لم لا تستطيع الصين إنتاج شرائح إلكترونية متطورة؟
علي عواد
2021-04-18 02:52
مع دخول البشرية عالم الديجيتال من بابه الواسع، يمكن القول إن تأثير الرقاقات الإلكترونية على التطوّر العالمي يفوق تأثير الثورة الصناعية. من الهواتف الذكية والحواسيب وأجهزة الواقع المعزّز والافتراضي إلى الإنترنت والذكاء الاصطناعي والحواسيب الكمومية والسيارات الكهربائية والمسيّرات (Drones) والطائرات المدنية والحربية والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، باتت تنتشر الرقاقات في كل مكان؛ من الأجهزة الكهربائية داخل المنزل إلى روبوتات تجوب القمر والمريخ.
عام 1965، توقع المهندس الأميركي غوردون مور، أن عدد الترانزستورات (جهاز شبه موصل للكهرباء يُستخدم لتضخيم أو تبديل الإشارات الإلكترونية والطاقة الكهربائية) لكل رقاقة سيليكون يتضاعف كل عام. أي أن قدرة الشريحة الإلكترونية من حيث السرعة والحوسبة ستتضاعف. وبعد عشر سنوات من توقعه هذا، ومع تباطؤ التكنولوجيا في تحقيق هذا الهدف، مدد مور الفترة الزمينة لتصبح 18 شهراً. وأصبح توقع المهندس الأميركي «إنجيل» عالم صناعة الشرائح الإلكترونية، حتى أنه بات يُعرف باسم قانون مور (Moore's law). ويشار إليه عند إصدار كل شريحة جديدة أصغر حجماً، وأكثر قوة.
مع تطوّر التكنولوجيا، انتقلنا من الحواسيب إلى أجهزة أصغر حجماً وأكثر تعقيداً، الهواتف الذكية. وهي، عملياً، عبارة عن حاسوب صغير، لم تكن له القدرة بدايةً على معالجة تطبيقات تطلب جهداً كبيراً، إذ إن صناعة الشرائح الإلكترونية، لم تستطِع، في حينها، أن تقدم رقاقات صغيرة الحجم وقوية يمكن إدخالها في صناعة الهاتف، تطلب الأمر سنوات من الإنفاق على مراكز الأبحاث والتطوير حتى وصلنا إلى هذه اللحظة.
يُقاس حجم الرقاقات الإلكترونية بالنانومتر. ويرتكز تطويرها إلى زيادة قدراتها وجعلها أصغر حجماً. وحالياً تحتوي غالبية الهواتف الذكية والحواسيب ذات القدرات الفائقة، على رقاقات بحجم 7 أو 5 نانومتر. هذا النوع من الرقاقات تنتجه شركتان في هذا العالم، شركة «تي أس إم سي» TSMC التايوانية، وشركة «سامسونغ» في كوريا الجنوبية. في حين أن شركة «إنتل» الأميركية، قالت إنها ستصبح قادرة على إنتاج رقاقات بقياس 7 نانومتر في عام 2023، فيما تعتزم TSMC البدء بإنتاج رقاقات بقياس 3 نانومتر أواخر العام الحالي.
إنتاج رقاقات بمثل هذا الحجم، يحتاج إلى تكنولوجيا فائقة التطور، وخبرات تمّت مراكمتها عبر عقود، ولا يكفي فقط أن تمتلك المعدّات اللازمة. ولإيضاح ماذا يعني أن تصنع رقاقة بقياس 5 نانومتر: يبلغ قطر خيط من الحمض النووي البشري 2.5 نانومتر. وهناك شركة واحدة على كوكب الأرض، تمتلك التكنولوجيا التي تسمح بإنتاج مثل تلك الرقاقات، وهي شركة «إي أس إم أل» ASML الهولندية. الأخيرة لا تنتج الرقاقات، هي تبيع معدات صنعها فقط، ويطلق على الجهاز الذي يصنع رقاقة الـ7 والـ5 نانومتر «EUV Lithography Machine».
بحسب موقع «semiconductors.org»، زادت مبيعات أشباه الموصلات semicondutors (هي مادة موصلة للكهرباء بشكل جزئي، وتقع بين نقطة إيصال الكهرباء وعدمه وتُصنع من السيليكون غالباً، وجودها أساسي في الرقاقات الإلكترونية) في جميع أنحاء العالم من 125.6 مليار دولار في عام 1998 إلى 468.8 مليار دولار في عام 2018، وهو معدل نمو سنوي مركب بنسبة 6.81 في المئة سنوياً.
حالياً، يعاني عالمنا من نقص كبير في تلك الرقاقات، ويقدّر مصرف «مورغان ستانلي» وهو بنك استثماري أميركي متعدد الجنسيات وشركة خدمات مالية، أن جزءاً من المشكلة سببه جائحة كورونا، حيث زاد الطلب خلالها على الأجهزة الإلكترونية مثل الهواتف والألواح الذكية ومنصات ألعاب الفيديو، كما أن ارتفاع عمليات التنقيب عن العملات الرقمية Mining (تستخدم وحدات معالجة الرسوميات GPU في أجهزة خاصة أو التي ضمن الحاسوب) أثّر على كمية الطلب. وبحسب المصرف، أكثر القطاعات المتضررة هو صناعة السيارات. الأخير وبحسب شركة AlixPartners للاستشارات، سيخسر 61 مليار دولار في العام الحالي، نتيجة اضطراره إلى تخفيض الإنتاج لعدم وجود رقاقات كافية.
أين الصين من هذا كله؟
لعقودٍ من الزمن، كانت الولايات المتحدة رائدة في صناعة أشباه الموصلات، حيث تسيطر على 48 في المئة أو 193 مليار دولار من حصة السوق من حيث الإيرادات اعتباراً من عام 2020. ووفقاً لـ «IC Insights»، فإن ثمانية من أكبر 15 شركة لأشباه الموصلات في العالم هي في الولايات المتحدة، حيث احتلت شركة «إنتل» المرتبة الأولى من حيث المبيعات.
وبحسب مقال نشرته «فورين بوليسي»، تعدّ الصين مستورداً صافياً لأشباه الموصلات، وتعتمد بشكل كبير على الشركات المصنعة الأجنبية ــ لا سيما تلك الموجودة في الولايات المتحدة ـــ لتمكين معظم تقنياتها. واستوردت الصين شرائح إلكترونية بقيمة 350 مليار دولار في عام 2020، بزيادة قدرها 14.6 في المئة عن عام 2019. ومن خلال مبادرة صنع في الصين 2025 والمبادئ التوجيهية لتعزيز تطوير صناعة الدوائر الإلكترونية المتكاملة الوطنية، على مدى السنوات الست الماضية، عززت الصين جهودها لتسريع تطوير صناعة أشباه الموصلات المحلية، وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة، وترسيخ مكانتها كشركة عالمية رائدة في مجال التكنولوجيا. ومع اشتداد المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، لا سيما في ظل إدارة الرئيس الـ45 للولايات المتحدة الأميركية، دونالد ترامب، عمدت إلى تشديد ضوابط تصدير أشباه الموصلات بسياسات ترخيص أكثر صرامة، لا سيما تجاه الكيانات الصينية.
وفي لحظة صعود نجم شركة «هواوي»، كأحد أهم مورّدي ومقدّمي خدمة الجيل الخامس من الاتصالات اللاسلكية 5G، إضافة إلى إنتاجها أفضل الهواتف الذكية المتفوقة. قام ترامب بعرقلة تطور الشركة ومنع الدول من شراء منظومة اتصالات 5G منها، كما فرض عقوبات قاتلة، منعت هواتف الشركة من التواصل مع متجر تطبيقات «غوغل» الخاصة بنظام التشغيل «أندرويد»، إضافة إلى خدمات «غوغل» كافة مثل الخرائط و«يوتيوب» والبريد الإلكتروني. وحالياً، لا تستطيع «هواوي» شراء شرائح إلكترونية متطورة من أجل إنتاج هواتف جديدة متطورة، ويتوقع أن تكتفي الشركة بتصنيع هواتف أقل مرتبة مما كانت تنتجه سابقاً.
وعندما حاولت شركة «أس إم أي سي» SMIC الصينية الرائدة، والتي تُعنى بإنتاج الرقاقات الإلكترونية، شراء جهاز «EUV Lithography Machine» من شركة ASML الهولندية، مُنعت الأخيرة من ذلك بموجب عقوبات أميركية. كما وضعت الولايات المتحدة SMIC على لائحة عقوبات، منعت الشركات العالمية من شراء الشرائح التي تنتجها (قياس 14 نانومتر وما فوق). وبحسب خبراء في هذا المجال، انتقل الطلب من SMIC إلى TSMC التايوانية، وبرأيهم هذا هو السبب الحقيقي خلف النقص الكبير في الشرائح الإلكترونية، وليس كما أشار مصرف «مورغان ستانلي». وحالياً تكتفي «SMIC» بتصنيع الرقاقات إلى الداخل الصيني فقط.
من هنا، لا يمكن القول إن تايوان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، وحدهم يمتلكون سر صناعة هذه الرقاقات. إذ هم أنفسهم بحاجة إلى معدات وبرمجيات يتشاركونها فيما بينهم وبين عدة شركات عالمية تُعنى بهذا المجال. وتجد الصين نفسها مقيدة، وممنوعة من التطور بفعل العقوبات الأميركية.
لا تستطيع الصين اليوم إنتاج رقاقات بقياس 7 أو 5 نانومتر، غير أنها بدأت تنفق مليارات الدولارات من أجل تطوير هذا القطاع والخروج من هيمنة أميركا وشركائها. وهذا ما أقلق الأخيرة ودفعها إلى فرض إجراءات متعاقبة، أدّت إلى خليط من الأحداث خلال العامين الماضيين، ونذكر أهمها:
- آذار 2019
شركة ZD Tech تبني أول منشأة لها في الهند، بعدما كانت داخل الصين.
- نيسان 2019
شركة «فوكسكون» التي تنتج هواتف «آيفون» لـ«آبل» داخل الصين، بدأت الإنتاج داخل الهند.
- أيار 2019
حظرت الولايات المتحدة عملاق الاتصالات الصيني «هواوي» من شراء قطع ومكونات من شركات أميركية.
- أيار 2019
شركة «ARM» وهي إحدى أهم الشركات في تصميم الرقاقات البالغة الدقة، عملها الأساسي يقضي بتصميم وهندسة الرقاقات الإلكترونية وبيع تلك التصاميم إلى شركات الهاتف (ARM لا تنتج رقاقات هي تصممها فقط)، قامت بإصدار مذكرة داخلية تمنع بموجبها التعامل مع شركة «هواوي».
- كانون الأول 2020
«هواوي» تنقل إنتاج هواتفها ذات خدمة الـ5G إلى تايوان.
- كانون الأول 2020
مُنعت شركة «SMIC» الصينية من الاستحصال على جهاز «EUV Lithography Machine» من شركة «ASML» الهولندية، بضغوط من إدارة ترامب.
- شباط 2020
شركة «TSMC» التايوانية تخفض إنتاج رقاقات إلكترونية لـ«هواوي».
- نيسان 2020
شركة «هواوي» تنقل طلبات الشرائح من «TSMC» التايوانية إلى «SMIC» الصينية.
- أيار 2020
شركة «TSMC» التايوانية تعلن عن خطط لإنشاء مصانع رقاقات بقياس 5 نانومتر داخل الولايات المتحدة.
- أيار 2020
شركة «SMIC» الصينية تحصل على 2.2 مليار دولار تمويل من الحكومة الصينية.
- 3 آذار 2021
في تطور بالغ الأهمية، أعلنت شركة «ASML» أنها وقّعت اتفاقية مع «SMIC» الصينية بقيمة 1.2 مليار دولار من أجل شراء معدات تصنيع رقاقات إلكترونية. وقال مسؤول تنفيذي في هذا المجال في الولايات المتحدة لوكالة «رويترز» إن «هذه الاتفاقية بمثابة صفعة في وجه توصيات لجنة الأمن القومي الأميركية للذكاء الاصطناعي ويظهر مدى اتّساع الفجوة مع الحلفاء الأوروبيين بشأن هذه القضية».
وبعد حفلة الأخذ والرد، أوضحت «ASML»، أن التقنية التي باعتها إلى الصين قديمة، واسمها «Deep Ultraviolet Lithography» وقال مصدر مقرّب من إدارة الرئيس جو بايدن، إن الإدارة تركّز بشكل أكبر على الموجة التالية من المنافسة التكنولوجية مع الصين. مضيفاً «هذا يشبه محاولة منعهم من الحصول على تقنية تصنيع هاتف قديم»، وأوضح «نحن مهتمّون أكثر بتقنيات الغد».
بعد عملية الشراء هذه، والتي ما كان يمكن لها أن تتم في ظل إدارة ترامب، عنونت صحف صينية عملية الشراء بـ«الصين تتخذ الخطوة الأولى نحو الاعتماد على الذات في الرقائق الإلكترونية». وصحيح أن ما حصلت عليه عبر الصفقة، هو تكنولوجيا قديمة، لكنها بذلك تكون قد تخطّت سنوات عدة من الأبحاث والتطوير، ويمكن لها الآن أن تركز بشكل أساسي على التكنولوجيات المتقدمة، بدل أن تبدأ من الصفر.
مطلع الأسبوع الحالي، قال البيت الأبيض إن حزمة الاستثمارات في البنية التحتية التي اقترحها الرئيس جو بايدن والبالغة تريليوني دولار، تتضمن 300 مليار دولار لتعزيز قطاع الصناعات التحويلية في الولايات المتحدة، من بينها 50 مليار دولار لإنتاج وبحوث الشرائح الإلكترونية. بحسب ما نقلت وكالة «رويترز».
وسيعلن بايدن الملامح الرئيسية لمسعاه لإعادة بناء قطاع التصنيع، خلال اجتماع لمسؤولين كبار في البيت الأبيض والرؤساء التنفيذيين لحوالى 20 شركة كبرى، وسيركّز على نقص في أشباه الموصلات (semiconductors) الذي يعكّر صفو صناعة السيارات وشركات التكنولوجيا.
وبحسب صحيفة «واشنطن بوست»، إن هذه الجهود الرامية إلى دعم هذه الصناعة، تأتي نتيجة سببين: أولهما النقص العالمي في الشرائح الإلكترونية وأشباه الموصلات. وثانيهما المخاوف الأميركية من أن الصين قد تتفوق على الولايات المتحدة في هذا المجال البالغ الأهمية.
وتجدر الإشارة إلى أمرٍ خفي، لا يتم تناوله بشكل كافٍ في التقارير. وهو أن أحد أبرز مخاوف الولايات المتحدة من ضم تايوان إلى الصين، هو حصول الأخيرة على كل التكنولوجيا الفائقة والتقنيات المتقدمة في مجال صناعة الرقاقات الإلكترونية. ومن هنا، يمكن قراءة أن ما تقوم به الولايات المتحدة من حرم الصين من التكنولوجيا، ونقل الشركات الأميركية من الداخل الصيني إلى دول الإقليم، مثل الهند وفيتنام وتايلند. والدخول في محادثات مع شركة «TSMC» التايوانية للانتقال إلى الولايات المتحدة، مضافاً إليه الخطة الجديدة لدعم صناعة الرقاقات. يبرز حجم الهلع الأميركي من أن تتفوق الصين في هذا المجال.
واقعياً، يمكن للصين أن تقفز جيلاً واحداً في نقلة تكنولوجية هائلة لصناعة الرقاقات. بمعنى يمكن لها أن تنتقل مثلاً من صناعة رقاقات بقياس 14 نانومتر إلى 7 نانومتر من دون المرور بقياس 10 نانومتر. لكن من المستحيل، وبحسب خبراء في هذا المجال، أن تقفز جيلين فجأة وتصبح من الدول المنتجة لرقاقة الـ5 نانومتر.
وفي أثناء بحث الصين عن كيفية تصنيع رقاقة بقياس 5 نانومتر، ستكون الشركات الأخرى تبحث في كيفية بناء رقاقة بقياس 2 أو 1 نانومتر. الأمر مرتبط بالزمن، وبمراكمة التجارب والأبحاث وصرف مليارات الدولارات. لكنها الصين، وكما فاجأت العالم بتقنية الـ5G، بحيث بات بإمكانها الخروج من الإقطاع الرقمي الذي فرضته شركة «كوالكم» عبر تقنية الـ4G (لصنع شريحة تمتلك قدرة اتصال 4G كان على شركات الهاتف حول العالم دفع مليارات الدولارات الأميركية إلى كوالكم، كون التقنية مسجّلة باسمها)، قد تفاجأ الصين العالم بأسره من جديد.