جنبها، كانت لا تحسّ بي حتى احسب أنها تكرهني أو أنها ما زالت في غفوتها، أحدّثها عن اليد التي تمنعني عن إنقاذها ولا أراها، ألمسُ جبينها، أتحسّسُ عينيها ووجهها، أمشي بأصابعي على خديْها وأمرُّ على ظهرها وساقيْها، لم أكنْ ألمسُ جسداً أنثوياً دافئاً، كان جسدها بارداً إلى حد مروّع حتى تخيّلتُ أن دماءها قد تجمّدتْ تماماً، لم أكن ألمسُ حينها سوى حزنها وخيبتها بي.

وفي لحظة.. خرج من النهر احد الشبان وفي يده قطعة قماش صغيرة متهرئة عثر عليها في قاع النهر بين بعض العروق والنباتات المنتشرة في أعماق النهر واتّجهَ بها إلى رجل القرية الكبير، وفي لمح البصر كانت الأجساد التي تمتدّ مع امتداد الجرف قد تقلّصت وتكوّرت حول الرجل الكبير وهي تنظر إليه بعيون يملؤها الخوف والقلق، وبدأ اللغط يتعالى يتقطع يرفض يؤيد، وكان أغلب الجمع من الصبية والنساء قد اجمعوا على أن قطعة القماش هذه هي جزء من ثوب مريم الذي ارتدته صباح هذا اليوم، هرعت أمها إلى الرجل الكبير فأخفى قطعة القماش خلف ظهره لكنها تشبّثتْ به وتوسَّلت إليه وحينما أبصرت الأم قطعة القماش وجَمَتْ للحظة واحمرَّ وجهها وارتعشت شفتاها وارتجف جسدها كلّه والتفتت إلى الصبي عادل وصرخت (ليس لابنتي ثوب بهذا اللون) احتضنت عادل وركعت عند قدميه وتشبثت به ( هل رأيت مريم .. هل رأيتها وهي ترتدي ثوباً من هذا القماش .. هل رأيتها ترتدي ذلك؟ ) ثم تشمَّمتْ قطعة القماش وهي تقطر ماءً .. تشمَّمتها أكثر من مرة والتفتت إلى الرجل الكبير وحدَّثتهُ بنظرة صافية لا تشوبها أيما رعشة أو ارتباك ( ابنتي ليس لها ثوب من هذا القماش ) ورمت قطعة القماش في وجهه. أما عادل فقد أكّد مرة أخرى لأمها ولحشد الناس وللرجل الكبير بأنّهُ يعرف جميع الثياب التي ترتديها مريم لكنه لم يرَها بثوب من هذا القماش قط، وأكد مرة أخرى أنّ مريم لم تغرقْ وإذا أردتم أنْ تعثروا عليها فابحثوا عن جبار، ونظر إلى الرجل الكبير وقال له بصوت يضجُّ بالحقد: أين ابنك، ابحث عنه وأعدْ الفتاة لأمها، وطأطأ رأسه وأخذ ينشجُ بصمت. لم يكن لكلمات الصبي عادل وقعٌ على رجل القرية الكبير، كان يرى أنّ هذا الصبيّ مصاب في عقله وأن كلامهُ هذا ليس سوى هذيان طفل ممسوس لا يعرف من الدنيا أي شيء. أما ما تبقّى من حشد الناس فقد كان همّهم العثور على الفتاة قبل حلول الظلام لاسيما أنّ قرص الشمس قد اختفى وسحبت أشجار النخيل ظلالَها من فوق سطح الماء، وبدأتْ ملامح الظلام تُفْرِح الرجل الكبير فيما كانت تُقلقُ أهالي القرية. لكنَّ الليل كان هيمن فعلاً على النهر وعلى حشد الناس وبدأت معالم التعب والضجر تظهر على الباحثين من شبّان القرية، في الوقت الذي كانت تلوحُ فيه بضعة شموع خافته حملتها الأم إلى النهر راجيةً أهالي القرية أنْ لا يتركوها وحدها مع ابنتها التي ستقضي ليلتها هذه تحت الماء، ومع اشتداد الظلام بمرور الوقت، والترقّب المخيف والتعب الذي أنهك الأجساد بسبب البحث بلا جدوى، كل هذا وغيره جعل من ذلك الحشد البشري يتناقص سريعاً كأنفاس لجسدٍ مسجّى تتآكل مع اللحظات، ولم يبق منها سوى شهقةٍ أخيرة وهكذا انتهى الأمرُ لثلاثِ ليالٍ، فَلَمْ يبقَ على الجرف سوى الأم والصبيّ عادل وشمعةٌ واحدة تكابدُ في حلكة الليل لتجودَ بضوء خافت ينير لهما كتلةً صغيرةً سوداء كانت قد استقرتْ منذ وقتٍ طويل تحت رأسِ الجسر الذي يمتد فوق النهر، كانت الأم قد شهقت فجأة حينما رأت شيئاً أسودَ أشبهَ بالشعر يتموج فوق سطح الماء، وكان الصبي عادل هو الذي رأى الكتلة السوداء قبل الأم، في البدء ارتعش قلبهُ ثم اخذ يشمّ مع رائحة الليل والحيوانات الصغيرة التي تسكن النهر، رائحةَ حبيبته مريم. لم يكن يبكي، وقف أمام الكتلة التي تطفو فوق ماء النهر بجسد ساكن متصلب، خلع ثوبهُ بصمت وهدوء ونزل إلى النهر وسحب بيده نحو الجرف جسدين منتفخين بوجهين حزينين……

لم يحدثني أحد عن أي شيء، أنا الذي سحبتهما إلى الجرف ورأيتُ بعيني كل شيء، الجميع كانوا قد انسحبوا مع حلول الظلام وأولهم رجل القرية الكبير، وبقينا أنا وأمها، أنا أخرجْتُهما من الماء، مريم حبيبتي وجبار، وبعيني رأيتُ غفوتها واستكانتها وحزنها الصامت، وبعيني - لمْ يقلْ لي ذلك أحد من أهالي القرية- رأيتهُ يتكوَّرُ خلفها وأصابع كفّهُ تطبق على ثوبها الممزَّق من الخلف، رأيتُ (صرختها) المذبوحة في فمها، وسمعتُ من فمها المفتوح المتجمِّد نداءها إليَّ حينَ حاصرها في عمق الماء وعبث بها، بعيني رأيت كلَّ شيء، حزنها، صرختها، وبكاءها الصامت... ركضتُ إلى مخبئي القريب، سكنتُ في مخبئي مشبعاً بآلامي وخوفي وعرفتُ أنّني ميتٌ منذ زمن بعيد، وأنّني الآن لا أقدر على فعل أيّ شيء، أنا الذي لم افعل شيئاً لمريم في حياتها، ترى ما الذي يمكن أن افعله لها بعد أنْ غادرت الحياة!!.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي