لماذا تحولت الريلز إلى ثقب أسود يبتلع انتباهنا؟!
الجزيرة
2022-08-17 07:32
بقلم: كاميليا حسين
اقتربت الامتحانات، القلق والتوتر يسيطران على مشاعرك، فتقرر قبل بدء المذاكرة أن تشاهد مقطع فيديو قصيرا لا يتجاوز طوله دقيقة بحثا عن التحفيز والإلهام. على الإنترنت سوف تجد آلاف الفيديوهات التي تحمل وسم "study with me"، حيث تمنحك التفاصيل شعورا بالراحة؛ المكتب المرتب، والموضوع أسفل نافذة تطل على حديقة أو سماء صافية، مع فنجان القهوة الخزفي الملون، واليد الأنيقة التي تقلب الصفحات، والدوران السريع لعقارب الساعة والذي يمرر الساعات في ثوان معدودة.
كلها تفاصيل تزيل التوتر، وتنسيك مكتبك الفوضوي الذي يواجه الجدار الكئيب، أو يطل على شارع مزدحم في قلب مدينة تختنق بأهلها وتخنقهم، تمرر إصبعك لتشاهد مقطعا آخر، ثم آخر وآخر، لتمر الدقائق وأحيانا الساعات دون أن تذاكر شيئا، فما الذي حدث؟ وكيف تحولت مقاطع الفيديو القصيرة إلى إدمان أو ثقب أسود يبتلع الوقت والانتباه دون أن ندرك؟
لا يقتصر الأمر على مقاطع المذاكرة بالطبع، إذ يبدو أن هناك مقاطع قصيرة مناسبة للجميع، هناك مقاطع لتنظيف المنازل، وأخرى للسفر والسياحة، وثالثة للمكياج، هذا بالإضافة إلى مقاطع تنظيف البثور وقص الأظافر وتقشير الطلاء، أيا كان ما تبحث عنه سوف تجده.
الأسماك الذهبية
في عام 2015، صدر تقرير عن "مايكروسوفت كندا (Microsoft Canada)" أعلن أنه منذ عام 2000 انخفض متوسط مدى انتباه الإنسان من 12 ثانية إلى 8 ثوان فقط، أي "أقل من مدى انتباه سمكة ذهبية". هذه العبارة اللافتة الأخيرة أدت إلى تحقيق التقرير ضجة كبيرة لينتشر على نطاق واسع، حتى إنه لا يزال يُستخدم معيارا ودليلا على مدى قصر انتباه المتابعين والمستهلكين، رغم اتضاح عدم دقته فيما بعد، حيث لم يُراجَع التقرير علميا، ولم تُذكر أسماء مؤلفيه، ولم تتحدد مقاييسه بوضوح.
لكن يبدو بالفعل أن هناك مصلحة راسخة في هذه الفكرة لصناع الإعلانات، حيث يستخدم أكثر من 60% من المعلنين منصات التواصل الاجتماعي لنشر إعلانات الفيديو، كما بلغ إجمالي إنفاق المعلنين على إعلانات الفيديو ربع إجمالي الميزانية المخصصة للإعلانات الرقمية في عام 2020(1). يبدو أن زمن الإعلان الذي يمتد إلى 30 ثانية قد انتهى، خاصة إذا قارنت كلفته بتكلفة إعلان لا تتجاوز مدته 6 ثوان. حاليا تتيح منصة يوتيوب خيار تخطي الإعلان بعد 5 ثوان فقط، وقد ظهر أن ما يقارب 94% من المستخدمين يختارون التخطي(2)(3).
ورغم عدم وجود دليل واضح على تأثير نمط الحياة المتسارع على مدى انتباهنا، فإن دراسة صدرت عن الجامعة التقنية في الدنمارك وجدت أن التدفق المستمر للمعلومات يمكن أن يضيق نطاق اهتمامنا الجماعي بمرور الوقت. هذا التسارع -من وجهة نظر الدراسة- جعلنا نحصل على المعلومات التي نحتاج إليها خلال ثوان معدودة، نتجاهل التفاصيل ونبحث عن نظرة عامة سريعة، ومعلومات مسلية لا تحتاج إلى اهتمام أو تركيز حقيقي.
والهدف من كل ذلك هو أن نُشبع رغبتنا في مشاهدة مواد جديدة باستمرار، خاصة بعد هذا النجاح الساحق الذي حققته منصة "تيك توك" والذي ظهر بشكل خاص في فترة الإغلاق خلال وباء كوفيد-19، وهو ما دفع أغلب منصات التواصل الاجتماعي إلى أن تحذو حذوها، عبر تقديم مقاطع الفيديو القصيرة، ومن بينها فيسبوك وإنستجرام ويوتيوب(4).
في السنوات الأخيرة، ظهر مدى ميل المتابعين إلى تلقي المعلومات بطريقة أسرع، مع تنامي ظاهرة "الترندات" المتجددة والمثيرة والتي لم يعد عمرها في بعض الأحيان يتجاوز اليوم الواحد، وقد غذّت المنصات والمواقع الإخبارية هذا النهم وزادت من حدته بسعيها الذي لا يتوقف خلف تغطية الأحداث اليومية الساخنة والرائجة(5).
هذه الترندات أو المواضيع الرائجة باتت هي الأخرى أقصر زمنا بمرور الوقت. على منصة تويتر، كانت المواضيع الرائجة (global trend) تستمر مدة 17 ساعة ونصف في عام 2013، قبل أن تنخفض هذه المدة إلى 11.9 ساعة في عام 2016، ثم إلى 11 دقيقة في عام 2020(6).
عقل القرد
في كتابها "لا تغذِّ عقل القرد.. كيف تُوقِف دورة القلق، والخوف، والرهبة؟"، تصف "جينيفر شانون" تقافز العقل من فكرة سريعة إلى أخرى بأنه يشبه قفز القرد بين الأشجار بحثا عن الموز، واليوم بتنا نتقلب من شجرة إلى أخرى بحثا عن محتوى سريع وسطحي لا يحتاج إلى بذل جهد سوى تمرير إصبع على الشاشة.
تقول شانون في كتابها: "يتضاعف كسلنا يوما بعد يوم، ابنتي تسألني: لماذا أضطر لتمرير إصبعي على الشاشة للانتقال إلى الأسفل، الأمر مرهق يا أمي، أتمنى لو كان بإمكاني الانتقال من فيديو إلى آخر عن طريق حركة العين". ولا يقتصر الأمر على محتوى الفيديو، نشهد ذلك في الأغاني أيضا، هذا ليس زمن أغاني أم كلثوم التي تتجاوز الساعة بالطبع، حتى إنه ليس زمن أغاني التسعينات أو أوائل الألفية الثالثة التي يتراوح زمنها بين 4 إلى 6 دقائق، وقد صارت الأغاني التي لا تتجاوز مدتها 3 دقائق أكثر شيوعا.
الأفلام والكتب أيضا صارت مواد تستغرق وقتا لا يرغب المتابع العجول في استهلاكه، وهو ما أدى إلى انتشار ملخصات الكتب والأفلام. تقدم ملخصات الكتب النقاط الأساسية في الكتاب، قد يبدو هذا مقبولا في حالات الكتب العلمية على سبيل المثال، والتي يمكن تلخيص نقاطها الأساسية لأخذ فكرة سريعة عن الموضوع الذي تطرحه، لكن الأغرب أن يظهر هذا الاتجاه في الأعمال الأدبية، وكأن الروايات يمكن اختصارها في حبكتها أو القصة التي تطرحها دون اعتبار لعوامل أخرى كاللغة والبنية ورسم الشخصيات وغيرها.
كما ظهرت أيضا ملخصات الأفلام، سنطلعك على الحكاية باختصار في دقائق، بعد أن نجرد السينما من عناصرها الفنية كافة. لكن هذا هو المطلب الشائع لجمهور لا يحتمل مشاهدة فيلم يمتد إلى 90 دقيقة، ويرغب في أن يحكي له أحدهم الحكاية "على السريع" في فيديو لا يتجاوز عدد دقائقه أصابع اليد الواحدة.
ما الذي نبحث عنه؟
تقدم مقاطع المذاكرة والدراسة التي سبق أن أشرنا إليها الإحساس بالرفقة والأنس، خاصة خلال فترة الإغلاق في ذروة الوباء، حين اضطر أكثر من 1.3 مليار طالب إلى البقاء في منازلهم بسبب إغلاق المدارس. كما أنها تقدم متعة بصرية للمتابعين، تتمثل في رؤية الكتب المرتبة، والملاحظات المكتوبة بألوان مختلفة وبخط أنيق على مكاتب نظيفة ومرتبة(7).
فيديوهات "نظفوا معي" هي نوع آخر من المقاطع الأكثر انتشارا، حيث تمنحنا رؤية غرفة مليئة بالفوضى تتحول إلى غرفة نظيفة نوعا من الشعور بالراحة. ومع اضطراب العالم من حولنا خلال العامين الماضيين، ما بين وباء واضطرابات اقتصادية وحرب أوشكت على أن تصبح حربا عالمية، نرغب جميعا في رؤية ما يُشعرنا بالتحكم ويُنجينا من الشعور بالعجز، حتى لو كان ذلك عبر مشاهدة أشخاص لا نعرفهم ينظفون منازلهم.
هناك نوع آخر من المقاطع يُعرف بالمقاطع "المرضية بشكل غريب (Oddly Satisfying)"، تتضمن هذه الفئة تنوعا واسعا ما بين مقاطع إزالة الطلاء المتجمد، أو تنظيف البثور والدمامل، أو تنظيف الشعر، وقص الأظافر ومقاطع السلايم. ما سر انتشار هذه المقاطع؟
تؤدي هذه النوعية من المقاطع إلى إطلاق السيروتونين والدوبامين في الدماغ؛ ما يحفز الشعور بالسعادة. ويُعزى السبب في ذلك إلى مجموعة من الخلايا التي يُطلَق عليها اسم "الخلايا العصبية المرآتية (Mirror Neurons)"، والتي تعكس تجارب الآخرين أو آلامهم. ولذلك فعندما نشاهد شخصا يقوم بأمر ما، تستثار لدينا الاستجابة العصبية نفسها التي تحدث عند قيامنا بهذا الأمر بأنفسنا. وقد ازدادت شعبية هذا النوع من المقاطع مع زيادة مشاعر التوتر والقلق لدى الأفراد، وكذلك مع زيادة إدمان الهاتف والرغبة في الشعور بالإشباع الفوري، حيث توفر مشاهدة هذه المقاطع تجربة فورية تخلصك من التوتر والقلق(8)(9).
العقل المتجول عقل غير سعيد
لسوء الحظ فإن هذه الجرعات الرخيصة من الدوبامين لا تأتي بدون ثمن. وفقا لدراسة أجراها كل من "ماثيو إ. كيلينجسورث" و"دانييل تي جيلبرت"، عالمَي النفس في جامعة هارفارد، يقضي الناس 46.9% من ساعات يقظتهم في التفكير في أمور أخرى غير ما يفعلونه. استخدمت هذه الدراسة تطبيق "iPhone Web" لجمع 250 ألف قطعة بيانات حول أفكار الأشخاص ومشاعرهم وأفعالهم أثناء ممارسة حياتهم. شارك في الدراسة 2,250 شخصا من خلفيات اجتماعية واقتصادية متباينة، وتراوحت أعمارهم من 18 إلى 88 عاما.
طبقا لـ"كيلينجسورث" و"جيلبرت" فإن هذا الشرود ربما هو ما سمح للبشر بالتعلم من الماضي والتخطيط لمستقبلهم ويمنحهم القدرة على الخيال؛ ما يجعل الشرود إنجازا معرفيا للبشر مقارنة بمملكة الحيوانات، لكنه يأتي أيضا بكلفة عاطفية عالية من الشعور بالتعاسة. وقد أشار المؤلفان إلى العديد من الممارسات الدينية والفلسفية التي تحث أتباعها على ممارسة اليقظة ومقاومة الشرود عبر الحضور هنا والآن. فالعقل الشارد أو المتجول كما أشارت الدراسة هو عقل غير سعيد(10).
الأمر الآخر أن هذا الشرود غالبا ما يرتبط بنقص القدرة على الانتباه، وهذا بدوره يرتبط بالعديد من النتائج السلبية، منها ضعف الأداء الأكاديمي والمهني وعدم القدرة على إتمام المهام، وحتى صعوبة التواصل مع الآخرين.
كيف نزيد انتباهنا القصير؟
في النهاية، يجب عليك أن تتعامل مع قصور الانتباه الذي تواجهه بسبب تلك النوعية من الضغوط المعاصرة. هناك عدة طرق ينصح بها العلماء، أولها شرب كميات كافية من المياه، حيث يؤدي الجفاف إلى تدهور القدرة على التفكير، وضعف التركيز؛ إذ تتكون أجسادنا من 55 إلى 65% من المياه، أي ما يزيد على نصف وزن الجسم. وفي دراسة حديثة أجريت في جامعة شرق لندن وجامعة وستمنستر وجدت أن شرب كوب من الماء (حوالي 300 ملّي) يمكن أن يعزز الانتباه بنسبة تصل إلى 25%(11).
التمارين الرياضية المنتظمة كذلك مهمة، يمكنها أن تساعد على تحسين الانتباه، وتلعب دورا كبيرا في زيادة التركيز. يمكنك أن تبدأ بالمشي لمدة 30 دقيقة، أربع أو خمس مرات أسبوعيا. وكذلك ممارسة التأمل، حيث تتضمن ممارسات التأمل واليقظة الذهنية تدريب عقلك على التركيز وإعادة توجيه أفكارك، ويمكن أن تؤدي هذه الممارسات إلى تحسين قدرتك على التركيز والانتباه.
هل تواجه صعوبة في التركيز خلال الاجتماعات أو المحاضرات الدراسية؟ بإمكانك تحسين تركيزك عبر طرح الأسئلة أو التدوين اليدوي للملاحظات. أشارت دراسة صادرة عن جامعة كاليفورنيا إلى أن تدوين الملاحظات يدويا باستخدام الورقة والقلم أفضل من تدوينها باستخدام جهاز (سواء كمبيوتر أو هاتف محمول) وهو ما يلجأ إليه الغالبية في الوقت الحالي، ووجدت أن الطلاب الذين دوّنوا الملاحظات على أجهزة الكمبيوتر المحمولة كان أداؤهم في الأسئلة المفاهيمية أسوأ من أداء الطلاب الذين أخذوا ملاحظات بخط اليد.
وفي حالة وجود صعوبات أكثر تعقيدا، فإن العلاج المعرفي السلوكي يمكن أن يصبح وسيلة فعالة لعلاج مشكلة عدم الانتباه(12). على أي حال، إذا كنت قد أكملت هذا التقرير حتى النهاية فأنت بالتأكيد تملك انتباها أكبر مما أُطلِق عليه انتباه السمكة الذهبية.