صناعة الفتنة الافتراضية
د. ياس خضير البياتي
2021-06-07 04:25
لا ندري على وجه الدقة كيف ستنتهي الثورة المعلوماتية الرقمية، فكما كان العالم القديم يجهل ما كان يعنيه اكتشاف الطاقة النووية، كانت الآراء أن العالم اكتشف وسيلة لتوليد الطاقة وتحريك المعامل لما فيه خير البشرية، ليكتشف لاحقا أنه فتح باب الحروب التدميرية الهائلة لتدمير العالم. مثلما لا نستطيع اليوم أن نقرر بالتحديد مستقبل البشرية في هذا الكم الهائل للمعلومات التي تتدفق في قنوات الإعلام الجديد.
ودون شك فإن المشهد العام لهذا الإعصار الجديد ينبئ بمتغيرات خطيرة، إيجابية وسلبية، لأن الإعلام الجديد أسس له دولة افتراضية جديدة بلغت البلايين من البشر يختفون وراء الشبكات الاجتماعية، مقابل الكم الهائل من المعلومات المتوافرة لدى الناس، التي تتضمن المعلومات الحكومية والسياسية والاقتصادية وغيرها، إذ أنها لم تكن متوافرة في الماضي. إلا أن ما يشغل بال المضطلعين في مجال الإنترنت والمعلوماتية هو شكل هذه المعلومات، وطريقة تقديمها، وأهدافها المبطنة، وطريقة استثمارها. فاستخدام المعلومات أصبح سلاحا أكثر عنفا وأشد تأثيرا، لذلك أدركت الدول المتقدمة تقنيا أهميته منذ ذلك الحين، فاعتمدته وسعت إلى تطبيقه في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية. وتنشط العديد من الدول بصورة صامتة لتطوير قدراتها في الحرب الإلكترونية وبناء جيوش من الخبراء الذين قد يشكّلون مستقبلا نواة الجيش الإلكتروني للدولة.
وأنشأت هذه الدول غرف عمليات لإدارة حروب المعلومات الرقمية، وبالذات من أجل تحقيق أربعة أهداف رئيسية هي: الاستغلال، والخداع، وخلق الفوضى، وأخيرا التدمير للمعلومات ونظمها، وباتت هذه الحروب أوسع نطاقا وأعمق تأثيرا في السلوك.
مع الأسف تشهد اليوم مواقع التواصل الاجتماعي سجالات ومماحكات بين الشباب العربي حول قضايا سياسية، مضخمة أو غير صحيحة. ولا يجد الباحث العلمي في إخضاع هذه الظاهرة للمنهج العلمي صعوبة في اكتشاف أياد تعبث بالمعلومات بطريقة منظمة وممنهجة، هدفها إشعال فتيل النزاعات الطائفية والدينية والقومية.
والملاحظ أنها تتزامن مع خطط الحروب والفوضى بأنواعها في أوطاننا، بوجود فاعل خبيث، ووجود مختبرات وغرف عمليات تدار من قبل دول لها مصالحها في تأجيج هذه المنازعات الافتراضية.
اكتشفت من خلال الرصد والتحليل بأن هناك تصاعدا في الحروب الكلامية والتعليقات في قضايا ترتبط بالمخططات الراهنة التي تحاول إعادة تقسيم المنطقة، وخلق الفوضى الخلاقة، وإثارة النعرات الطائفية والقومية، وتدمير الدول السعيدة، والتنكيل بالقيم والخصوصيات الوطنية والاجتماعية، من أجل تسهيل تنفيذ مخططات التدمير المنظم للمنطقة العربية.
ففي التجربة العراقية عمل المخطط الأميركي على تفتيت وحدة العراق السياسية والاجتماعية، بالنزاعات الطائفية والقومية، فاستثمر تكنولوجيا التواصل الاجتماعي لإشعال حريق الطائفية من خلال تجنيد أسماء افتراضية في غرف عمليات يعمل بها المئات من خبراء التكنولوجيا والحرب النفسية، لتغذية النزاعات من خلال تلفيق الأخبار والأحداث وتضخيم الإشاعات.
وحسب اعتراف أحد عملاء المخابرات الأميركية لصحيفة نيويورك تايمز “بأن الهدف المركزي لعملنا هو من وراء خطوط العدو بهدف تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائما ومنقسمة”.
ونجد على مواقع التواصل الاجتماعي سجالات عقيمة بين شباب العرب حول قضايا صغيرة لا تستحق الذكر، وأعتقد جازما من خلال تحليل مضامين القضايا المتنازع عليها، وأساليب طرحها وتوقيتها، أن هناك جهات تصنع الأسماء والمواقع والحسابات، كما فعلت في التجربة العراقية، هدفها إشعال فتيل الفرقة بين أبناء العرب لغايات معروفة مرتبطة بأحداث جارية في اليمن وسوريا، ولاحظت جهات رسمية خليجية (بأن هناك المئات من الحسابات والمدونات، والفيديوهات المنتجة خصيصا، تنطلق من إيران وبالذات من مشهد، وهي تظهر بلباس هذه الدول لإثارة الفتن والفوضى والخداع، وتناقش قضايا داخلية لهذه الدول، وكأنها صادرة منها)، إضافة إلى دول أجنبية أخرى لها أهداف معروفة، وكلها تهدف إلى تأزيم العلاقات بين بلدان الخليج، وضرب التماسك المجتمعي. وبالتأكيد هناك من الشباب من ينجرف لأسباب وطنية، ولقلة التجربة الحياتية إلى هذه السجالات.
ولابد من الاعتراف أيضا بأن هناك قوى عربية، تشارك في صناعة الفتنة، وبالذات الأحزاب الدينية المتطرفة والطائفية، والتي ساهمت من خلال وجودها في السلطة أو خارجها في تدمير الأوطان بنزعاتها التسلطية، وأجنداتها السرية، لتحويل الأوطان إلى مختبرات للعنف والإرهاب والطائفية.
أيها الشباب لا تضيعوا أوطانكم بأوهام وخداع وتضليل من يريد هدم الوطن بمقالع الحسد والحقد، كما فعلوها في أوطان أخرى.