ماذا بعد المؤشر العالمي لحرية الصحافة 2021؟
مصطفى قطبي
2021-04-28 02:37
أوردت منظمة "مراسلون بلا حدود"، مقرها باريس، في تقريرها السنوي لعام 2021، تصنيفا لدول العالم حسب حرية الصحافة وأمن العمل الإعلامي، ورأت أن حرية الصحافة تواجه تهديدات غير مسبوقة، ويُظهر هذا العام أن الصحافة "محجوبة تماماً أو معوقة بشكل خطير" من ناحية و"مقيدة" من ناحية أخرى، في 180 دولة ومنطقة حول العالم.
هذا العام، تم العثور على 12 دولة أو 7 في المائة فقط من 180 دولة في المؤشر توفر بيئة مواتية للصحافة، بانخفاض عن مؤشر العام الماضي. أما الدول العربية، فقد أشار التصنيف أنّ ثلاث دول عربية فقط ضمن المائة دولة الأولى على المؤشر، هي تونس (تصدرت عربياً وجاءت في المركز 73 عالمياً) وجزر القمر (84 عالمياً) وموريتانيا (94 عالمياً). وبينما كان ترتيب تسع دول عربية بين المركزين 105 و150 عالمياً، كانت 10 من آخر 30 دولة على المؤشر دولاً عربية. أسوأ الدول العربية أداءً على المؤشر هي: جيبوتي (176 عالمياً) وسوريا (173 عالمياً) والسعودية (170 عالمياً) واليمن (169 عالمياً) والبحرين (168 عالمياً).
وبحسب مراسلون بلا حدود، فلم يحدث تغيير يذكر بين الدول التي احتلت المرتبة الأدنى، بما في ذلك الصين وتركمانستان وكوريا الشمالية وإريتريا. وأكد التقرير أن الدول القمعية أساءت استخدام الوباء لتقييد حرية الصحافة. وفي تحليلها لأحدث تقييم لوضع الصحافة حول العالم، توصلت "مراسلون بلا حدود" إلى أنه جرى استغلال وباء الفيروس التاجي كذريعة لعرقلة وصول الصحافيين إلى مصادر المعلومات وإعداد التقارير الميدانية، وتساءلت ما إذا كان "سيُعاد فتح هذا الوصول عندما ينتهي الوباء". وشددت "مراسلون بلا حدود" على أنها سجّلت "تدهوراً صارخاً" في المؤشر المتعلق بالعراقيل والقيود على التغطية الصحافية هذا العام. وأضافت أنه في ظل الوباء، "بات من المستعصي على الصحافيين الوصول إلى مكان الأحداث ومصادر المعلومات على حد سواء".
تمّ نشر تقرير منظمة "مراسلون بلا حدود"، وتسابقت وكالات الأنباء العالمية، لتفضح الواقع الإعلامي الراهن، من خلال كلمات وتقارير تكرس إكراهات ومخاطر العمل الإعلامي، لكن من جهة أخرى تتجاهل عموماً في مضمونها أسباب الأخطار الحقيقية التي يتعرّض لها الصحفيون وتصاعد الهجمات والاعتقال والسجن والاعتداء والاغتيال ضدهم، بحيث أصبحوا هدفاً دائماً في المعارك والحروب والصراعات السياسية، وإن لم يكن معلناً. ورغم كل التّعتيم على هذا الواقع المرير، ورغم اللغة العائمة التي تستخدم للتغطية على القتل والاضطهاد، يتم تسمية بلدان صغيرة عند الإشارة لاضطهاد الصحفيين، وإغفال البلدان الكبرى بخاصة القوى المهيمنة عسكرياً.
أكتب هذا وأنا مشتغل بمهنة الصحافة ومدرك، فيما أحسب، لكل ما يحدث فيها محليا وعربيا وعالميا،
اليوم مثلا نرى حروبا على الإعلام، نعيش مشهديات حارة في لحظتها... صارت الصحافة ناطقة في لحظتها، ولهذا تبدو مخيفة للبعض. هكذا عصر يجب أن يتزين بالحقيقة، من يملك القوة يملك تلك الميزة الأساسية... والقوة في عالمنا صارت معروفة، ومن سخرية القدر أن دولاً معروفة بحريتها الإعلامية بجانبها الإباحي والفضائحي لا بجابنها الفكري، تمارس على دول أخرى أقسى أشكال الكبت والقمع الإعلامي، بما في ذلك العمل على حجب قنوات فضائية، والمساهمة في عدم إيصال الصوت الآخر بكافة الوسائل، في الوقت الذي لم يعد الكبت الإعلامي يُمارس ضمن الدولة الواحدة، بل أصبح سياسة عالمية ممنهجة تُمارَس تحت نفس شعار حرية الصحافة، والترجمة العملية لهذا الشعار هي حرية العمل على إقصاء كل صوت إعلامي لا يروق لنا سواء أكان أصوات أفراد أم أصوات دول.
فالإعلام الأوروبي وسلبيته في التعامل مع الوقائع والأحداث في العالم العربي وخصوصاً المجازر والانتهاكات غير الإنسانية المستخدمة ضدّ الشعب الفلسطيني والشعب العراقي والسوري واليمني والليبي... وازدواجية المعايير في نقل الخبر، وهذا طبعاً يأتي من كون إسرائيل تحظى بمكانة خاصّة جداً لدى الأنظمة الممسكة بزمام الإعلام الأوروبي، وحتى في عقر دارهم هم محاصرون، فيكفي مثلاً أن يأتي أحد (كائناً من كان) على ذكر اليهود بالسوء حتى يُتهم بمعاداة السامية ويُحاسب ويُحاكم ويُجرد من حقوقه المدنية.
في عصر استعمار جديد يصل إلى أهدافه عن طريق الاختراق، والادعاء بمحاولة نشر الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، بينما هو ساع لامتلاك الثروات الطبيعية وقمع وتهجير السكان الأصليين، أصبحت السيطرة على الآلة الإعلامية، وبخاصة على ما تبقى من الضمائر الحيّة التي ترفض أن يكون لها ثمن، أحد أدوات بسط هيمنة هذا الاستعمار والتغطية والتعتيم على جرائمه وجشعه. فلو كانت هناك حصانة حقيقية للمصورين والإعلاميين والمراسلين، لما استغرق العالم سنوات ليكتشف أن احتلال العراق قد بُني على كذبة كبرى، وأن الهدف الأساسي من هذا الاحتلال، هو الطمع بنفط العراق وثرواته وحضارته وتاريخه، وإلغاء دوره الهام والمتميّز في محيطه العربي، ولاكتشف العالم سريعاً حجم الوحشية والقتل والدمار الذي استخدم لتحقيق هذا الهدف، وحجم المعاناة الكارثية التي تعرّض لها شعب بريء لم يطلع العالم حتى على تفاصيل معاناته وآلامه. ولو كانت هناك حرية حقيقية لحركة الإعلام والإعلاميين في فلسطين المحتلة، لما تمكن المستوطنون من أن يعيثوا فساداً وقتلاً وإرهاباً ضد السكان الأصليين كلّ يوم، دون أن تصل أخبار جرائمهم إلى مسامع ومرأى العالم.
يعتمد المحتلون اليوم أساليب تخفي آثار جرائمهم والمعاناة التي يسببونها لضحاياهم، وأول شرط لتمكنهم من إخفاء ذلك، هو قتل الأصوات الحرّة التي رفضت أن تكون جزءاً من ''الصحافة المرافقة للقوات''، والتزمت بما يمليه عليها ضميرها لكشف الحقائق، فواجهت مصير المناضلين الشرفاء الباحثين عن الحقيقة والعاملين على كشفها، حتى على حساب دمائهم وحياتهم ووجودهم. حاضرنا اليوم، يشير إلى ما هو أفظع من ذلك، حيث سيل الدم بلا انقطاع، والتحريض الفاجر بلا انقطاع، وحيث كثير من وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، جبهات مفتوحة، عنوانها التشهير والتحريض والاستباحة، والدعوة للقتل والإشادة بفعل الإبادة، والتفاخر بما عَظُم منه...؟! خذوا ما فعله الاستعمار، وما يفعله الاستعمار الجديد، وما يقوم به إعلامه، وأدوات بشرية تخدمه وتروج له، في إطار سياسته وإعلامه وعدوانه، ضد الشعوب والأوطان، وضد الحقيقة والإنسانية والقيمة... خذوا ما فعلته وتفعله الولايات المتحدة الأمريكية في كثير من مناطق العالم، ومنها العراق وسوريا وليبيا واليمن...
وخذوا إسرائيل، والحمايات الإعلامية والسياسية والثقافية التي تغطي جرائمه وتنادي بالتطبيع معه، وتريد أن يكون حاكم المنطقة الذي ينشر جناح قوته، ليستظل به من يظلم شعبه، ويقتل الإنسان، ويتجاوز على مفاهيم الحرية والكرامة الإنسانية... وانظروا داخل بيتكم الكبير، وداخل أنفسكم، لتروا.. كيف يُباع من يباع، ويُشترى من يُشترى، وكيف يبيع أناسٌ أوطانًا وقضايا وأناسا، ويشترون بهم، عبر وسائل إعلامية، وسياسة محمولة على أجنحتها، ممولة منها، في تبادل غريب وعجيب للنفاق... وتشمخ مكللة بغَارِ ''حرية التعبير''، وبالدفاع عنها؟! وهي محمية بحمايات فائقة القوة، منها سلاح الفساد والإفساد، لتستمر في أداء دورها، وأكاد أجزم بأن كتلة الفساد والإفساد في هذا المجال لا تقل مطلقًا عنها في أي مجال آخر، لا سيما في المجال السياسي.
وبالوصول إلى الإعلام العربي المتهالك أصلاً منذ عقود، فمع تفجر الوضع العربي من خلال ما سمي بمشهد ''الربيع العربي'' وما صاحبه من ثورات وثورات مضادة وعنف أدى إلى حروب بخاصة في سوريا وليبيا واليمن... وتدخلات عسكرية وإقليمية ودولية، ومع تعقد المسارات العربية، بخاصة في دول ''الربيع العربي''، والتدخلات العسكرية العربية والإقليمية والدولية بدأ الخطاب الإعلامي ينحدر بشكل غير مسبوق وأصبح جزءا من الصراع المحتدم في المنطقة العربية، والمتابع والمراقب للمشهد الإعلامي العربي خلال السنوات الأخيرة يصاب بالدهشة وعدم التصديق، حيث انحدرت لغة الخطاب الإعلامي، وغابت المهنية، وأصبحت أساليب التطاول والقذف والشتم من أهم المقاييس لنجاح تلك الجبهة الإعلامية أو تلك، على الأقل من خلال المعنيين بها أو الذين تتحدث باسمهم، ولذا انتشرت الألفاظ غير الأخلاقية، وتدني مستوى اللغة الإعلامية، ودخول ما سمي بالجيوش الالكترونية، وتم تخصيص مئات الملايين من الدولارات للإنفاق على المعركة الإعلامية بين تلك الدول الشقيقة المتصارعة، سواء علي صعيد الداخل حيث الصراع، أو على مستوى الخارج حيث التدخلات التي وصلت مداها بخاصة في سوريا واليمن وليبيا...
ومن هنا ظهرت شبكات التواصل الاجتماعي غير المنضبطة هي الأخرى، لتضيف للمشهد الإعلامي التقليدي بعدا جديدا سيئا، ساهم في انحدار الخطاب الإعلامي العربي بشكل غير مسبوق، مع استثناءات محدودة... وللأسف فإن خطورة تدني الخطاب الإعلامي العربي، تتمثل ليس فقط في تعميق الخلافات السياسية بين الدول، ولكن المتضرر الأكبر هي الشعوب العربية والتي دخلت في مناكفات وعداوات متواصلة من خلال ذلك السيل الجارف من الرسائل والتغريدات غير الأخلاقية، ومن خلال تواصل حملات إعلامية منظمة استهدفت كل شيء، حتى أعراض الناس...، هناك مبدأ ثابت في العرف السياسي بأن الخلافات بين الدول وفي أي إقليم هو أمر وارد بسبب تعارض المواقف والمصالح والسياسات، وهذا أمر طبيعي فليس هناك إقليم في العالم لم يشهد خلافات بين دول ذلك الإقليم، حتى في إطار التحالفات.
خلاصة الكلام: عندما تكون حال الأمم كحالنا، يتوجب إعلان معركة... نحن نصد أكبر مؤامرة في تاريخنا تستلزم إعلاما وكتابة مختلفة عن أيام الرخاء... فهل المشكلة في العقل الذي لم يستوعب بعد تلك النقلة من السلم الكامل إلى الحرب المدروسة بعناية؟ نواجه أكبر مؤامرة بعقل البارحة… في هذا الزمن العربي المتألم والموجوع والمصاب، كثيرا ما نحتاج إلى الكلمة الرصاصة واللحن الرصاص، وكذلك الغناء المعنون بالكلمة واللحن... نحن نحرق هواء لا معنى له، فيما حاجتنا إلى الكتابة الجديدة كثيرة، وعلينا أن لا نبحث عنها لأنها متوافرة في أدبياتنا الحالية لكنها لا تستعمل طالما أن لا فهم حقيقيا لكيفية إدارة الإعلام.