التكنولوجيا وجاذبيتها الخطيرة في عالم الصحافة
بروجيكت سنديكيت
2019-03-18 06:46
بقلم: ألكسندرا بورشاردت
أكسفورد ــ كان المفترض أن تحل التكنولوجيا بعضا من أكبر مشكلات العالم. فقد تصور المراقبون ذات يوم أن توصيل الجميع بشبكة الإنترنت لابد أن يتبعه انتشار الديمقراطية في كل مكان. وبجمع القدر الكافي من البيانات، يصبح بوسعنا الإجابة على كل التساؤلات التي تحيرنا. وإذا وضعنا كل شيء على الإنترنت فسوف تتولى الخوارزميات بقية الأمر. وبهذا يدير العالم نفسه عمليا.
ولكن بدلا من ذلك، بتنا نعلم الآن أن التكنولوجيا الرقمية يمكن استخدامها لتقويض الديمقراطية؛ وأنها تثير من الأسئلة أكثر مما تقدم من إجابات؛ وأن العالم الذي يدير نفسه يبدو أقرب إلى سيناريو كابوسي مستلهم من روايات جورج أورويل من كونه هدفا نبيلا. ولكن برغم أن التكنولوجيا ليست الحل حقا فإنها أيضا ليست المشكلة؛ بل المشكلة في تركيزنا عليها قصرا.
لنتأمل هنا تجربة صناعة الإعلام، حيث عاثت الثورة الرقمية فسادا في نماذج الأعمال السائدة على مدار العقد الماضي. فقد استجاب الناشرون والمحررون بوضع إيمانهم في التكنولوجيا: بتتبع مختلف أشكال المقاييس، واحتضان صحافة البيانات، والاستعانة بفرق الفيديو، وفتح أستوديوهات البث الصوتي.
ثم في وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، حولت المنظمات الإعلامية اهتمامها نحو حلول الذكاء الاصطناعي التي تتعقب تفضيلات الجمهور وتنتج تلقائيا المحتوى المرغوب والترجمات، وتنبه الصحافيين إلى الأخبار العاجلة، وغير ذلك الكثير. في أحدث تقرير صادر عن معهد رويترز لدراسة الصحافة حول اتجاهات وسائل الإعلام، قال 78% من المستجيبين لاستطلاع غير تمثيلي لقادة وسائل الإعلام الدولية إنهم يخططون لزيادة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي هذا العام.
لكن آخر الحدود في المساعي الرامية إلى إنقاذ الصحافة، كما يعتقد كثيرون، هي سلسلة الكتل ــ تكنولوجيا الدفاتر الموزعة التي تقوم عليها العملات الرقمية المشفرة مثل البتكوين. ويتبقى لنا أن نرى ما إذا كان هذا صحيحا: كانت أول محاولة للاستفادة من سلسلة الكتل لتحرير الصحافيين من نماذج الأعمال التي تعتمد على الإعلانات، من قِبَل شركة سيفيل ميديا، بداية وعرة.
ليس هناك ما يعيب استخدام التكنولوجيا لحل المشكلات، بما في ذلك تلك التي تخلقها التكنولوجيا، أو لمنح شركة ما ميزة تنافسية. هذا هو ما كانت تفعله صحيفة الواشنطن بوست، على سبيل المثال، في السنوات الست التي مرت منذ اشتراها جيف بيزوس الرئيس التنفيذي لشركة أمازون (في وقت حيث كانت تنزف الأموال وتلغي الوظائف).
ولكن حتى أكثر التكنولوجيات تقدما لن تنقذ صناعة الإعلام، أو أي صناعة أخرى، إذا لم تضع في الاعتبار الأشخاص الذين يستخدمونها. وهذا لا يعني الجماهير فحسب. فبعد سنوات من مطاردة أحدث الاتجاهات التكنولوجية، تواجه صناعة الإعلام على نحو متزايد الإجهاد والتوتر بين الإدارة الحالية والموظفين، والمجمع المتضائل من المواهب الجديدة.
وفقا لتقرير معهد رويترز فإن نحن 60% من قادة وسائل الأعلام يشعرون بالقلق إزاء حالة التوتر والإجهاد التي تخيم على فرقهم، كما يشعر 75% منهم الآن بالقلق حيال قدرتهم على الاحتفاظ بالعاملين واجتذابهم. ويُظهِر تقرير آخر من إعداد لوسي كوينج، بعنوان "التحول الرقمي. خريطة طريق للتحول التنظيمي"، أن المديرين المتوسطين، بشكل خاص، كانوا يخرجون من الصناعة.
لا ينبغي لهذا أن يكون مفاجئا. فقد واجه الصحافيون دائما الضغوط في إدارة دوامة من المواقف الإخبارية الحساسة زمنيا والملحة والمتغيرة على نحو متسمر. ولكن في الماضي، كان بوسعهم على الأقل أن يعتمدوا على المؤسسات الإخبارية التي وظفتهم لتوفير الاستقرار والاتساق. والآن، يتعين عليهم أن يبحروا عبر تغيرات تنظيمية لا تنقطع مدفوعة بالتكنولوجيا ــ والتي تُشرَح وتقدم على نحو رديء عادة. ومن الممكن أن يتسبب هذا المستوى من عدم اليقين في إبعاد حتى الموظفين الأكثر ولاء.
لا شك أن التغيير أمر لا مفر منه؛ فالعصر الرقمي يتطلب التكيف المستمر. لكن إجراء التعديلات اللازمة دون تدمير الروح المعنوية يتطلب تنفيذ نهج موجه نحو الناس. وهذه ليست عملية مباشرة وواضحة. فللحصول على حلول رقمية، يمكن للمديرين حضور مؤتمرات رقمية لامعة، وأخذ مشورة فرق المبيعات، والتوقيع على عقود، وإغراق غرف الأخبار بأدوات جديدة. ومع الناس، يتعين عليهم أن ينصتوا بعناية، وأن يعملوا على اكتساب فهم متعمق للمشكلة، ثم وضع استراتيجيتهم الخاصة.
والقيادة موضوع جيد كنقطة انطلاق. ففي أي صناعة، تشمل المسؤوليات الأساسية لقادة المنظمة أن يجعلوا موظفيهم يشعرون بالأمان والتقدير. وهذا يعني الاهتمام باحتياجات الموظفين وتعزيز الثقافة التنظيمية التي توفر لهم حِس الانتماء والغرض.
ومن الأهمية بمكان تطبيق نهج مماثل على الجماهير. فحتى أكثر المقاييس دقة لا يمكنها توفير التوجيه المطلوب، إذا لم يفهم أحد ماذا تعني فعليا، أو لماذا وقع الاختيار عليها، أو ماذا قد يكون الأثر النفسي الذي تخلفه (على الجماهير أو الموظفين). ورغم أن البيانات من الممكن أن تقدم رؤى مفيدة حول تفضيلات الجمهور، فإن الإنصات إلى الناس من الممكن أن يؤدي إلى انطباعات واستنتاجات مختلفة تماما.
على سبيل المثال، ربما تُظهِر البيانات أن المزيد من المحتوى يعني المزيد من مشاهدات الصفحة؛ ولكن إذا كانت الجماهير تتوق إلى كم أقل من الإلهاء وتقارير أعلى جودة، فإن إغراق السوق بمحتوى منتج بواسطة روبوتات لن يرضيهم. على نحو مماثل، ربما ينقر المستخدمون على حصة أكبر من المقالات إذا جرى استخدام الخوارزميات لإضفاء الطابع الشخصي على تجربتهم؛ ولكن إذا شعر المستخدمون بالملل والضجر من نفس الموضوعات ووجهات النظر، فلن يكون التشخيص مفيدا في هذه الحالة.
إن الحلول القائمة على التكنولوجيا وسيلة وليست غاية. ولهذا السبب تستفيد صحيفة نيويورك تايمز على سبيل المثال من نجاحها الرقمي لاستثمار المزيد في الصحافة. في العام الفائت، أضافت الشركة 120 موظفا إلى غرفة الأخبار، ليرتفع إجمالي عدد الصحافيين هناك إلى مستوى تاريخي بلغ 1600 موظف.
أما المؤسسات التي لا تتمتع بنفوذ صحيفة التايمز ــ وإيراداتها الرقمية ــ فربما تحتاج أيضا إلى سلوك نهج موجه نحو الناس لتأمين الاستثمار. ومع تزايد وضوح حدود نموذج الأعمال المدفوع بالإعلانات، يعتقد كثيرون من قادة الإعلام ــ ما يقرب من الثلث وفقا لدراسة معهد رويترز ــ أن المؤسسات والشركات غير الربحية سوف تلعب في المستقبل دورا مركزيا في دعم وسائل الإعلام.
لكن إقناع المؤسسات والهيئات الخيرية بفتح قلوبها ومحافظها يتطلب التواصل البشري والمشاركة، وليس الخوارزميات أو البرمجيات المدعومة بالذكاء الاصطناعي. ومن الأهمية بمكان إقناع الممولين المحتملين بأن الصحافة قضية نبيلة، مثلها كمثل أبحاث السرطان.
إن التكنولوجيا وحدها لا تكفي لتشجيع الديمقراطية، والمساعدة في الإجابة على أسئلة مهمة، وتسهيل القيادة الفعّالة من خلال تعزيز المساءلة. ولكن إلى حد ما، تستطيع الصحافة المسؤولة العالية الجودة أن تحقق مثل هذه الغايات. ولكن إذا كان لها أن تفي بهذا الغرض، فلا يجوز للمؤسسات الإخبارية أن تسمح لنفسها أبدا بالانجراف مع كل اتجاه تكنولوجي جديد. وإذا تعاملت مع التكنولوجيا باعتبارها أكثر من مجرد أداة لتنفيذ استراتيجيات تركز على الناس، فسوف يستمر الناس الذين تحتاج إليهم ــ من موظفين وجماهير ــ في التصويت بالرحيل.