حرّاس بوابة الإنترنت في خدمة أوروبا: عمارة القمع تتعاظم
علي عواد
2023-07-04 08:19
في الشكل، تشبه الحالة الفرنسية الراهنة حادثة مقتل جورج فلويد على يد الشرطة الأميركية. فأحد أفراد الشرطة الفرنسية قتل فتًى يبلغ من العمر 17 عاماً، اسمه نائل مرزوق من أصل جزائري، في نانتير غرب باريس، يوم الثلاثاء في الـ27 من حزيران الماضي، لتندلع على إثر الحادثة احتجاجات واسعة بدأت تمتدّ إلى دول الاتحاد الأوروبي. وبعد ثلاثة أيّام على وقوع الجريمة، طلب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، «إزالة المحتوى الأكثر حساسيّة» عن منصّات التواصل الاجتماعي، ملقياً اللوم عليها وعلى ألعاب الفيديو في تأجيج العنف، فيما أعلنت حكومته اعتزامها ملاحقة المخرّبين من خلال حساباتهم على هذه المنصّات، لتعود وتعلن، أمس، أنها ستغلق خدمة الإنترنت في مناطق معينة، منعاً لانتشار «المعلومات الكاذبة». وبالتوازي، أعلن إيلون ماسك، مالك «تويتر»، أن منصّته ستحدّ من المحتوى الذي يمكن مشاهدته عبر التطبيق مؤقّتاً، بحجّة «مكافحة روبوتات برمجية تستخرج البيانات منه مجاناً». ومن جهتها، حذت منصّة «سناب تشات» حذو «تويتر»، مشيرةً إلى أنها لن تتساهل مع «المحتوى الضارّ والدعوات إلى العنف». وهكذا، تكاتف حراس بوابة الإنترنت كلّهم لحماية أوروبا.
تُظهر الدعوة التي أَطلقها ماكرون، المعايير المزدوجة في الرقابة على الإنترنت، خصوصاً لجهة أن بعض الحكومات «تتوقّع» أن تتّخذ شركات التواصل الاجتماعي إجراءات سريعة عندما تكون مصالحها على المحكّ، بينما تغضّ الطرف عمّا لا يعنيها مباشرة. هي رقابة انتقائية غير عادلة، علماً أنه من الضروري معالجة انتشار المحتوى الضارّ أو المضلّل، والمنتشر بكثرة على هذه «السوشِل ميديا»، لكنّ الاستهداف الانتقائي للمحتوى غير المؤاتي للدول الغربية يثير مخاوف حيال التنظيم العادل وغير المتحيّز للخطاب عبر الإنترنت. فكيف كانت ردة فعل الغرب على احتجاجات تايوان؟ وكيف أزالت غالبية منصّات التواصل الاجتماعي حسابات وسائل الإعلام الروسية في بداية الحرب في أوكرانيا؟ وكيف تعاملت تلك المنصّات أيام «الربيع العربي»؟ والطامة الكبرى، كانت يوم أُسكت رقميّاً الرئيس الـ45 للولايات المتحدة الأميركية، دونالد ترامب، عن كلّ منصّات عالم الديجيتال. وقد حذّر عضو الاستخبارات السابق، إدوارد سنودن، في حينه، من أن «عمارة القمع تتعاظم»، وأنه «مهما كان رأينا في ترامب، فلا يجب أن نؤيّد ما حصل له، لأن الدور آتٍ علينا».
يُعدّ ما يحصل في العالم الرقمي، اليوم، شديد الخطورة، وأعمق من مقولة أن الغرب يملك تلك الأدوات، وبالتالي فهي في خدمته. ففي مقال له على موقع «فورين بوليسي»، وبعنوان «القوة العظمى العالمية التالية ليست مَن تظنّه» (The Next Global Superpower Isn’t Who You Think)، يقول إيان بريمر، عالم السياسة الأميركي ومؤسّس ورئيس مجموعة «أوراسيا» (شركة أبحاث واستشارات في مجال المخاطر السياسية)، إن النظام العالمي القادم سيقوده ثلاثة أقطاب: «الولايات المتحدة الأميركية متمثّلة بالأمن والعسكر، الصين متمثّلة بالاقتصاد والتجارة، بالإضافة إلى جهة جديدة ثالثة هي عمالقة التكنولوجيا».
شركات التكنولوجيا الكبرى، التي تعمل غالباً من الدول الغربية، تركّز بين أيديها سلطة هائلة منذ عام 2004. وفي وقتنا الحالي، هناك 3 مليارات مستخدم على مختلف تطبيقات شركة «ميتا» (فايسبوك، إنستغرام، واتسآب ومسنجر)، و1.6 مليار مستخدم على «تيك توك» (المنصّة الصينية الوحيدة)، وحوالي 400 مليون مستخدم على «تويتر»، و2.1 مليار مستخدم شهرياً لموقع «يوتيوب». وهذا يعني عمليّاً، أن بضع منصات تقبض على بيانات الجزء الأعمّ من البشرية.
عندما نتخيّل شركات تكنولوجيا عملاقة، لا يعني ذلك محرّكاً بحثياً مثل «غوغل»، أو نظام تشغيل من شركة «مايكروسوفت»، أو هاتفاً من شركة «آبل»، أو متجراً إلكترونياً من «أمازون»، إذ لم يكن في مقدور الجيش الأوكراني، مثلاً، فعْل ما يفعله، لولا وجود أجهزة الإنترنت التي أرسلتها شركة «سبايس إكس» (لصاحبها إيلون ماسك) إلى أوكرانيا، والتي تتلقّى بدورها تمويلاً كبيراً من قِبَل «البنتاغون» مقابل «خدماتها»؛ وما كان يمكن كيان الاحتلال الإسرائيلي أن يفعّل برمجياته الخبيثة التي تراقب الفلسطينيين وتراكم البيانات عنهم لولا خوادم شركة «غوغل». أمّا شركة «مايكروسوفت»، فحصلت على «امتيازات حصرية» لأنظمة الذكاء الاصطناعي التي طوّرتها شركة «openAI». وشركة «آبل» أوقفت خدمة «AirDrop» على هواتف «آيفون» المبيعة داخل الصين خلال فترة الاحتجاجات نهاية عام 2022، كي تمنع تداول الفيديوات. وهنا، تبدو الحكومات مجرّد واجهة، في حين أن مكمن القوّة الحقيقي في مكان آخر.
الخوارزميات تحكمنا، مهما حاولنا الاختباء من الأمر. مَن منّا يستطيع كتابة ما قد يخالف «معايير المجتمع» على أيّ منصة تواصل اجتماعي؟ مَن يضمن بقاء حسابه بعد ذلك؟ ستطلق الخوارزميات حكماً ضدّنا مباشرة. ولنتذكّر، أن المستخدم البشري، باتت عليه رقابة من برمجيات تقرّر ما هو المسموح والممنوع في العالم الرقمي. السلطة الحقيقية هي هنا. القدرة على التحكّم بأفكار المليارات وتوجّهاتهم وقيمهم. هذا القطب الرقمي القادم، غير مهتمّ بالأعراق أو الجغرافيا أو أيّ شيء آخر غير مراكمة السلطة والمال. وصحيح أنه حالياً لا يزال يخضع لتوجّهات البلدان التي انطلق منها، لكن، إلى متى سيبقى الأمر سارياً قبل أن يتسرّب كقوّة صاعدة يساندها الذكاء الاصطناعي؟