ظهور عالم مضطرب

بروجيكت سنديكيت

2020-01-05 04:15

بقلم: ألكساندر فريدمان

نيويورك ـ يعتقد الكثيرون أن الذكاء الاصطناعي (AI) يُشكل أكبر تهديد لمستقبل البشرية، والذي ربما يتجسد في الروبوتات الخبيثة. لكن مع بداية العقد الثالث من الألفية، ليس التفرد ما يجب أن نخشاه، بل عدو أكبر: أنفسنا.

لا يجب أن نفكر في فيلم "المُدمر"، بل في فيلم "تقرير الأقلية".

نحن نعمل على تطوير تكنولوجيا قراءة العقول بسرعة دون أي وسائل فعالة لكيفية التحكم فيها. تخيل، ولو للحظة، أن البشر قد تطوروا ليصبحوا قادرين على قراءة عقول بعضهم البعض. كيف سيكون تأثير ذلك علينا؟

للإجابة على هذا السؤال، فكر في الحوارات الداخلية الخاصة بك. من الآمن أن نفترض أن كل واحد منا لديه أفكار من شأنها أن تكون صادمة (أو خاصة) حتى لأولئك الأقرب إلينا. كيف سيكون رد فعل أولئك الذين لا يهتمون لأمرنا حينما يُصبحوا قادرين على سماع ما يدور في رؤوسنا من حوارات فارغة؟ هل كانوا سيعتبرونها مجرد حوارات عابرة؟ أم أن البعض قد يستجيب بشكل انتهازي، مستفيدين من الأفكار التي لم نرغب في إظهارها؟

لم يمكّننا التطور من قراءة العقول لأن تلك القوة قد تُدمر الجنس البشري. بدلاً من ذلك، نظرًا إلى أن أسلافنا القدامى كانوا مُنظمين في مجموعات للحماية، تعلم معظمنا ما يمكن أن يُقال وما كان من الأفضل إخفاءه. مع مرور الوقت، أصبحت هذه سمة إنسانية متطورة للغاية ساهمت في تكوين المجتمعات، وبناء المدن، وتوحيد المئات من الأشخاص المُجهدين، عادةً دون مهاجمة زملائهم. إنه يشكل جزءًا أساسيًا مما نسميه الآن بالذكاء العاطفي "EQ".

ومع ذلك، بدأت التكنولوجيا الآن في تهديد هذا التكيف التطوري الضروري بطريقة أساسية.

تتمثل المرحلة الأولى في شبكات التواصل الاجتماعي. أكد الفيسبوك هذا المسار عندما أثر التلاعب الروسي على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016. ويزيد تويتر من حدة هذا الاتجاه، حيث يُمكّن المستخدم من التخلص من فكرة أو عاطفة عابرة قد يتم مشاركتها بعد ذلك مع الملايين. تخيل كيف كافح قادة كوريا الشمالية لتفسير تغريدة الرئيس دونالد ترامب حول "النار والغضب". هل كان تهديدًا حقيقيًا من زعيم أميركي جديد وغير منتظم، أو مجرد كلام عابر (وميض عقلي من الأفضل تجاهله)؟ في عالم القوى العظمى الثنائي القطبية، تم تثبيت خط الهاتف الساخن الأمريكي-السوفيتي الشهير كوسيلة لتوضيح نوايا كل جانب، خشية أن يكون هناك سوء فهم قد يختفي العالم على إثره تحت سحابة السلاح النووي.

اليوم، في عالمنا الأكثر تعقيدًا والذي تُحركه تهديدات متعددة الأقطاب وغير متماثلة، تقدم شبكات التواصل الاجتماعي لجميع الراغبين مكبرات صوت عملاقة غير محررة. أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي أداة يمكن أن تقوض الديمقراطية؛ ومع ذلك، فهي مجرد لعبة أطفال مقارنة بما نواجهه اليوم.

أعلنت الشركات الناشئة ومتعددة الجنسيات مؤخرًا عن ابتكارات مذهلة تُتيح القراءة الذهنية. تسعى شركة "نيورالينك" الناشئة التي أسسها "اٍيلون ماسك" للحصول على موافقة من أجل إجراء تجارب بشرية على جهاز مزروع في أدمغة المستخدمين لقراءة أفكارهم. طورت شركة نيسان تقنية "من العقل إلى السيارة" التي تُمكن السيارة من قراءة التعليمات من خلال قراءة أفكار السائق. قامت شركة فيسبوك بتمويل العلماء الذين يستخدمون الموجات الدماغية لفك تشفير الكلام. تُظهر إحدى المقالات الحديثة في مجلة "نيتشر" العلمية كيف يمكن للذكاء الاصطناعي خلق خطاب من خلال تحليل إشارات الدماغ. طور الباحثون في جامعة كولومبيا تقنية يمكنها تحليل نشاط الدماغ لتحديد ما يريده المستخدِم والتعبير عن رغباته عبر مركب الحديث.

من الواضح أن هذه التكنولوجيات يمكن أن تقدم فوائد حقيقية، بما في ذلك من خلال مساعدة أولئك الذين يعانون من الشلل أو الاضطرابات العصبية. لقد تم تنفيذ أمثلة مبكرة من الجراحات العصبية: مثل عملية زرع قوقعة الأذن، التي تُمكن الشخص الأصم من السمع، أو الأجهزة الواعدة التي يمكن أن تسمح للمكفوفين بالرؤية.

ولكن هناك أيضًا تطبيقات محتملة أكثر تطورا، مثل تمكين شركات الإشهار من تقديم عروضهم حسب رغبات الأفراد غير المعلنة، أو أصحاب العمل من التجسس على الموظفين، أو الشرطة من مراقبة النوايا الإجرامية المحتملة للمواطنين على نطاق واسع، على غرار متابعة أخبار سكان لندن اليوم على إذاعة "CCTV". يُعد تطبيق "توك توك" (ToTok)تحذير مبكر، وهو أحد أكثر تطبيقات الوسائط الاجتماعية التي يتم تحميلها، والتي تم الكشف عنها مؤخرًا، وكانت حكومة الإمارات العربية المتحدة تستخدمها للتجسس على المستخدمين. ماذا يحدث إذا تم اختراق أجهزة قراءة الأفكار؟ من الصعب تخيل مجال خصوصية البيانات ذي صلة أكبر من الموجود في الدماغ البشري.

يعتقد ماسك أن واجهات الدماغ ستكون ضرورية للبشر لمواكبة الذكاء الاصطناعي. يُعيدنا هذا إلى قصة رعب الخيال العلمي "تقرير الأقلية" "The Minority Report" عن فيليب ك. ديك (المُقتبسة من فيلم تقرير الأقلية عام 2002). تخيل الآثار الأخلاقية والقانونية والاجتماعية الشائكة لشرطي يوقف جريمة قبل حدوثها لأن بإمكانه "تقييم" نية الفرد المحتملة من خلال قراءة موجات دماغه. متى يتم ارتكاب الجريمة؟ متى يقوم المرء بالتفكير فيها؟ متى تبدأ الأحداث التي تعبر عن الفكر في الواقع؟ متى يتم توجيه السلاح؟ متى يتم الضغط على الزناد؟

يتمثل التحدي الرئيسي للابتكار التكنولوجي في أنه عادة ما يستغرق المجتمع وقتًا طويلاً للحاق بالركب، وفهم الآثار الأوسع المترتبة على كيفية استخدام التكنولوجيا الجديدة وإساءة استخدامها، وتوفير الأطر القانونية والتنظيمية المناسبة لتنظيم سلوكها.

في العقد الثاني من هذه الألفية، انتقلت شبكات التواصل الاجتماعي من أداة للاتصال بمنصة ذات قوة هائلة لنشر الأكاذيب والتلاعب بنتائج الانتخابات. يناقش المجتمع الآن كيفية استخدام أفضل لهذا الابتكار، مع التخفيف من إمكانية إساءة استخدامه. ربما، قبل أن نُدرك الأمر، سيواجهنا العقد الثالث من الألفية بتحديات تكنولوجية أكثر تبعية.

* ألكساندر فريدمان، الرئيس التنفيذي السابق لشركة GAM للاستثمارات، وكبير مسؤولي الاستثمار في UBS، والمدير المالي لشركة مؤسسة بيل وميليندا غيتس، وزميل البيت الأبيض.
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي