خدعة بوتين النووية

اندبندنت عربية

2022-03-20 03:43

بقلم: أولغا أوليكر- فورين آفيرز

لم تُشنّ سوى قلّة من الحروب بالترافق مع مقدار مماثل من المواقف المتصلة بالسلاح النووي، بل ربما لم يحصل ذلك أبداً، على غرار ما يحصل الآن مع الغزو الروسي لأوكرانيا. فقبل أسبوع من الشروع بالهجوم، أجرت موسكو تدريبات كانت مقررة أصلاً، على أنظمة إطلاق الأسلحة النووية الخاصة بها. وبعد أيام قليلة، اتّهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا زوراً بأنها تصنع أسلحة نووية.

وحينما بدأ الغزو، حذّر بوتين من أن أي دولة خارجية تقف في طريق روسيا ستواجه "عواقب لم ترَ مثلها على الإطلاق في تاريخها كله"، وهو تهديد نووي يكاد يكون مكشوفاً. وحالما بدأ القتال تقريباً، هاجمت القوات المسلحة الروسية منشآت نووية واستولت عليها، بذريعة كاذبة مفادها أن كييف تريد أن تصنع قنابل قذرة [يشير المصطلح إلى قنابل تقليدية يصار إلى خلط متفجراتها مع مواد مشعة نوويّاً. ويؤدي انتشار المواد المشعة على مساحة معينة إلى تلويثها نووياً ما يجعلها غير صالحة لعيش النبات والحيوان والبشر]. وفيما بدأت القوات الروسية تواجه مقاومة عنيدة، أعلن بوتين أن قوى الردع الروسية التي تشتمل على أسلحتها النووية، انتقلت إلى "نظام خاص في الواجب القتالي". وبعد ذلك أجرت [تلك القوات] مجموعة أخرى من تمرينات إطلاق أسلحة نووية (التي يحتمل أنها روتينية لكنها جديرة بالملاحظة أيضاً).

لقد أرعبت تصرفات بوتين عديداً من المحللين والمراقبين، ولسبب وجيه. فكلما أبدى زعيم دولة نووية استعداداً لاستخدام أسلحة نووية، يستحق أن يؤخذ الأمر على محمل الجد. وينطبق هذا بشكل خاص على الحالة التي تكون فيها التهديدات آتية من رجل يسيطر على أضخم ترسانة أسلحة نووية في العالم، وقد انخرط أثناء إطلاقه التهديد النووي، بغزو عسكري واسع النطاق لا مبرر له، طاول دولة مجاورة. إن بوتين قوي وعدواني، وهو بوضوح لا يقيم وزناً للخسائر البشرية.

وعلى الرغم من أن الكرملين قد أظهر استعداداً لقتل المدنيين ونشر الفوضى، فإن استعمال أسلحة نووية من شأنه أن يكون تصرفاً يحيد عن عقيدة روسيا النووية نفسها. إذ لا تحتاج البلاد إلى تلك الأسلحة من أجل إلحاق هزيمة بكييف، بل حتى لو فعلت، فإن إطلاق أسلحة تدمير شامل من شأنه على الأرجح أن يؤدي إلى انتقام دولي، بما في ذلك تدخل محتمل تماماً لحلف شمال الأطلسي (الناتو) مباشرة في القتال. وسينطوي ذلك على مخاطرة بوقوع حرب تقليدية هائلة، إضافة إلى مزيد من التصعيد النووي، وتلك نتيجة لا يريدها بوتين. وبدلاً من التفكير بشكل جدي بتوجيه الضربات، فمن المرجح أن يستعمل بوتين شبح التصعيد النووي كغطاء لتكتيكات متوحشة بشكل متزايد على الأرض، ومن أجل الضغط على كييف كي تستسلم. ولعله يأمل أيضاً في أنه عبر التهديد بشن هجمات، سيكون في مقدوره أن يثني حلف الناتو عن زيادة مساهمته في الصراع، أو حتى حمل الغرب على جعل أوكرانيا تستسلم.

وقد فشلت تلك الاستراتيجية حتى الآن. وصمدت كييف ومن يدعمونها. إلا أنهم تجنبوا بحكمة استعمال اللغة التي تزيد من التصعيد واتخاذ خطوات من جانبهم. ويجب أن يواصلوا ذلك، باعتبار أنه على الرغم من أن خطر حدوث تصعيد نووي قد يكون ضعيفاً، إلا أنه حقيقي. إذ تملك روسيا ترسانة من الأسلحة النووية المتنوعة، الكبيرة والصغيرة. وقد ناقش المفكرون النوويون الغربيون والروس، استخدام السلاح النووي كأداة هدفها إظهار التصميم والضغط على الخصوم. وستتفاقم المجازفة بحرب نووية إلى حد كبير، خصوصاً إذا أصبحت قوات حلف الناتو منخرطة بصورة مباشرة في صد الغزو، لأن حرباً مع الناتو ستشكل تهديداً لوجود روسيا وسيادتها، بحسب رؤية موسكو.

واستطراداً، ينبغي أن تواصل القوى الغربية مساعدة أوكرانيا بغرض إقناع موسكو في السير باتجاه معاكس لمسار الغزو، والتوصل إلى تسوية عن طريق المفاوضات مع كييف، على أن تكون تسوية تضمن أمن أوكرانيا. في المقابل، بينما تناقش الدول الغربية أحكام أسلحة جديدة وطرق الاشتباك، ينبغي بها أن تكون مدركة لمخاطر تمدد المهمة وزيادة أهدافها، بل يتوجب عليها أن تتجنب ذلك. إذا قدم حلف الناتو لأوكرانيا مساعدة مباشرة بشكل متزايد، فإن المنظمة ستجازف بأن تجد نفسها في حالة حرب مع روسيا على الرغم من عدم وجود أي نية لديها بذلك.

الكلام رخيص

ليس من السهل التنبؤ بمعنى تصريحات بوتين النووية. وبهدف إبقاء الغرب في حالة ترقب متوترة، تعمّد الرئيس الروسي أن يكون غامضاً. وعلى الرغم من نبرته التي تنطوي على التهديد، فإن تصريحاته لا تتركز بشكل صريح أو حصري على الأسلحة النووية. إذ تشتمل "قوى الردع" بحسب تعريف روسيا، على ترسانتها النووية، وأيضاً على أنظمة توجيه الضربات التقليدية البعيدة المدى التي يجري فعلاً استعمال بعضها في أوكرانيا. ومع أن عبارة بوتين "نظام خاص للواجب القتالي" لم تُستخدم مِنْ قَبْل، إلا أنها لا تؤشر وفق ما يبدو، إلى تغيير جدي في موقف روسيا النووي. وحينما شرح سيرغي شويغو، وزير الدفاع الروسي، تفاصيل ذلك الأمر، ذكر أنه يتطلب توفير كوادر لمراكز قيادة القوة الاستراتيجية النووية الروسية، وكلها تتمتع فعليّاً بعدد جيد من الكوادر. بكلمات أخرى، لم يكن لتلك العبارة سوى القليل من المعنى الحقيقي.

ولو كان لروسيا أن تطلق أسلحة نووية في سياق الغزو، لجاء ذلك متناقضاً مع العقيدة الرسمية للدولة مع خطط فلاديمير بوتين النووية المعلنة. وقد صرحت الحكومة في "أسس سياسة الدولة للاتحاد الروسي في ميدان الردع النووي" بأنها لن تستخدم السلاح النووي ما لم يكن "الوجود الفعلي" للدولة الروسية معرضاً للتهديد أو كانت قدرة الردع النووي لروسيا، أي قواتها النووية بما فيها القيادة والسيطرة، في خطر. وقد شدّد بوتين على سيناريو محدد بعينه، مشيراً في تعليقات شفوية إلى أن روسيا ستستخدم أسلحة نووية إذا تعرضت إلى هجوم صاروخي. لكن، في الحالتين كلتيهما، فحتى إذا تكبدت روسيا خسائر جسيمة في أوكرانيا، لن يرقى إلى الحدود الدنيا المطلوبة لاستخدام سلاح نووي.

وبالطبع، تخضع العقائد للتفسير. وقد يرى بوتين ومستشاروه أن العقوبات الجدية التي فُرضت ضد روسيا والغزو المتعثر لأوكرانيا، يشكلان تهديدات لوجود البلاد، لا سيما مع ارتفاع التكلفة. كذلك قد يُساوي بوتين بين الدولة الروسية وبين قيادته الشخصية التي قد تتعرض للتهديد الحقيقي بفعل الهزيمة في أوكرانيا والعقوبات الغربية. ويملك بوتين عدداً من الدوافع لتجنب الخروج من منصبه. وهناك سياسيون غربيون بارزون يدعون إلى إطاحة مسؤولين روس بمن فيهم الرئيس، وتوجيه تهم ارتكاب جرائم حرب لهم في لاهاي، إضافة إلى أن "المحكمة الجنائية الدولية" فتحت تحقيقاً بشأن سلوك روسيا.

في المقابل، لا يواجه بوتين في الوقت الحالي أي تهديد حقيقي لسلطته، إضافة إلى أن روسيا لا تخسر في ميدان المعركة. وعلى الرغم من المقاومة الأوكرانية الكبيرة، فإن الجيش الروسي يواصل تقدمه البطيء إلى كبرى المدن الأوكرانية. وتحتفظ روسيا بقوة قتالية تقليدية هائلة يمكن أن تستعملها من أجل تدمير أهداف عسكرية ومدنية. واعتماداً على الوضع الحالي في الصراع، فإن استخدام أسلحة نووية لن يخدم أي غاية عسكرية سوى الصدمة والرعب اللذين تستطيع روسيا تحقيقهما بطرق أخرى. ويعني هذا أن الغاية من اتخاذ المواقف النووية حالياً، تتمثّل بشكل شبه مؤكد في ردع التدخل الغربي المباشر في القتال، بما في ذلك ما يهدف إلى الدفاع عن المجال الجوي الأوكراني من خلال فرض منطقة حظر للطيران، أو بغرض إجبار كييف على تقديم تنازلات على طاولة المفاوضات.

في المقابل، لو كانت روسيا تواجه الهزيمة، لاستطاعت ضربة نووية أن تجبر أوكرانيا على الاستسلام. لكن من المرجح أن تحمي تلك الضربة روسيا في نهاية المطاف أو أن تساعد بوتين وحلفاءه على البقاء في السلطة. وبدلاً من ذلك، فإن التداعيات الإشعاعية لهجوم من هذا النوع ستنتشر على مدى مئات الأميال، إن لم يكن أكثر من ذلك، من المساحات التي ستضم بعض أراضي روسيا نفسها وأخرى تابعة لدول الناتو. وسيشكل الاحتمال الأول [انتشارها على أراضٍ روسية] خطراً على موقع بوتين محلياً. إذ لا يُعتبر تسميم المرء لمواطنيه بشكل جماعي، وصفة للنجاح السياسي عموماً. في غضون ذلك، سينظر غالباً إلى الاحتمال الثاني [انتشار الإشعاع النووي في دول الناتو] بأنه هجوم على الناتو، ما سيطلق العنان لإسهام الحلف في الصراع بأسلحة تقليدية، وهو الأمر نفسه الذي تريد روسيا أن تردعه. (إذ تدرك الحكومة الروسية أنها ستخسر الحرب ضد حلف الناتو).

تجنب تام

في سياق موازٍ، إن المخاطرة الضعيفة لا تتساوى مع عدم وجود مخاطرة بالمرة. ويعتقد عديد من المحللين الغربيين أن الكرملين مستعد لاستخدام أسلحة نووية أكثر مما يوحي به علناً. إذ تملك البلاد ترسانة مؤلفة تقريباً من 2000 سلاح نووي غير استراتيجي، أي رؤوس نووية أصغر وأقل تأثيراً لكنها مع ذلك تقترب من حيث القوة الانفجارية من القنابل التي أُسقِطَتْ على هيروشيما وناغازاكي أو تزيد عليها. ويبدو أنه ليس لتلك الأسلحة غرض يُذكر في عقيدة استجابة محضة، ويظهر أنها مصممة للاستعمال في زمن الحرب.

واستطراداً، يعتقد أولئك المحللون، بمن فيهم الذين يعملون لدى حكومة الولايات المتحدة، أن العقيدة النووية الروسية تدعو إلى تكتيك أكثر عداونية، وذلك بدلاً من مجرد الحماية. ويسمّون ذلك التكتيك بشكل متناوب بـ"تصعيد من أجل خفض التصعيد" و "تصعيد من أجل الفوز". وكذلك يؤمنون بأنه إذا واجهت روسيا احتمال خسارة حرب تقليدية، فإنها ستلجأ إلى إطلاق سلاح نووي من أجل إظهار تصميمها وإجبار خصومها على التراجع.

واستكمالاً، من المستبعد أن تكون تلك استراتيجية نووية فعلية لموسكو. وبدلاً من هذا، إذا استعملت روسيا أسلحة نووية للتدليل على عزيمتها، فإن ذلك سيكون لأنها ترى في الواقع تهديداً وجودياً لها، وليس كي تنتصر في صراع تقليدي صغير من شأنها أن تخسره لولا ذلك [استعمال السلاح النووي]. ومن الصعب تخيل أن تهديداً كهذا قد يصدر عن أوكرانيا نفسها. إلا أن استخدام روسيا لسلاح نووي سيكون ممكناً بشكل أكبر بكثير إذا شعرت موسكو أن تدخل الناتو العسكري المباشر بات لا مفر منه. إذ يعتقد الكرملين أنه إذا اندلعت حرب بين الناتو وروسيا فإن الغرب سيستهدف بشكل حتمي القيادة الروسية وسيوجه ضربات استباقية إلى قدراتها النووية. بالتالي، فسيستوفي ذلك بالطبع كل المعايير التي تنص عليها عقيدة روسيا بشأن الاستخدام النووي، وقد يحمل موسكو على إطلاق القنبلة الأولى.

في حال نشوب صراع كهذا، يمكن للغرب أن يحاول إقناع الكرملين بأن لديه أهدافاً محددة. غير أن النهوض بذلك سيكون في غاية الصعوبة وسط ضباب الحرب. فحتى في غياب صراع فعلي بين الحلف وموسكو، ينظر بوتين إلى الناتو بقدر كبير من العداء. وقد أدان بوتين ذلك الحلف لأنه سلّح أوكرانيا، كذلك قارن بوتين بين عقوبات الغرب المالية وبين الإتيان بـ"عمل حربي"، وأعلن أنه سيعتبر أي دولة تسمح للطائرات الأوكرانية بالهبوط على أراضيها "طرفاً في الصراع". إن تلك التصريحات، شأنها شأن تهديداته النووية العامة، مصممة للردع، إلا أنها تعبّر عن أرائه الحقيقية. ولدى إضافتها إلى عقيدة روسيا النووية وموقف الكرملين العدائي [حيال الناتو]، فإن تلك التصريحات تؤكد أهمية تجنّب أي صراع مباشر بين الناتو وروسيا.

وكخلاصة، تعني تلك المعطيات أنه على الغرب أن يكون حذراً في كيفية تعامله مع الغزو المستمر. ويجب أن تواصل الدول الأعضاء في الناتو إمداد أوكرانيا في سياق دفاعها عن نفسها، لكن لا ينبغي بالناتو أن يعمل على إنشاء "منطقة حظر للطيران" فوق أوكرانيا، إذ قد يؤدي ذلك إلى استخدام القوة الجوية الغربية أو التهديد باستخدامها، بهدف منع الطيران الروسي من التحليق في المجال الجوي الأوكراني، وهي خطوة من المحتمل أن تؤدي إلى صدام عسكري مباشر بين الناتو والقوات الروسية. بالتالي، يجب على الدول الغربية أن تعمد إلى إبطاء تنفيذ الخطط المتعلقة بإمداد تجهيزات على غرار الطائرات المقاتلة التي يمكن أن تحتاج إلى استعمال المطارات الخاصة لتلك الدول. ويجدر بالدول الغربية أيضاً أن تتعهد بتخفيف العقوبات القديمة والجديدة إذا خففت روسيا التصعيد وسحبت قواتها.

بالنتيجة، قد لا يؤدي الحذر والتنازلات من هذا النوع، إلى شعور بالارتياح، ومن المؤكد أن هناك دعوة قوية لوضع مقترحات من شأنها أن تتيح لقوات الناتو مساعدة أوكرانيا مباشرة. في المقابل، من شأن تلك المقترحات أن ترفع بشكل كبير درجة الخطورة بأن تصبح الحرب صراعاً أوسع نطاقاً وقابل للتحول إلى صراع نووي. بالتالي، يتوجب أن يرفض القادة الغربيون تلك المقترحات كليّاً. فحرفياً، ليس هنالك ما هو أكثر خطورة من ذلك.

* أولغا أوليكر، مديرة "برنامج أوروبا وآسيا الوسطى" في "مجموعة الأزمات الدولية"
https://www.independentarabia.com

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي