لغة الجسد عند السياسيين.. تفصح أم تفضح؟
اندبندنت عربية
2022-03-03 04:11
بقلم: فيديل سبيتي
كل شخص يملك لغة غير تلك التي يتحدث بها، مشتركة بين كل البشر، وهي لغة الجسد، وتسمى اللغة غير اللفظية، فبواسطة تحريك قسمات الوجه واليدين والأصابع في أثناء الكلام والحديث، يمكننا أن نفهم طبيعة الشخص، إذا ما كان عاطفياً أو حازماً أو متردداً. وبما أن هذه اللغة تهدف إلى إقناع الآخر بفكرتنا، أو نقل إحساس ما له، فإن لغة جسد السياسيين تلقى اهتماماً خاصاً لفهم السياسي من خلالها والرسائل التي يريد إرسالها.
وفي علم النفس وعلوم دلالات الحركات الجسدية، فإن طريقة المشي يمكنها أن تحدد جوانب الشخصية، وكذلك طريقة الوقوف والجلوس. ويتضمن تعريف اللغة الجسدية أو اللغة غير اللفظية مجموعة واسعة بشكل هائل من الإشارات الجسدية، يستخدمها الشخص لمحاولة التأثير في الآخرين، لإقناعهم بفعل الأشياء التي يريد منهم القيام بها.
وهذه الإشارات غير اللفظية لا تعني تحريك قسمات الوجه، وحركات الأعضاء الجسدية فقط، بل طريقة اللمس ومدى التقارب الجسدي من الآخر، وأنواع من الأصوات تخرج من الفم في أثناء الحديث، وكذلك رائحة الشخص أيضاً. فنظرة الحب تختلف عن الكره، وتحريك اليد بعنف تدل على عصبية المتكلم، وقد ننجذب إلى شخص أو ننفر منه بسبب رائحته. فهذه كلها إشارات غير لفظية، يمكن اعتبارها لغة أيضاً.
السياسيون بين اللغة اللفظية والجسدية
اللغة غير اللفظية للسياسيين حول العالم تتمتع باهتمام كبير من الباحثين، ومن السياسيين الآخرين والجمهور أيضاً، فهؤلاء حين يتكلمون يشاهدهم ملايين الأشخاص، تحديداً في فترات الانتخابات وصراعاتها ومحاولات الإقناع فيها، وكذلك في الشدائد والجوائح حين يحتاج السياسي إلى استخدام تعابير جسده بطريقة محددة تسهم في تبسيط ما يقوله وإيصاله إلى أكبر قدر من المواطنين الناخبين أو الذين ينتظرون موقفاً سياسياً ما من أمر مهم.
ولهذا، بات للسياسيين مستشارون معنيون بهذا الموضوع، ويقدمون للسياسي النصائح أو الطرق التي يجب اتباعها لإقناع مستمعيه بوجهة نظره. وعليه أن يلتزم بهذه النصائح، لأن حركة جسدية واحدة غير صائبة قد تثير الغضب أو السخرية من هذا السياسي، كما حدث في احتفال 14 فبراير (شباط) 2012 في لبنان، حين خلع رئيس الحكومة اللبناني، سعد الحريري، سترته على المسرح كي يبدو أكثر شباباً ونشاطاً، أو أنه مهيأ للمعركة المقبلة، لكن الكيفية التي جرى فيها هذا الفعل جعلته محط سخرية من لبنانيين كثر، رأوا فيها حركة مفتعلة وغير متقنة.
وحين مسح الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، دموعه بشدة أمام الكاميرات إبان قتل أحد الطلاب لرفاقه بسلاح رشاش تمكن من شرائه بسهولة من أحد المتاجر في مجزرة موصوفة، وكان أوباما يريد إقناع الجميع بوجوب وقف بيع الأسلحة الفردية في الولايات المتحدة الأميركية، لكن رد المعلقون على إشاراته بأنه يشد بمنديله على عينيه كي تنزلان دموعاً أكثر. فالسياسي عليه الالتزام بنصائح مستشاريه حول لغة الجسد، وأن يؤديها كما لو أنها من تكوينه الشخصي، وأنه يقوم بها بشكل طبيعي وبلا تصنع، وإلا ستنفضح هذه اللعبة بسرعة.
وهناك من يراقبون طريقة جلوس السياسيين حين يستقبلون ضيوفاً مهمين، فطريقة جلوس المضيف والضيف تدل على نوعية علاقتهما الشخصية والسياسية، فهناك جلسات تعبر عن الاحترام وأخرى يفترض بصاحبها أنه يستعرض قوته كأن يعقد رجلاً فوق رجل في مثل هذه الاستقبالات.
ويقال إن المشكلات الأولى لسياسيي العالم مع الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترمب، هي طريقة جلوسه في حضرتهم، وهي طريقة تدل على الغرور والفوقية. ولطالما جرى انتقاد ترمب على لغته الجسدية المتعلقة بكيفية إلقائه التحية على ضيوفهم وجلوسه معهم. أو رفعه رأسه عالياً والتكلم من طرف شفته حين يريد السخرية من أمر أو التشديد على أمر معين.
رسائل بوتين
إريك بوسي وباتريك ستيوارت محترفان في قراءة التواصل غير اللفظي، فالأول معني بأبحاث الإعلام والاتصال في جامعة تكساس للتكنولوجيا، ويعمل عموماً على مواضيع "المعالجة المعرفية والعاطفية للغة السياسيين الجسدية"، وباتريك ستيوارت عالم سياسي ومبرمج معتمد لنظام تشفير إجراءات الوجه (FACS) في جامعة أركنساس، وهو يدرس تعابير الوجه والاستجابات العاطفية لمتابعي السياسيين عبر وسائل الإعلام.
يقول الباحثان إن أقل من 10 في المئة من التواصل الفعلي تتكون من الكلمات المنطوقة، ومعظم عمليات التواصل بين الناس تجري من خلال لغة الجسد، وبعضها من خلال نبرة الصوت.
وطرحا سؤالاً: "بماذا يفكر هذا الرجل؟"، أي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أدى قراره الأخير بإرسال آلاف القوات الروسية إلى دولة مجاورة بجعله محط أنظار كل وسائل الإعلام على أنواعها، وليتصدر نشرات الأخبار حول العالم، وتبدو أفعاله مثيرة للذهول في عالم ما بعد الحرب الباردة، ويحاول كثيرون معرفة دوافعه ونواياه. لذا علينا معرفة ما الذي "تعنيه" الاتصالات غير اللفظية لبوتين عن خطوته الأوكرانية الجريئة؟
يعتبر إيريك بوسي، أن العلوم السياسية عموماً تعاملت فترة طويلة جداً مع المعنى اللفظي، باعتباره الجزء الوحيد المهم من الرسالة، بينما في الواقع يحدث تأثير مقنع بشكل غير لفظي، فالطريقة التي تظهر بها شخصية سياسية صورتها المرئية يمكن تذكرها أكثر من تفاصيل أي بيان أو خطاب سياسي أو مؤتمر صحافي.
وتأكيداً على فكرة الباحث، فإن أي إشارة جسدية غير متوقعة يقوم بها السياسي تصبح مركز النقاش والتحليل في وسائل الإعلام وبين الجمهور وليس خطابه نفسه. هناك مثلاً آخر، حين نزع الرئيس السوفياتي السابق، نيكيتا خروتشوف، حذاءه في مجلس الأمن في جلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وضرب به على الطاولة على مرأى كل سكان الكوكب.
وهكذا بقي هذا الفعل في أذهان الذين شاهدوه حتى اليوم، على الرغم من أن معظمهم ربما لا يعرفون سبب قيامه بهذا الفعل، وهو رفضه إدانة المواجهة الساحقة للثورة المجرية على نظام الحزب الواحد.
أما ما ينظر إليه إيريك حين يريد قراءة سياسي ما، فهو رؤية الأسنان، لأن الأسنان السفلية المكشوفة مرتبطة بإظهار الغضب والتهديد. على النقيض من ذلك، تعتبر الأسنان العلوية المرئية نموذجية للابتسامة وإظهار السعادة والطمأنينة. وتقدم حركات العضلات المنسقة المحيطة بالفم والعينين المزيد من المعلومات حول نوايا هذا السياسي أو مدى تصنع حركاته أو جديتها.
إذاً، ما رسائل إشارات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غير اللفظية فيما يتعلق بنواياه بشأن أوكرانيا؟ أي الإشارات واللغة الجسدية التي استخدمها في مؤتمره الصحافي الذي أعلن فيه الحرب على أوكرانيا، وموت اتفاقات مينسك وإعلان استقلال الجمهوريتين الجديدتين.
يرى إريك بوسي أن بوتين بدأ بالتظاهر بالتأمل في البداية، ثم أصبح أكثر إصراراً، بل عدوانياً، طوال فترة تعليقاته. ثم خفض بصره وكأنه يبحث عن إجابة. الإشارات غير اللفظية مثل تلك تعادل التهرب أو تجنب الإجابة عن نوع معين من الأسئلة، ثم يؤكد رسالته هذه حين ينظر بشكل مباشر أكثر إلى الصحافيين الحاضرين. وكأنه يحاول السيطرة عليهم وإشعارهم بأنه أكثر منهم سلطة.
وفي أكثر الوقت، يحاول الدفاع عن موقفه بهدوء، على الرغم من أن كلماته حول اللا شرعية والتدخل الأجنبي والتحريض المتطرف تتسم بالعدائية، لذلك في لغته الجسدية أو غير اللفظية هذه يشبه غورباتشوف، أي تعبير الجسد عكس ما يقوله اللسان، أما حول طريقة نطق الأحرف والكلمات من فمه أي لغته اللفظية، سيشعر المستمع وكأنه يستمع إلى بريجنيف. وبهذا المعنى، فإن سلوكه خادع، لأنه لا يبدو ظاهرياً عدوانياً.
أما تعبيراته غير اللفظية الأخرى كنبرة الصوت، والإيماء بالرأس وإيماءات اليد، ثم إجاباته أثناء انشغاله للحظات بما أمامه من أوراق وخرائط، جميعها محسوبة كي تبدو معقولة وطبيعية.
ومع مرور الوقت في ردوده على أسئلة الصحافيين يظهر بوتين مزيداً من العدوانية في تعابير وجهه، ويكشف مراراً عن أسنانه السفلية، وهو عرض واضح للغضب والتهديد، مما أدى إلى تقويس حاجبيه وتسارع معدل حديثه، واستخدم نبرة صوت غاضبة. كما أن إيماءات يده، على الرغم من كونها مقوسة، أصبحت أيضاً أكثر إيضاحاً، فتحولت إيماءات اليد المفتوحة إلى قبضة مرات متتالية، وكان يوزع مد يده وضمها مع كلماته وتعابير وجهه.
في الوقت نفسه، يظهر نفوره المتكرر من خلال نظرته، كأن يتوقف لينظر نظرة متأملة أو حادة، ويميل رأسه ميلاناً متلاحقاً هادئاً، ثم يدير بُؤبؤ عينيه إلى أعلى وأسفل، وكأنه يبحث عن فكرة يقولها ويطلقها، بما يعني أنه يتصرف بكل طبيعية، وليس بشكل محضر سلفاً، وكان الصحافيون الحاضرون وكأنهم مثبتون إلى مقاعدهم ويظهرون مزيجاً غريباً من المفاجأة وعدم التصديق والتسلية والقلق، مما يعكس خطورة ملاحظات بوتين وطبيعة روايته اللاحقة للحقيقة.
أنماط مثيرة للاهتمام
يقول باتريك ستيوارت، العالم السياسي ومبرمج معتمد لنظام تشفير الوجه، "لقد ركزت بشكل أساسي في قسمات وجه بوتين في أثناء طرح سؤال عليه وقبل وبعد إجابته عليه. لذا يمكنني القول إن أداء الزعيم الروسي وهو يستمع إلى أسئلة المراسلين يكشف عن بعض الأنماط المثيرة للاهتمام".
يعتقد ستيوارت أن بوتين رجل يتمتع بقدرة تنافسية عالية. عندما يظهر الابتسامات المسرورة، التي تتضمن رفع زوايا الشفاه وتضييق العينين. وهذا حدث عندما كان بوتين يستمع إلى سؤال أحد المراسلين ووجد أنه قد أجاب عنه سابقاً، فألقى على المراسل نظرته المسرورة بينما يتكلم، وكأنه يوصل له رسالته بوضوح، أن السؤال قد طُرح سابقاً. ولم يظهر انخفاضاً في فكه، وهو مؤشر على المرح.
ولكن عند سؤاله عما إذا كانت السلطات في أوكرانيا شرعية قام بشد شفتيه للخلف، وامتدت بشكل واسع على وجهه، وهو ما يعني شعوراً مباشراً بالتوتر الداخلي. ففي مثل هذا النوع من الأسئلة سيظهر الوجه ردات فعل غير متوقعة مهما حاول صاحبه ضبط تعابيره. يذكرنا سلوك العرض هذا بالرئيس الأميركي، جورج بوش الأب، عندما قررت الولايات المتحدة مهاجمة العراق في حرب الخليج الأولى عام 1991. هناك أظهر "ابتسامة" خوف مماثلة، مع شفتين متراجعتين بسرعة في ما يمكن اعتباره تعبيراً صغيراً عن الخوف من عواقب خوض الحرب.