نهايات الطفولة الرقمية على وسائل التواصل الاجتماعي
تحليل منهجي للتجربة الأسترالية
شبكة النبأ
2025-12-06 03:21
يشهد العالم تحولاً جذرياً في التعاطي مع التكنولوجيا الرقمية وعلاقتها بالنشء، حيث تقود أستراليا مبادرة تشريعية غير مسبوقة تهدف إلى حظر استخدام منصات التواصل الاجتماعي للأطفال دون سن السادسة عشرة. هذا القرار، الذي يدخل حيز التنفيذ في العاشر من ديسمبر، لا يمثل مجرد إجراء تنظيمي، بل يوصف بأنه "تجربة اجتماعية مضادة" لتجربة وسائل التواصل الاجتماعي الكبرى التي خاضتها البشرية في العقدين الماضيين. ويستعرض هذ النص الأبعاد السياسية، والتقنية، والاجتماعية لهذا الحظر، مستندة إلى رؤى المسؤولين الحكوميين، والخبراء الأكاديميين، وأصوات المراهقين المتأثرين بالقرار.
حيث يتناول هذا الموضوع قانون أستراليا الجديد الجذري، وهو تعديل السلامة عبر الإنترنت، الذي يحظر على الأفراد الذين تقل أعمارهم عن 16 عامًا امتلاك حسابات على منصات التواصل الاجتماعي الرئيسية مثل تيك توك وإنستغرام. هذا الإصلاح الشامل، المدعوم بـ غرامات باهظة على شركات التكنولوجيا غير الممتثلة، كان الدافع وراءه بشكل أساسي المخاوف المتزايدة بشأن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية للمراهقين.
تقع مسؤولية التنفيذ على عاتق مفوضة السلامة الإلكترونية جولي إنمان غرانت، التي تضغط على المنصات لاستخدام أدوات متطورة للتحقق من العمر، على الرغم من اعتراضات الصناعة. بينما يعبر العديد من المراهقين الأستراليين عن ضيقهم من فقدان وسيلة اتصالهم الأساسية، تجادل خبيرة مثل الدكتورة جو أورلاندو بأن الحظر هو "استجابة تقنية" غير كافية تهمل ضرورة تعزيز الثقافة الرقمية والكفاءة الاجتماعية. ومع ذلك، يُنظر إلى هذا القانون على أنه "تجربة اجتماعية مضادة" عالمية تترقبها دول أخرى باهتمام.
ويستند هذا التحليل إلى تقرير صوتي (بودكاست) بعنوان "هل هذه نهاية الأطفال على وسائل التواصل الاجتماعي؟" (Is This the End of Kids on Social Media?)، من إنتاج وتقديم هانا روزين (Hanna Rosin) لصالح منصة "ذا أتلانتيك" (The Atlantic) عبر برنامج "راديو أتلانتيك".
يوثق النص لحظة مفصلية في التاريخ الرقمي العالمي، حيث تتجه الأنظار نحو أستراليا التي تستعد، بدءاً من العاشر من ديسمبر، لتطبيق "تعديل السلامة عبر الإنترنت" (Online Safety Amendment).
يصف التقرير هذا التحرك بأنه "تجربة اجتماعية مضادة" تهدف إلى تصحيح مسار "التجربة الاجتماعية الكبرى" التي فرضتها التكنولوجيا على البشرية. ومن خلال لقاءات مع مفوضة السلامة الإلكترونية الأسترالية "جولي إنمان غرانت"، ومراهقين أستراليين قلقين من العزلة، وخبراء أكاديميين، تستعرض روزين المعركة الدائرة بين الإرادة السياسية الراغبة في استعادة "الطفولة" ومقاومة شركات التكنولوجيا الكبرى، في خطوة قد تعيد تشكيل القواعد العالمية للإنترنت.
1. الإطار السياقي والتشريعي: من "الجيل القلق" إلى الحزم القانوني
1.1 الدوافع والأصول الفكرية
لم يأتِ التحرك الأسترالي من فراغ، بل كان نتاجاً لتفاعل بين القلق الأبوي والإرادة السياسية. تعود جذور هذا التشريع إلى لحظة مفصلية عندما قرأت أنابيل ويست، زوجة بيتر ماليناوسكاس (رئيس وزراء ولاية جنوب أستراليا)، كتاب "الجيل القلق: كيف تسبب إعادة برمجة الطفولة في وباء الأمراض العقلية" للمؤلف جوناثان هايدت. يجادل هايدت في كتابه بأن الارتفاع الحاد في معدلات القلق، والاكتئاب، وإيذاء النفس، واضطرابات الأكل بين المراهقين تزامن بشكل مباشر مع الانتشار الواسع للهواتف الذكية،.
هذه القراءة دفعت ماليناوسكاس إلى صياغة تشريع محلي لوسائل التواصل الاجتماعي في جنوب أستراليا، وسرعان ما تحول هذا الجهد المحلي إلى قانون وطني شامل عُرف بـ "تعديل السلامة عبر الإنترنت" (Online Safety Amendment). وقد حظي القانون بدعم قوي من الحزبين الرئيسيين في البرلمان الأسترالي، حيث أعلن رئيس الوزراء أنتوني ألبانيز صراحة أن "وسائل التواصل الاجتماعي تضر بأطفالنا، وأنا أعلن انتهاء الوقت المسموح بذلك".
1.2 السابقة التاريخية والطبيعة الراديكالية
تمتلك أستراليا تاريخاً من الإصلاحات الاجتماعية المفاجئة والشاملة. يُشبه هذا التحرك بحظر الأسلحة النارية الذي تم فرضه عام 1996 بعد مجزرة بورت آرثر في تسمانيا. وكما كان ذلك القرار حاسماً، يأتي "تعديل السلامة عبر الإنترنت" ليفرض غرامات باهظة تصل إلى حوالي 50 مليون دولار أسترالي (32 مليون دولار أمريكي) على الشركات التي تفشل في الامتثال. وعلى عكس المحاولات الدولية السابقة، مثل القانون الفرنسي الذي تعثر في التنفيذ، تُظهر أستراليا تصميماً بيروقراطياً صارماً لتطبيق هذا الحظر.
2. البنية التقنية وآليات التنفيذ: مواجهة عمالقة التكنولوجيا
2.1 دور مفوضة السلامة الإلكترونية
تتولى جولي إنمان غرانت، مفوضة السلامة الإلكترونية في أستراليا، مهمة تنفيذ هذا القانون المعقد. بصفتها موظفة سابقة في شركات التكنولوجيا الكبرى (Big Tech) لمدة 20 عاماً، بما في ذلك مايكروسوفت وتويتر، تمتلك إنمان غرانت خبرة واسعة في "كتيب تشغيل" (Playbook) هذه الشركات وتدرك أعذارها المعتادة بشأن صعوبة التحقق من العمر.
تؤكد إنمان غرانت أن الحجج التي تسوقها الشركات حول استحالة تحديد عمر المستخدمين هي حجج واهية، مشيرة إلى أن هذه الشركات تعرف بدقة هوية وعمر مستخدميها لأغراض استهداف الإعلانات.
2.2 الانتقال من "التصريح الذاتي" إلى "التحقق متعدد الطبقات"
بموجب القانون الجديد، لن يُقبل بعد الآن بنظام "التصريح الذاتي" (Self-declaration) أو "بوابات العمر" التقليدية التي يسهل على الأطفال تجاوزها بالكذب بشأن تواريخ ميلادهم. بدلاً من ذلك، تفرض الحكومة على المنصات استخدام تقنيات ضمان العمر (Age-assurance technologies) المتطورة. تشمل هذه التقنيات:
* الذكاء الاصطناعي ومعالجة اللغة الطبيعية: تحليل سلوك المستخدم، والرموز التعبيرية (emojis)، والقواعد النحوية، والمفردات المستخدمة، حيث يختلف أسلوب حديث ابن الثالثة عشرة عن البالغين.
* تحليل أنماط الاستخدام: مراقبة أوقات تسجيل الدخول؛ فالدخول قبل أو بعد المدرسة يشير إلى أن المستخدم في سن الدراسة.
* التحقق البيومتري والهوية: في المناطق الرمادية التي يصعب فيها تحديد العمر من خلال البيانات السلوكية، سيُطلب من المستخدمين التحقق عبر بطاقة هوية حكومية أو مسح ضوئي للوجه مدعوم بالذكاء الاصطناعي.
2.3 استراتيجيات مكافحة التحايل (VPNs)
تدرك الحكومة الأسترالية أن المراهقين سيحاولون الالتفاف على الحظر باستخدام الشبكات الخاصة الافتراضية (VPNs) للظهور وكأنهم يتصلون من دولة أخرى. ومع ذلك، تضع إنمان غرانت عبء منع هذا التحايل على عاتق المنصات نفسها، مشيرة إلى أن شركات مثل "نتفليكس" تنجح بفعالية في اكتشاف ومنع استخدام الـ VPN، وبالتالي فإن شركات التواصل الاجتماعي تمتلك القدرة التقنية لفعل الشيء نفسه. كما يُطلب من الشركات منع التحايل القائم على الذكاء الاصطناعي، مثل استخدام صور مولدة أو أقنعة لخداع أنظمة التحقق من الوجه.
3. الأبعاد الاجتماعية: إعادة تشكيل حياة المراهقين
3.1 واقع المراهقين قبل الحظر
لفهم تأثير الحظر، يجب النظر إلى كيفية استخدام المراهقين لهذه المنصات حالياً. بالنسبة للمراهقين الأستراليين مثل "كاثرين" (15 عاماً) و"هاريسون" (13 عاماً)، لا تعد هذه التطبيقات مجرد أدوات ترفيهية، بل هي "البنية التحتية" لحياتهم الاجتماعية.
* سناب شات (Snapchat): يُستخدم كأداة أساسية للتواصل اليومي، وتنظيم اللقاءات، والحفاظ على الصداقات، وليس مجرد تطبيق لتبادل الصور،.
* تيك توك (TikTok): يمثل وسيلة لاستكشاف الهوية والترفيه المستمر.
تصف "آني" (14 عاماً) شعورها تجاه الحظر بأنه سيكون "مؤلماً" (distressing) وقد يجعلها تشعر بالضياع، خاصة مع انتقالها لمدرسة جديدة وحاجتها للبقاء على اتصال بأصدقائها القدامى. بينما تعبر "كاثرين" عن خشيتها من فقدان صداقاتها لأن التواصل عبر أرقام الهواتف التقليدية يُعتبر "غير مريح" لجيلها.
3.2 الآثار المتوقعة للحظر: بين العزلة والإنتاجية
تباينت ردود فعل المراهقين تجاه التغيير الوشيك في 10 ديسمبر:
* الجانب السلبي: يتوقع البعض، مثل "شايان" (15 عاماً)، صعوبة كبيرة في العثور على الترفيه خلال العطلة الصيفية الطويلة، والشعور بالملل والعزلة عن الأقران.
* الجانب الإيجابي: يرى آخرون، مثل "هاريسون"، جانباً مشرقاً يتمثل في تقليل الإدمان، وتحسين صحة العين، وزيادة الإنتاجية والنشاط البدني. وتتفق "راشيل" (13 عاماً) مع هذا الرأي، مشيرة إلى أنها قد تقضي وقتاً أطول مع الأصدقاء وجهاً لوجه بدلاً من التحديق في الشاشة.
الهدف الحكومي، كما توضحه إنمان غرانت، هو إحداث "تغيير معياري" (normative change) يحرر الشباب لقراءة الكتب، والاستمتاع بالشواطئ، واللعب في الملاعب الرياضية، وتقليل الصراعات المنزلية حول استخدام الهواتف.
4. الجدل النقدي: هل الحظر هو الحل الأمثل؟
4.1 وجهة نظر المعارضة الأكاديمية
على الرغم من النوايا الحسنة، تواجه السياسة انتقادات من باحثين مثل الدكتورة جو أورلاندو، مؤلفة كتاب "الجيل المتصل" (Generation Connected). ترى أورلاندو أن الحظر يمثل "استجابة تقنية" لمشكلة ثقافية ونفسية معقدة. وتستند انتقاداتها إلى عدة نقاط جوهرية:
1. التكامل الثقافي: وسائل التواصل الاجتماعي ليست مجرد نشاط منفصل، بل هي متداخلة في كل جانب من جوانب حياة المراهقين التعليمية والثقافية. "إيقاف التشغيل" ببساطة يتجاهل هذا الواقع المعقد،.
2. فرصة ضائعة لمحو الأمية الرقمية: تحذر أورلاندو من أن الحظر سيضع الجوانب السلبية لوسائل التواصل "في حالة توقف مؤقت" (on pause). عندما يعود المراهقون للمنصات في سن 16، سيكونون "خاماً" (fresh and green) وبلا مهارات للتعامل مع الخوارزميات، لأنهم لم يتعلموا كيفية استخدامها بأمان خلال سنوات مراهقتهم المبكرة.
3. الخطر السري (Underground Risk): هناك مخاوف حقيقية من أن يدفع الحظر المراهقين لاستخدام المنصات سراً. وفي حال تعرضهم لمحتوى ضار أو محتالين (predators)، لن يجرؤوا على إخبار والديهم لأنهم يكسرون القانون، مما يزيد من هشاشتهم ومخاطرهم،.
4.2 الخوارزميات هي العدو
تتفق أورلاندو مع الحكومة في أن الخوارزميات تمثل مشكلة لأنها تتغذى على المحتوى المتطرف والصادم. ومع ذلك، فإن الحل في نظرها يكمن في التعليم المبكر لمحو الأمية الرقمية (social-media literacy) وجعلها مادة أساسية كالرياضيات واللغة الإنجليزية، ليفهم الأطفال مفاهيم مثل "غرف الصدى" (echo chambers) وكيفية عمل الخوارزميات،.
4.3 الاستثناءات ومفارقة يوتيوب
من الجدير بالذكر أن القانون يتضمن استثناءات؛ حيث سيظل بإمكان الأطفال مشاهدة مقاطع الفيديو على "يوتيوب" وتصفح "تيك توك" دون حسابات. ترى الحكومة أن هذا يقلل من دقة الخوارزميات واستهداف الإعلانات، لكنه يبقي الباب مفتوحاً للوصول إلى المحتوى.
5. المستقبل والمراقبة: تجربة عالمية
5.1 القياس والتقييم (الدراسة الطولية)
نظراً لسرعة إقرار القانون وعدم وجود قاعدة أدلة سابقة لتحديد سن 16 كسن مثالي، تخطط الحكومة الأسترالية لإجراء "دراسة طولية" (longitudinal study) واسعة النطاق. ستراقب هذه الدراسة تأثير الحظر على:
* معدلات النوم لدى المراهقين.
* التفاعل وجهاً لوجه.
* التحصيل الدراسي.
تهدف هذه الدراسة إلى بناء قاعدة أدلة يمكن استخدامها لتحسين التشريعات مستقبلاً، ليس فقط لأستراليا، بل للعالم أجمع.
5.2 الاهتمام العالمي
تراقب دول عديدة التجربة الأسترالية عن كثب، بما في ذلك الدنمارك، والنرويج، ونيوزيلندا، وماليزيا، التي أبدت اهتماماً بفرض حظر مماثل. في الولايات المتحدة، أثار نشاط إنمان غرانت انتباه المشرعين، حيث وصفها جيم جوردان، رئيس اللجنة القضائية في مجلس النواب، بأنها "متعصبة" (zealot) بسبب ضغطها على منصة "X" لإزالة المحتوى العنيف.
6. الخاتمة: نحو "ترياق" للتجربة الاجتماعية الكبرى
تمثل المبادرة الأسترالية نقطة تحول حاسمة في العلاقة بين الدولة، والتكنولوجيا، والأسرة. تصف جولي إنمان غرانت وسائل التواصل الاجتماعي بأنها كانت "تجربة اجتماعية كبيرة"، وتعتبر القانون الجديد بمثابة "ترياق" لهذه التجربة (antidote social experiment).
وبينما يستعد المراهقون الأستراليون لفقدان إمكانية الوصول إلى حساباتهم، وتستعد الشركات لمواجهة غرامات بالملايين، يبقى السؤال الجوهري معلقاً: هل سيؤدي هذا الحظر الصارم إلى استعادة "الطفولة" كما عرفتها الأجيال السابقة، أم أنه سيخلق جيلاً معزولاً رقمياً ولكنه غير محصن فكرياً ضد تحديات العصر الرقمي؟
إن الجيل القادم، أو ما يُعرف بـ "جيل ألفا" (Generation Alpha)، هو الذي سيحكم على نجاح هذه التجربة، حيث تأمل إنمان غرانت أن يكونوا الجيل الذي "سُمح له بامتلاك طفولته". وحتى ذلك الحين، يظل العالم يراقب أستراليا وهي تغلق الأبواب الرقمية في وجه أطفالها، في محاولة شجاعة، وربما يائسة، لحمايتهم.