بقايا حرب

علي حسين عبيد

2019-01-09 06:31

هاجس سريّ يدفعني كي أتركُ البيت بسرعة، ربما بسبب الرجل النحيف أو غيره، لم أستطع تحديد سبب واضح لتعجّلي، إنني أرغب أن أهربَ من البيت، قبل قليل كان صوت هادئ يملأ روحي سكينة وابتهاجا، والآن هناك قلق غامض مرير يجتاحني، يجب أن اترك البيت، لكنني أعرف مسبقاً ما الذي سأراه في طريقي، أعمدة نور مضاءة تحت أشعة الشمس، وجوه ناس موزَّعة بين الحيوية والخمول، سيارات طائشة ومتَّئدة على إسفلت الشوارع، ولكنَّ شعورا مباغتا دهمَني وطغى على كل شيء في داخلي، إنهُ الرجل النحيف الذي يتّكئ على الجدار، يجب أن أصلَ إليه، منذُ أعوام وهو يجلس في نفس المكان، يغيب ويعود فجأة، أحيانا تطول غيبته، لكنني على يقين بأنه سيعود، وها قد عاد فعلا، أُفاجَأ به هذا الصباح يجلس في مكانه المعتاد، متطلِّعاً إلى الأمام باتجاهٍ واحدٍ، بعينيه الواسعتين اليقظتين، الشيء الوحيد الذي يدلُّ على وجود حياة في جسدهِ هو عيناه الواسعتان، وما عدا ذلك فهو جسدٌ هامدٌ مجردٌ من ملامح الحياة، قبل أيام عاد من جديد إلى مكانه الذي يتواجدُ فيه، الغريب إنني متعلق به حدّ الهوس، صار لزاماً على نفسي أن تراهُ صباح كل يوم، وحين يغيب تنقبض أنفاسي وأعيش مأساة الانفصال عن الواقع والعالم، واستسلم للشرود الذي يعرضني الى إحراج كبير في عملي وفي الشارع وفي البيت، وأحيانا أتعرَّض لعقوبات توبيخ وإنذار بالطرد من العمل، لكنهُ اليوم سيأتي في هذا الصباح، سأجده جالسا بمكانهِ مطلقاً بصرهُ نحو نقطة ما، ما الذي يربطني بهذا الرجل، هكذا أسأل نفسي في أثناء العمل، في النهار وفي الليل، أقتل ساعات طويلة وأنا أودُّ معرفة سرّ علاقتي به، وكلما قرّرتُ أن اقتربَ منهُ وأحادثهُ أجد نفسي في الصباح، في لحظة وصولي إليه، عاجزا عن محادثتهِ او الجلوس جنبه، أحيانا اشحذُ عزيمتي بإصرار عجيب وأصمّمُ على محادثتهُ في الغد، لكن في الصباح حين أراه وجهاً لوجه، تتبخرُ عزيمتي ويخذلني تصميمي وأُصاب كالعدة بالخرس.

هذا الصباح سأضعُ حداً لهذا التردّد، سأصلُ إلى مكان الرجل النحيف، سأحنو عليه وأحيّيه بتحية الصباح، سوف يردُّ تحيتي ويبتسمُ، وحينذاك سأجلسُ جنبهُ، وفعلاً هذه المرّةُ جلستُ واتخذتُ هيئتهُ تماما في الجلوس، عجيزتي إلى الأرض وظهري إلى الجدار، اسحبُ ركبتيّ الى صدري كما يفعل هو واتّكئ عليهما بذراعيّ، وأطلقُ بصري إلى الأمام، سأرى مكاناً مهشّماً بناية كبيرة، عمارة أو بيتا ضخماً أو شيئا من هذا القبيل، وكذلك بوابةٍ محروقة متهاوية، وسقف مثقَّب متصدّع، يخرج حديد التسليح من الجوانب ويشرأبُّ باتجاه السماء كأضلاعٍ بشريّةٍ ناتئةٍ، وهناك صمت ثقيل كالموت يهيمنُ فوق المكان، الرجلُ النحيف لا يعبأ بجلوسي إلى جانبهِ ولم ينتبهْ إليّ، أستدير بوجهي صوبهُ أتحدث إليه بصعوبة بالغة، كأنَّ الهواء كلهُ غادر صدري، والجفاف ألصقَ لساني في سقف حلقي، الرجلُ النحيف لا ينظرُ إليَّ ولا يسمع مفرداتي الواهنة، كأنهُ يشبهُني، ربما كان أخي ونسيته بسبب غبار الحروب، لكنني لا املك سوى أخٍ واحدٍ خطفته إحدى الحروب وذاب في أحضانِها، الفروق الجسدية بيني وبين هذا الرجل الذي لا يملّ الجلوس هنا ضئيلة، هو نحيف وأنا أكثر امتلاءً وعافية، شعرُ رأسهِ أشيَب وشيبي في أول الطريق، بطنه مقعَّر وأنا أكاد أتباهى بكرشي المدوَّر الصغير، عيوننا تتشابه لكن عينيْه أشدّ بريقاً مني وأكثر اتساعاً، ظلَّ صامتاً كالحجرِ الميتِ، أوصلني إلى حالة يأسٍ تامة منه، مضتْ ساعةٌ ولم أصلْ معهُ إلى أيّ شيء، توبيخٌ جديد في الطريق إلي من ربّ العمل وربما إنذار بالفصلِ من الوظيفة، لكنني لن أغادر هذا المكان، عليكَ أنْ تتكلمَ، أو تُفصح قليلا عن نفسك، عشرةُ أعوامٍ وأنتَ تجلسُ بمكانكَ هذا، تأتي إليه وتغادرهُ ثم تعودُ وتغيب كما يحلو لك، لا أحد يعرفُ أين تمضي ولماذا فجأة تعود، الصمتُ ديدنكَ الدائم، والنظرُ إلى أمام صوبَ نقطةٍ ما هدفُكَ الوحيد، قل لي متى ستعودُ إلى بيتكَ من دون جيئةٍ أخرى إلى هذا المكان، تملْملَ الرجلُ في مكانهِ، كتِفي يكاد يلامسُ كتفهُ المتحجر، مرَّر لسانهُ على شفتهِ السفلى اليابسة، استدار إلى الجهةِ المعاكسةِ وبصقَ بهدوء، بريقُ عينيهِ بدأ يخبو وينطفئ، رأيتُ دمعات تتساقطُ وديعةً نحو الأرض، للمرةِ الأولى أراه يبكي، عشرةُ أعوامٍ والضوءُ يسطعُ من عينيه، والآن ينطفئ ذاكَ السطوع ويبدأ الرجل النحيف بالبكاء الصامت، وجدت نفسي أبكي معهُ بهدوء، لا ادري كيف حدث هذا، مددْتُ يدي إلى جيبي، أخرجتُ منديلاً أبيضَ ومسحتُ عيونَ الرجل النحيف وهبطتُ إلى فمهِ وبلَّلتُ شفتيْهِ، الآن إلتفتَ إليَّ، فرحتُ بشدّة، آه ..... فرحٌ كبيرٌ اجتاح روحي، عشرةُ أعوامٍ لم يكلمْني ولم ينظرْ إليَّ، والآن يجبُ أن يتكلم، بل حتما سيتكلم، قلتُ لهُ ما الذي تفعلهُ هنا كلّ صباح، أيُّ شيءٍ يقودُ خطاكَ إلى هنا؟، نظرَ إليَّ بهدوء، تمتمَ بكلماتٍ مبهمةٍ، أصغيتُ لهُ بكل طاقتي، لكنني لم افهمْ شيئا مما قالهُ، أخرجتُ سيجارةً وقدمتُها لهُ لكنهُ في الوقت ذاتهِ اخرجَ سيجارةً ووضعَها في فمهِ دونَ أن ينظرَ إليَّ، أخرجتُ علبةَ الثقابِ وهممْتُ بعود الثقاب إلى فمهِ، لكنهُ سبقني وأشعلَ سيجارتهُ، قلتُ لهُ ماذا تفعل في هذا المكان كل صباح؟، امتعض الرجلُ مني وابتعد عني قليلا ونفث دائرة دخانٍ باتجاه السماء، ساعتان وأنا أجلسُ إلى جانبه لكن لم أصل إلى شيء يُذكر، لا ريب سأُطرَدُ من العمل إذا بقيَ الحالُ هكذا، تكلَّمْ أيها الرجلُ، قُلْ شيئاً أيَ شيءٍ، أكذبْ أو تخيَّلْ، إحلمْ أو بالغْ بالحديث، أنت حرٌّ، فقط تكلَّمْ، أطلقْ لسانكَ من طوقِ الصمتِ، أنتَ ستكونُ سبباً بطردي من العمل، وأنا أعيلُ أطفالاً ونساءً، وأنتَ لا تقبل بذلك قطعاً.

اقتربَ منّا طفلٌ معافى أحمرُ الوجهِ لامعُ العينين وشعرِ الرأسِ، فجأة أقبل عليَّ وطبعَ قبلةً عذبةً على خدي وكرْكرَ مثل عصفور مبلَّلٍ بندى فجر، لم أرَ هذا الطفلَ من قبلُ، لم يقتربْ منَ الرجلِ النحيف، وحين لاحظ الطفلُ دهشتي وخمولي وصمتي، أصابتهُ خيبةٌ كبيرةٌ مفاجئةٌ، تراجعَ قليلاً وغادرَ مثل طيفٍ خاطفٍ، سألتُ الرجلَ النحيف مَنْ يكونُ هذا الطفل، بكى الرجل بنحيبٍ مسموع وغطّى وجههُ بكفّيهِ، أنا فرحتُ حقاً، تصوَّرتُ أنهُ سيتكلمُ الآن، أخرجتُ منديلي ومسحتُ عينيه ووجهه، قلت له أعرف أنني أثقلتُ عليك، سأغادر وابتعد عنكَ الآن، ولكن أرحْ روحي أيها الرجل، فقط قلْ لي ما الذي تفعلهُ هنا في كلّ صباح، رفع ذراعهُ ومدَّها إلى الأمام وأشار بكفّهِ إلى هناك، إلى النقطة التي يصبُّ عليها بصرهُ وقال: أنظرْ هناك، قلتُ نعم أرى البناية أو العمارة أو البيت المحطَّم وماذا بعد، قال: لا أنظرْ إلى البوّابة، نعم بوابة الحديد المحروقة أراها، هناك بالقرب من البوابة يقف الطفل، قلتُ: أيَّ طفل؟!، نعم الذي قبَّلك قبل قليل، قلت: ليس هناك طفل، فقط البناية المهدمة والبوابة، قال: دقِّق جيداً هناك الطفلُ يشير بكفهِ إليكَ، نعم إنهُ يلوِّحُ لك، ويدعوك إليه، انهضْ الآن، احمل جسدك المتحجِّر، أسرعْ أخطُ إلى طفلكَ، صدّقني انه يدعوكَ إليهِ بإلحاح.

نهضتُ رغم أنني لم أرَ الطفلَ، وقفتُ بكامل قامتي، فشعَّ جسدُ الطفلِ أمام بصري مثل قرص شمس تُشرقُ توّاً، فاجأني المنظرُ وحيَّرني، سألتُ الرجلَ النحيف وبصري مصوَّبٌ على جسد الطفل، لكنه لم يجبْني، كرّرتُ سؤالي ونظرت إلى الرجل الذي غاب فجأة عني، إلى أين ذهب؟؟ رأيتُ أثارَ أقدامهِ على التراب، الرجلُ غاب، لكن الطفل يضيءُ بقامتهِ عند البوابة ويلوِّحُ بذراعهِ التي تشبهُ شريطاً فسفورياً برّاقاً، هممْتُ إليهِ، تلاحقتْ خطواتي نحو بوابة البيتْ المحطَّم باتجاه الطفل، ضحك فتألق وجههُ وكلما تقرَّبتُ منهُ، كانت ملامحهُ ترسم في ذاكرتي طفلاً أعرفهُ لكنّهُ ضاع مني منذُ أعوامٍ طويلةٍ، تمعَّنتُ في وجههِ، عصرتُ ذاكرتي التي هدَّها الزمنُ واللهاثُ وراء لقمة العيش، نعم ها أنا أراهُ بوضوح، ها أنا أتذكّرهُ، إنهُ ولدي... يا إلهي! ركضتُ إليهِ بلهفةِ العمرِ كلّه، وما كدتُ ألمسُهُ حتى كرْكرَ ضاحكاً، ودخل بوابة البناية، فدخلتُ وأسرعتُ خلفهُ، بدت البنايةُ مهشَّمةً من الداخل أيضا، ركام فوق ركام وفضاء اسود وصراخ مكبوت وعيون معلقة في السقف الممزق وعلى الجدران وأيدٍ ناعمة وأصابعَ مبتورةٍ وأفواهَ طفولةٍ تبكي ووجوه هدَّها القهر وأجساد صغيرة متفحّمة، ضاع ولدي في هذا الركام الغريب، لففْتُ زوايا البناية وجدرانها، صرخت بكل ما أملك من قوة، ولدي، تردَّد صدى صوتي وامتزج بالصراخ والهسيس المبهم، طلع طفلي من زاوية ما، ضوءٌ اصفر ملأ فضاء البناية، ضوء أبيض شعَّ في مكانٍ آخر، أضواءٌ كثيرة امتزجت مع بعضها فألغتْ صورَ الموت، جاءني ولدي، قبَّلني القبلةَ نفسها، هدأتْ نفسي وشعرتُ بالعطشِ، أسندتُ جسمي إلى الجدار المضاء، جلس ابني إلى جانبي، قلت له أين كنت، عشرُ سنوات وأنت غائب، أمُّكَ، أخوتك الكلّ يسألون عنك، كان الطفل ينظرُ نحوي دون أي كلام، لكنَّ الدهشة والفرح يكسوان عينيهِ، أسند رأسهُ إلى صدري، سكنتْ روحي وحاصرني العطش، بغتةً رأيتُ فوهةً سوداء على الجدار المقابل، مستطيلة ضلعها الأعلى مقوَّس انبثقتْ كفم تنّين، قلت لطفلي: أتعبتْني ساعات الانتظار والبحث عنك، أريدُ ماءً، نهضَ الولدُ ونظر إليَّ بابتهاجٍ وقال: لحظات وأعود لك بماءٍ باردٍ، خطا باتجاه الفوهة السوداء، صرختُ عليه لكنَّ صرختي تبدّدتْ، بلعتْهُ الفوهة، شفطَهُ فم التنين، سمَّرتُ بصري على الفوهة التي تناسلتْ على نحو عجيب، عشرات الأفواه السود ملأت جدران البناية، كلها متشابهة بالشكل والحجم، أفلتَ مني فمُ التنين، ضاع بين الفوهات الكثيرة، جلستُ ساعات أرقبُ طفلي دون جدوى، لا ولدي ولا الماء، صرخت بكل صوتي عليه... لكنْ ليس سوى الصدى، إبعادي عن العمل أصبح أمراً مفروغاً منهُ، فكرتُ أن أخرجَ للرجل النحيف، لعلّهُ عادَ الآن إلى مكانه المعتاد، إنهُ يغيبُ في لحظةٍ ويعودُ في أخرى، سأسألهُ عن الطفل الذي قبَّلني قبل ساعات، ربما يعرفُ اسمهُ، ربما هو ابني الذي ابتلعه فم التنّين، خرجتُ من البوابةِ المحترقة، اتجهتُ إلى مكان الرجل الذي لم يعدْ إليهِ بعد، جلستُ بمكانهِ واتخذتُ هيئتهُ بالجلوس تماما، أسندتُ ظهري إلى الجدار وسحبتُ ركبتيّ إلى صدري كما كان يفعل، أطلقتُ بصري إلى الأمام، نحو نقطةٍ ثابتة بانتظار الولد الذي سيطلُّ مرةً أخرى من بوّابة البيت بعد عشرة أعوام من الغياب.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا