حرب العراق المقبلة

مركز بروكنجز

2018-09-18 05:37

رانج علاء الدين

 

عندما حرّر العراق والمجتمع الدولي الموصل في السنة الماضية، أعلنت الحكومة العراقية الانتصار: لقد انتهى الصراع الذي امتدّ على ثلاث سنوات ضدّ الإرهابيين الجهاديين الذين استولوا على معظم شمال البلاد. غير أنّ الإعلان كان سابقاً لأوانه. إذ لا يزال تنظيم داعش يشكّل تهديداً كبيراً، ليس بسبب مهارته كحركة متمرّدة فحسب بل أيضاً بسبب فشل النخبة الحاكمة في العراق في معالجة الأوضاع التي أدّت إلى بروز تنظيم داعش في المقام الأوّل. وقد يؤدّي فشلها في معالجة الحاجات الأساسية لشعب معدم للغاية ومنهك من الصراعات، وفي معالجة التقسيمات السياسية والاجتماعية، وفي تشكيل إطار عمل وطني مشترك يوحّد البلاد، إلى تمهيد الطريق أمام حرب أهلية مدمِّرة أخرى فيما تتنافس المجموعات المتخاصمة للسيطرة على الدولة العراقية.

فبعد الانتخابات النيابية في مايو 2018، كان من المفترض بالعراق أن يطوي الصفحة ليبدأ مرحلة جديدة بعد تنظيم داعش وبعد الطائفية حتّى، فيعالج السياسيون في هذه المرحلة الجديدة الاستقطابَ والفسادَ المستشري في البلاد والاضطرابَ العنيف. غير أنّ الأمور تزداد سوءاً بالنسبة إلى العراق. فقد قدّم رئيس الوزراء الضعيف حيدر العبادي، الذي أتى في المرتبة الثالثة في الانتخابات، سلسلةً من المبادرات الرمزية المكافِحة للفساد التي عجزت عن إقناع العراقيين الذين ضاقوا ذرعاً بالإصلاحات التدريجية والرمزية. فقد تستغرق معالجة الفساد سنوات، بحسب تفسيرات سياسيّي العراق الذين يزدرون بشعبٍ انتظر أكثر من خمس عشرة سنة للإصلاح.

وقد تلت الانتخابات تظاهرات شعبية في معظم أنحاء الجنوب العراقي، بما فيها البصرة، حيث أحرق المحتجّون مبانيَ تابعة لمجلس المحافظة والقنصلية الإيرانية وهاجموا مكاتب الأحزاب السياسية. فردّت القوّات الأمنية العراقية والميليشيات الشيعية المدعومة من الحكومة بعنف مميت وبعمليات تنتهك حقوق الإنسان. وتحتوي البصرة على أكبر احتياطي للنفط في العراق وتستأثر بنسبة 80 في المئة من صادرات البلاد النفطية وتؤمّن أكثر من 7 مليارات دولار أمريكي شهرياً للخزينة. بالتالي، من المفترض أن تكون البصرة أغنى محافظة في العراق، إلّا أنّها من أفقرها. وعلى غرار معظم مناطق العراق، تفتقر المدينة إلى المياه النظيفة والكهرباء وفرص العمل.

ويشكّل المزيج بين شعبٍ مضطرب وحكومةٍ تفتقر إلى المصداقية والقدرة على تهدئته مزيجاً مؤاتياً لبروز وضع خطير. إذ يتّسم العراق بكلّ المقوّمات التي قد تجعله يدخل من جديد في حالة صراع. وبدل أن يطوي الصفحة ويبدأ فصلاً جديداً، قد يجد نفسه غارقاً في حرب أهلية أخرى. وبعيداً عن الاستقطاب السياسي والاجتماعي، يعاني العراق تزايداً مستمراً في كمّيات الأسلحة والمنظّمات العسكرية وغيابَ المؤسّسات القابلة للاستمرار والسلطاتِ البديلةَ التي تحلّ محلّ الدولة العراقية. ويخرج الكثير من المواقع عن نطاق نفوذ الحكومة وسيطرتها، بما فيها الجنوب ذو الأكثرية الشيعية حيث تتوزّع القوّة بين الأحزاب والميليشيات والعشائر وعلماء الدين.

ومنذ العام 2003، بات الصراع الواسع النطاق في العراق قائماً بين السنة والشيعة العرب. لكن في المرحلة المقبلة، سيقوم الصراع بمعظمه في العراق بين الفصائل الشيعية المتخاصمة القوية والغنية بالموارد والمتمرّسة بالقتال.

عداوات في الصفوف الشيعية

عندما برز تنظيم داعش في العام 2014، ملأ فراغاً سياسياً وإيديولوجياً لا يزال قائماً حتّى اليوم. فاستفاد من مشاعر التهميش التي تملّكت السنّة العراقيين بالإضافة إلى الاستياء من فساد حكومة بغداد والاختلال الوظيفي. ولا يزال هذا السخط المتجذّر قائماً حتّى اليوم، غير أنّه من المستبعد أن يتجيّش العرب السنّة في المستقبل القريب. فهم متضرّرون ومنهكون للغاية نتيجة الحروب الكثيرة ضدّ الأعداء الداخليين (مثل تنظيمي داعش والقاعدة في العراق والمواجهات بين العشائر) وضدّ الأعداء الخارجيين (مثل الولايات المتّحدة والجيش العراقي الذي يسيطر عليه الشيعة والمجموعات الميليشياوية الشيعية الطائفية).

بدلاً من ذلك، من المرجّح أن تكون الحرب المقبلة في العراق حرباً أهلية بين الأخصام الإسلاميين الشيعة. فقد هيمنت هذه المجموعات على المناصب الأكثر نفوذاً في الحكومة العراقية وعلى مؤسّساتها الأمنية منذ العام 2003. فنشرت مجموعات ميليشياوية أو استأثرت بها للحصول على موارد مهمّة للدولة. وتُعتبر الميليشيات الشيعية مجتمعةً أقوى من الجيش العراقي الذي سقط أمام الهجوم الذي شنّه تنظيم داعش في العام 2014.

ولا تخضع الميليشيات الشيعية لسيطرة الحكومة لكنّها تترسّخ في مؤسّسات الدولة وتستغلّ مواردها. وتحكم منظّمة بدر (التي تأسّست في ثمانينيات القرن الماضي في إيران)، وهي أقوى الميليشيات وأقدمها في العراق، الشرطةَ الاتحادية، وترأّست وزارةَ الداخلية منذ العام 2003. وبعد سقوط الدكتاتور السابق صدّام حسين، خاضت منظّمة بدر معركةً ضروساً ضدّ مقتدى الصدر المعادي للغرب وميليشيا جيش المهدي التابعة له. ولا يملك حزب الدعوة الإسلامية التابع لرئيس الوزراء العبادي ميليشيا خاصّة به غير أنّه استغلّ سيطرته على الجيش لقمع خصومه. وقد جيّش الحزب أيضاً الفصائل العشائرية وسلّحها.

وتعود العداوات بين الفصائل الشيعية إلى ما قبل غزو الولايات المتّحدة للعراق في العام 2003. لكن منذ ذلك العام، تطلّبت الصراعات الدموية بين الشيعة العراقيين وساطة قوية من سياسيين شخصيات دينيّة، بمن فيهم، في بعض الحالات، تابعين لقوى خارجية مثل إيران. وفي العام 2005، أُجبر آية الله السيستاني، المرجعُ الديني الشيعي الأعلى، على أن يتوسّط بين المجموعات الشيعية المتخاصمة في خضمّ تمرّد سنّي شرس. وتفادى العراق صراعاً شيعياً داخلياً واسع النطاق حتّى الآن لأنّه انشغل بالتمرّد السنّي، أي تنظيم القاعدة في العراق، ومن ثمّ تنظيم داعش. ولا تزال هذه التهديدات تلوح في الخلفيّة لكنّها لا تشكّل التهديدات الوشيكة والوجودية التي كانت عليه حينها بالنسبة إلى المجتمع الشيعي الحاكم..

وسرعان ما يتحوّل النزاع على موارد الدولة، بما فيها عملية تشكيل الحكومة الشديدة الأهمّية والمحفوفة بالنزاعات (وهذه العملية تحدّد حصّة الطبقة الحاكمة في الدولة العراقية ومواردها)، إلى لعبة صفرية النتيجة. فخلافاً للماضي، ليس بإمكان فصائل العراق الشيعية أن تستمرّ بالنفاذ بتقسيم الدولة في ما بينها فيما تقدّم للشعب المستاء وعوداً فارغة. فالحاجة الشعبية إلى الإصلاح ملحّة للغاية وكبيرة جدّاً إلى حدّ أنّ المؤسّسة الدينية الشيعية تدخّلت للتشديد على أن تعالجها الحكومة. غير أنّ الخطر الفعلي الكامن في أن تستعمل فصيلةٌ واحدة أموال الحكومة كسلاح وتستغلّ عملية الإصلاح في السنوات القادمة يحوّل هذه الصراعات السياسات إلى صراعات قد تكون وجودية بالنسبة إلى المجموعات المعنية.

وقد تبدّل المشهد السياسي والأمني في العراق بشكل ملموس منذ العام 2003. فعلى الورق، تشكّل المنظّمة الميليشياوية الجامعة المعروفة باسم هيئة الحشد الشعبي مؤسّسةً حكومية تخضع لسيطرة الدولة. وتضمّ هذه المنظمّة 100 ألف عنصر وقد تأسّست بعد سقوط الجيش العراقي عندما سيطر تنظيم داعش على الموصل. لكن على أرض الواقع، يقود هذه المنظّمة ويسيطر عليها عددٌ كبير من المجموعات الميليشياوية المستقلّة والحليفة لإيران التي لا تنصاع لأوامر الحكومة والتي لها تاريخ من المواجهة العنيفة مع الجيش العراقي. ويتزايد نفوذ منظّمة الحشد الشعبي بسرعة كبيرة لدرجة أنّها قد تضمّ قريباً إلى صفوفها القوّات المسلّحة العراقية التقليدية.

وتزايدت التوتّرات بين العبادي (القائد العام للقوات المسلّحة) وقيادة منظّمة الحشد الشعبي المدعومة من إيران. فقد زُعم أنّ هادي العامري، قائد منظّمة بدر وقائد منظّمة الحشد الشعبي بحكم الواقع، قد حذّر المبعوثَ الخاصّ للولايات المتحدة إلى العراق بريت ماكغورك بأنّه قد يطيح بأيّ حكومة تتشكّل نتيجة تدخّل أمريكي. وفي خضمّ التهديدات المستمرّة المعادية للولايات المتّحدة من الميليشيات المدعومة من إيران، أُفيد بأنّ عدداً من القذائف قد استهدف السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء المحصّنة في بغداد. وفي البصرة، أطلقت الجهات الوكيلة الإيرانية قذائف استهدفت القنصلية الأمريكية في مطار المدينة.

وقد سبق أن حذّرت منظّمةُ الحشد الشعبي الجيشَ العراقي من أن يتدخّل في السياسات التقسيمية التي غمرت البلاد. ومن شبه المؤكّد أنّ الجيش العراقي سيخسر المعركة ضدّ منظّمة الحشد الشعبي وميليشياتها الشيعية التي باتت موحّدة تحت راية واحدة ولم تعد تشكّل مجموعات متفرّقة ومتضعضعة كما كانت عليه منذ عقد خلى. فقد تحوّلت هذه المجموعات بشكل جذري لتصبح عبارة عن تحرّكات اجتماعية سياسية متمرّسة بالقتال وجديرة بالثقة وقادرة على الاستمرار. وسمّت منظّمةُ الحشد الشعبي مرشّحين لها في الانتخابات لأوّل مرّة وحلّت في المرتبة الثانية، فهزمت خصوماً لهم عقود من الخبرة والحشد السياسيّين. وليست منظّمة الحشد الشعبي مدرّبة ومنظّمة بشكل أفضل من الجيش فحسب، بل تتمتّع بمصداقية ودعم أكبرَين من الشعب أيضاً نظراً إلى نجاحاتها في المعارك وجذورها الشعبية. أمّا الجيش، فهو يرث تاريخاً ملطّخاً ويُعتبَر على نطاق واسع فاسداً وغير فعّال.

إنقاذ العراق

تزيد الأوضاع الهيكلية في العراق من فرص تفاقم العداوات السياسية والشكاوى الطويلة الأمد فتتحوّل إلى صراع أهلي. فقد يسبّب الاضطراب الاجتماعي مثل الاحتجاجات في البصرة إلى اندلاع حرب أخرى بين الفصائل المتخاصمة التي تنازعت واستغلّت ثروات البلاد وغنائمها منذ العام 2003.

لكن قد لا يزال للعراق خيار وحيد أخير لتحقيق السلام، وذلك من خلال دور أكثر نشاطاً وتدخّلاً يؤدّيه آية الله السيستاني. فمنذ العام 2003، ساعدت إعلانات السيستاني وفتاويه على احتواء الصراع الطائفي. وفي العام 2014، عندما استولى تنظيم داعش على الموصل، دفع السيستاني رئيسَ الوزراء السابق نوري المالكي إلى ترك منصبه بالقوة، ممّا مهّد الطريق أمام العبادي لتولّي رئاسة الوزراء وتجنيد متطوّعين لوقف تنظيم داعش عن التوسّع. وقد سبق أن تدخّل السيستاني في الصراع الأخير من خلال إعلانه بفعالية عن حكمه بضرورة تنحّي العبادي. وبالاستناد إلى قرون طويلة من التقاليد الدينية الشيعية وممارساتها في العراق، يتردّد آية الله في التدخّل، لذا عندما يتدخّل فإنّ ذلك يعكس هول الأزمة. بالتالي، قد يؤدّي تجاهل السيستاني أو معارضته إلى تحوّل الرأي الشعبي الشيعي أكثر ضدّ العبادي وقد يقوّي خصومه ويوحّدهم. فقلائل هم القادة في تاريخ العراق الذين دخلوا في صراع ضدّ رجال الدين في النجف وخرجوا منه سالمين.

وقد يكون علماء الدين والمؤسّسة الدينية التي يرأسها السيستاني في موقع فريد لتنفيذ التغيّرات والإصلاحات التي يحتاج إليها العراق بشكل قابل للتصديق. ومن الممكن الاستفادة من نفوذ السيستاني الفريد ودعمه وعلاقاته الاجتماعية والدينية الواسعة لفرض منطقة آمنة تحمي السياسيين الأكثر اعتدالاً في العراق وقادة المجتمع المدني العراقي، وقد أُسكت أولئك بواسطة الأسلحة والنقود. وستتطلّب الإصلاحات والمصالحات ومعالجة النزاعات العالقة جهداً مستداماً وقوياً من ناحية المؤسّسة الدينية، علماً أنّ هذا الأمر يترافق بمخاطره الخاصّة. غير أنّ الخيارات الأخرى المتاحة للعراق قليلة إذا أراد أن يتفادى حرباً أهلية أخرى.

* رانج علاء الدين، زميل زائرفي مركز بروكنجز وهذه المقالة نُشرت بالأصل على موقع فورين آفيرز
https://www.brookings.edu

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي