لماذا فشلت الحكومات العراقية في توفير الكهرباء؟

جي اي وأم العقود (تحقيق استقصائي)

رياض محمد

2020-12-29 09:01

في شهر كانون الاول من عام 2008 وقع وزير الكهرباء العراقي حينها كريم وحيد وبحضور رئيس الوزراء نوري المالكي عقدا مع شركة جي الامريكية العملاقة لتجهيز العراق ب 56 وحدة توليد طاقة كهربائية تستخدم انواعا متعددة من الوقود بقيمة مليارين و800 مليون دولار. وكانت طاقة كل وحدة توليدية 125 ميغا واط باجمالي 7000 ميغا واط. وقد سمي العقد حينها بالميغا ديل وكان اكبر عقد في تاريخ شركة جي اي منذ تأسيسها قبل اكثر من قرن علي يد المخترع الامريكي الشهير اديسون.

كما وقعت حكومة المالكي والحكومات التي تلتها عقودا بقيمة 4 مليارات و 100 مليون دولار مع عدد من الشركات من اليونان وتركيا والهند والاردن وكوريا الجنوبية ومصر والامارات والعراق بالاضافة الى جي اي لنصب هذه الوحدات في 11 محطة كهرباء في عموم العراق. وبهذا كانت قيمة مشروع الميغا ديل بشقيه (الوحدات والمحطات) بالاضافة الى النقل ما مجموعه 7 مليارات و 270 مليون دولار. وكان ذلك في حينها اضخم مشروع طاقة من حيث الكلفة في التاريخ.

ورغم مرور اكثر من عقد على توقيع المشروع، لم تف الشركة الامريكية ولا الشركات الاخرى بما وقعوا عليه. سلمت جي اي الوحدات التوليدية بين عامي 2009 و2012. وكان على جي اي ايضا توفير المعدات الاحتياطية والاشراف على نصب الوحدات التوليدية وفحص اداء الوحدات وتدريب الكادر العراقي لتشغيلها.

كانت المشكلة الاولى التي واجهت المشروع المتعثر ان جي اي كذبت على العراق. فقد قالت دعاية الشركة عن التوربين 9 اي الذي اشتراه العراق انه يمكن اصدار امر الشراء وتشغيل التوربين خلال 6 اشهر. كانت التجربة العراقية مع التوربين مغايرة. فقد احتاجت اول ثلاث محطات في العراق الى 6 سنوات كاملة من توقيع عقد الميغا ديل حتى دخولها جزئيا الى الخدمة في حين دخلت اخر محطة الى الخدمة جزئيا الشهر الماضي بعد مرور اكثر من 11 سنة ونصف على توقيع العقد.

كانت كذبة جي اي الثانية هي ادعائها ان التوربينات تعمل ب 52 نوعا من الوقود وانها قادرة على التحويل من وقود الى اخر اثناء التشغيل. وكانت الحقيقة ان التوربينات مصممة للعمل على الغاز وانه يمكن لها العمل على انواع اخرى من الوقود مثل الخام لكن ذلك سيؤثر على انتاجيتها بسبب حاجة التوربينات لتنظيف مستمر مما يوقفها عن الخدمة لفترات غير قصيرة كما يزيد من عبء صيانتها. ورغم ان العراق يملك مصادر هائلة من الغاز, فان هذا الغاز غير مستثمر بسبب غياب البنى التحتية لاستثماره مما ادى الى استيراد الغاز من ايران واستخدام الوقود الثقيل في تشغيل التوربينات.

وكانت كذبة جي اي الثالثة ادعائها ان جميع مكونات التوربينات مصنعة في الولايات المتحدة في حين كانت توربينات العراق تحوي اجزاءا مصنعة في الصين وهنغاريا وفرنسا.

كما دفع العراق لجي اي مبالغ طائلة لضمان التوربينات لكن مدة الضمان كانت سنة ونصف فقط. وكانت النكتة ان اي من توربينات جي اي لم تعمل بعد وصولها للعراق بسنة ونصف مما ادى الى ضياع فترة الضمان واموالها دون جدوى.

كما دفع العراق مبالغ اضافية دون وجه حق لجي اي لمواد احتياطية في محطتين بقيمة 54 مليون دولار لم ترد في العقد الاصلي. ودفع العراق 169 مليون دولار اضافي ثمن مواد احتياطية كان المفروض الحصول عليها وفق شروط العقد الاصلي في محطتين اخريين. كما دفع ايضا 29 مليون دولار لجي اي لقاء خدمات هندسية وادارية وفحص اداء لمحطتين من محطات الميغا ديل. ولم يجر اي من ذلك مطلقا.

اما الشركات الاخرى التي تعاقد معها العراق لنصب محطات تضم توربينات جي اي فقد استطاعت الحصول مجتمعة على ما لا يقل عن 530 مليون دولار اضافي من اصل مليارين و 700 مليون لقاء اعمال (اضافية) لم تدرج في العقود الاصلية.

وعند استعراض المحطات ال 11 التي ضمت توربينات جي اي, تنقلت محطة الناصرية الغازية بين ثلاث شركات فشلت اثنين منها في بناء المحطة ثم رسا عقد البناء على جي اي نفسها. وبسبب التعطيل الحاصل في انشاء المحطة فقد جمد حساب مصرفي للحكومة العراقية في دبي بقيمة 123 مليون دولار لمدة سنتين كاملتين! ولم تدخل الوحدة الاولى في محطة الناصرية الى الخدمة الا خلال الشهر الماضي.

اما محطة السماوة الغازية فان الحكومات العراقية لم تتعاقد مع اي شركة لبنائها لحوالي تسع سنوات كاملة! وعندما تذكرتها الحكومة العراقية قررت ان تمنح عقد البناء لجي اي. ولم يتم تشغيل المحطة الا قبل سبعة اشهر فقط.

وفي كلا المحطتين كانت التوربينات قد وصلت العراق منذ ما لايقل عن 7 سنوات او اكثر، اما في القيارة وعكاز في القائم فقد كانت المحطتان اما غير عاملة او عاملة بطاقة جزئية عندما احتلت داعش شمال وغرب العراق عام 2014 واستولت على المحطتين. وتعرضت كلتاهما الى اضرار بسبب العمليات الحربية. وعادت محطة القيارة للعمل بطاقة جزئية عام 2016 في حين منحت جي اي عقدا لاعادة تأهيل محطة عكاز دون اكمال العمل حتى الان.

اما في المحطات السبعة الاخرى التي اكتمل بنائها ، فقد عانت من نواقص ناتجة من عدم التزام الشركات المتعاقدة بالعقود الموقعة مع الحكومة العراقية. فمثلا افتقرت ثلاثة منها الى نظام مكافحة حرائق وهو جزء لا يتجزأ من اي مشروع صناعي او غير صناعي.

وتوقفت او هددت بالتوقف خمسة من اصل المحطات السبعة لاسباب متنوعة. وجهزت محطتان باجزاء صينية واندونيسية وماليزية وبرازيلية وعراقية في حين نصت العقود على ان تكون الاجزاء امريكية او اوروبية غربية او يابانية او كورية.

وكان بعض المحطات يعاني من تشقق ارضية مستودعات الوقود في حين تسرب الماء الى مستودعات محطات اخرى. وكانت بعض الاجهزة منصوبة دون سقف ومعرضة لمياه الامطار.

وحتى تدريب الكادر العراقي عانى من مشاكل متعددة. ففي احدى المحطات كان المدربون لايجيدون الانكليزية ولا يتكلمون العربية مطلقا كما استخدموا مناهج تدريبية قديمة في حين ارسل موظفون عراقيون للتدريب ولم يكن لهم علاقة بتشغيل المحطة!

وكانت الشركات التي تعاقد العراق معها لنصب المحطات فاشلة وغير كفوءة وفي 4 من المحطات من اصل 7 انتهى الامر اما بادراج الشركة على القائمة السوداء او التوصية بمقاضاة الشركة او رفض الحكومة العراقية لاستلام المحطة غير المنجزة وفق شروط العقد.

ففي البصرة انشئت محطتان تضمان توربينات جي اي. وفي احدى المحطتين حصلت الشركة المتعاقدة على 218 مليون دولار (اضافية) لاعمال (خارج) نطاق العقد الاصلي. اما المحطة الاخرى المسماة النجيبية فقد رمت نفايات تشغيلها للوقود مباشرة في شط العرب مما ادى الى تكوين بقعة نفطية عملاقة لوثت المنطقة باكملها!

وفي بغداد اضطرت المحطة التي انشئت بتوربينات الميغا ديل للتوقف عن العمل لمدة سنة كاملة حتى تموز 2018 لان عضوا بالبرلمان العراقي اقنع المزارعين في منطقة المحطة بمنع مد خط غاز يغذي المحطة بحجة الاضرار باراضيهم.

وفي العمارة استخدمت المحطة المنشأة بتوربينات جي اي الغاز الحامضي مما ادى الى تعريض حياة العاملين فيها للخطر كما اثر سلبيا على التوربينات الى حد اندثارها في المستقبل، اما في كربلاء حيث انشأت اكبر محطات الميغا ديل والمسماة الخيرات فقد عانت المحطة من مشاكل جمة. اولها ان التوربينات اضطرت للتوقف للصيانة او التنظيف مابين 57 الى 80 يوما في سنة واحدة.

كما شهدت هذه المحطة اكبر فشل لشركة جي اي على الاطلاق عندما اكتشف المهندسون العراقيون ان 6 من اصل 10 توربينات احتوت على تشققات في بدنها مما يؤشر على عدم جودة المعدن الداخل في تصنيعها. ورغم ان شركة جي اي اصلحت التشققات الا انه لم يكن هناك ضمان من عدم تشقق ابدان التوربينات مستقبلا. و اوصى تقرير حكومي عراقي الحكومة العراقية بمقاضاة شركة جي اي لكن الحكومة العراقية ووزارة الكهرباء لم تنفذ التوصية.

اما في النجف فقد افتقرت المحطة المنشأة هناك الى نظام سيطرة مما ادى الى ان يقوم المهندسون العراقيون بادارتها يدويا. وقد اوصى تقرير حكومي عراقي بايقاف عمل المحطة لحماية العاملين فيها.

اما في الديوانية حيث انشأت محطة اخرى , فقد وضعت توربينات جي اي المرسلة لهذه المحطة في ميناء على الخليج العربي دون غطاء ومعرضة لمختلف الاحوال الجوية لاكثر من سنة!

وبعد بناء المحطة توقفت توربينات جي اي رغم انها شغلت بالغاز وليس الوقود الثقيل بسبب شدة الحرارة الداخلية للتوربينات. ورغم ان طقس العراق يمتاز بالحر الشديد في الصيف فان شركة جي زعمت ان توربينها قادر على العمل بكفاءة عالية في اقسى الظروف المناخية بما فيها مناخ الصحراء او القطب المنجمد. وهو ادعاء ثبت زيفه في العراق.

وبعد مرور اكثر من 10 سنوات على توقيع عقد الميغا ديل الضخم وفي اخر مرة اتاحت وزارة الكهرباء الاطلاع على انتاج كل محطة على حدة في شباط 2019 لم تنتج المحطات السبع العاملة الا حوالي 2000 ميغا واط وهو ما يعادل اقل من ثلث الطاقة التي تعاقد عليها العراق والتي كانت 7000 ميغا واط.

وفي نهاية الامر انفق العراق اكثر من 7 مليارات دولار على مشروع الميغا ديل ومليارات اخرى للوقود وللتشغيل واكثر من عقد كامل من الزمان. وانتهى المشروع الى ان يكون واحد من اكثر المشاريع الضخمة فشلا في التاريخ.

كان واحد من اهم اسباب فشل المشروع هو براعة المسؤولين في وزارة الكهرباء العراقية في الالتفاف على قوانين العقود الحكومية العراقية. فبينما يحتاج عقد بضخامة عقد الميغا ديل الى موافقة مجلس الوزراء وبالتالي يصمم العقد ليخدم (المصلحة) العراقية , كان مسؤولو وزارة الكهرباء يضيفون (ملاحق) تغير جوهريا شروط العقد لصالح الشركات المتعاقدة وبالضد من مصلحة العراق.

وقالت صحيفة الوول ستريت جورنال الامريكية في مقال لها ان دراسة اجرتها شركة هاكليوت الامريكية المتخصصة بالشركات عن عمل شركة جي اي في العراق اعدت في عام 2018 استنتجت "ان كل عقد طاقة في العراق يجب ان يستفيد منه احد الاحزاب السياسية اوالقوى الدينية حتى يوقع".

وقد اعطى التقرير اسم علي شمارة الذي استفاد من علاقة تربطه بنوري المالكي وحصل على احد عقود محطات الميغا ديل في البصرة وقد تأخرت شركته في اكمال عملها لمدة 40 شهرا كما كلفت العراق 218 مليون دولار اضافية.

كما اتهم تقرير الشركة وكيلا لوزير الكهرباء يدعى عبد الحمزة هادي عبود بطلب الرشاوى قبل السماح لاي شركة بالعمل في ميدان الكهرباء.

وكان العامل الاهم الاخر في فشل المشروع هو انه صمم بحيث يبعد المسؤولية عن الجميع. فشركة جي اي صنعت وارسلت التوربينات. لكن العراق تعاقد مع شركات اخرى لنصب التوربينات في محطات. ووزارة الكهرباء غير مسؤولة عن الوقود. وهكذا تستطيع جي اي لوم الشركات التي نصبت توربيناتها او الوقود السيء. وتستطيع وزارة الكهرباء لوم جي اي او الشركات او وزارة النفط. وتستطيع وزارة النفط لوم وزارة الكهرباء. ويستطيع رئيس الوزراء المالكي لوم الفنيين. ويستطيع الجميع لوم امريكا والاجانب. وهكذا انتهى الامر في سلسلة لا تنتهي من تبادل اللوم بين الجميع دون تحديد من المسؤول عن هذه الكارثة.

لم تجب شركة جي اي على اسئلة كاتب هذا التحقيق. كما وعد مكتب نوري المالكي بالاجابة عليها لكنه لم يفعل ايضا.

اما حسين الشهرستاني نائب رئيس الوزراء الاسبق لشؤون الطاقة والرجل الاكثر نفوذا في هذا الموضوع في عراق ما بعد 2003 فقد كتب الى كاتب التقرير قائلا: " كنت وزيرا للنفط عام 2008... وقلت في اجتماع مجلس الوراء الذي عقد لمناقشة هذا المشروع ان العراق لايملك الغاز الكافي لتشغيل هذه التوربينات." وقد القى الشهرستاني باللوم على وزارة الكهرباء.

"لقد اكدت لنا وزارة الكهرباء ان التوربينات تعمل مع مختلف انواع الوقود وقد حشدت السفارة الامريكية جهودها مع المالكي لاتمام العقد واقر مجلس الوزراء العقد رغم معارضتي له."

لم تستجب السفارة الامريكية لاسئلة كاتب التحقيق. ولم يفعل ايضا كريم وحيد وزير الكهرباء الذي وقع العقد.

توضح ارقام الموازنات العراقية بين اعوام 2003 و2020 ان العراق انفق ما لايقل عن 70 مليار دولار في الاستثمار والتشغيل والوقود لقطاع الكهرباء بالاضافة الى استيراد الكهرباء من دول الجوار. وبالرغم من ذلك لا يزال العراقيون يعانون من انقطاع الكهرباء حوالي 16 ساعة يوميا في الصيف حيث تصل درجات الحرارة الى 50 درجة مئوية.

وربما ذهب نصف ال 70 مليار دولار الى الاستثمار في بناء محطات وبنى تحتية جديدة. وتقول شركة جي اي ان 60 % من الشبكة الكهربائية في العراق تعمل بمعداتها. وهكذا فقد لا تقل حصة جي في السوق العراقية منذ عام 2003 عن 10 مليار دولار ان لم تكن اكثر من ذلك بكثير، كما تولى وزارة الكهرباء خلال ال 17 سنة الاخيرة 8 وزراء اجبر 4 منهم على الاستقالة في حين حوكم 3 اخرون بتهم الفساد. ويقيم اغلبهم خارج العراق.

..........................................................................................................
* الآراء والمعلومات الواردة في التحقيق لا تعبر عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.
* يستند هذا التحقيق الى وثائق الحكومتين العراقية والامريكية ولقاءات كثيرة مع ذوي الشأن على مدى 5 سنوات، وقد مول معهد الامة الامريكي في نيويورك جزئيا هذا التحقيق، يمنع اعادة نشر هذا التحقيق دون الاشارة الى كاتبه حيث يحتفظ بكامل حقوقه.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي