وسائط التواصل الاجتماعي تهدد المجتمع والأمن
بروجيكت سنديكيت
2018-02-17 04:40
GEORGE SOROS
ميونيخ ــ إنها لحظة مؤلمة في تاريخ العالَم. فالمجتمعات المفتوحة في أزمة، كما تشهد أشكال متعددة من الدكتاتوريات ودول المافيا، التي تجسدها روسيا فلاديمير بوتن، صعودا ملموسا. وفي الولايات المتحدة، يود الرئيس دونالد ترمب لو يتمكن من تأسيس دولة خاصة على غرار المافيا، لكنه عاجز عن تأسيس مثل هذه الدولة، لأن الدستور وغيره من المؤسسات، ومنظمات المجتمع المدني النابضة بالنشاط، ما كانت لتسمح له بذلك.
الأمر لا يتعلق ببقاء المجتمع المفتوح فحسب؛ بل إن بقاء حضارتنا بأسرها بات مهددا. والواقع أن صعود قادة من أمثال كيم جونج أون في كوريا الشمالية ودونالد ترمب في الولايات المتحدة شديد الصِلة بهذا الأمر. فكل منهما يبدو على استعداد لخوض مجازفة الحرب النووية من أجل البقاء في السلطة. لكن السبب الأساسي تمتد جذوره إلى أعماق أكبر. إن قدرة البشر على تسخير قوى الطبيعة، سواء كان ذلك لأغراض بنّاءة أو مدمرة، تنمو على نحو متواصل، في حين تتقلب قدرتنا على حكم أنفسنا على النحو اللائق، والآن أصبحت هذه القدرة عند أدنى مستوياتها.
يساهم صعود شركات منصات الإنترنت الأميركية العملاقة وسلوكها الاحتكاري في زيادة عجز الحكومة الأميركية. صحيح أن هذه الشركات كثيرا ما لعبت أدوارا إبداعية ومحررة. ولكن مع تعاظم قوة منصات مثل فيسبوك وجوجل على نحو مستمر، أصبحت تشكل عقبات أمام الإبداع، وتسببت في إحداث مجموعة متنوعة من المشاكل التي بدأنا الآن فقط ندركها.
تكسب الشركات أرباحها من خلال استغلال بيئتها. فتستغل شركات التعدين والنفط البيئة المادية؛ وتستغل شركات وسائط التواصل الاجتماعي البيئة الاجتماعية. وهو أمر شائن ومخز، لأن هذه الشركات تؤثر على الكيفية التي يفكر بها الناس ويتصرفون دون أن ينتبهوا حتى إلى هذا التأثير. ويتعارض هذا مع عمل الديمقراطية وسلامة الانتخابات.
ولأن شركات منصات الإنترنت تتألف من شبكات، فإنها تتمتع بارتفاع العائدات الهامشية، والتي تعبر عن نموها المذهل. والواقع أن تأثير الشبكات غير مسبوق حقا وتحويلي، ولكنه أيضا غير مستدام. استغرقت شركة فيسبوك ثماني سنوات ونصف السنة لكي يصل عدد مستخدميها إلى مليار مستخدم، ونصف هذا الوقت لكي يصل عدد مستخدميها إلى مليارين. وبهذا المعدل، لن تجد منصة فيسبوك مستخدمين إضافيين بعد أن تضم كل مستخدم محتمل من البشر في أقل من ثلاث سنوات.
تسيطر فيسبوك وجوجل فعليا على أكثر من نصف كل عائدات الإعلانات الرقمية. ولكي تحافظ كل منهما على هيمنتها، فإنها تحتاج إلى توسيع شبكاتها وزيادة حصتها من انتباه المستخدمين. ويجري هذا حاليا من خلال تزويد المستخدمين بمنصة مريحة. وكلما أنفق المستخدمون وقتا أطول على المنصة، كلما أصبحت أكثر قيمة للشركات.
ولأن الشركات التي تقدم المحتوى لا يمكنها تجنب استخدام المنصات ويتعين عليها أن تتقبل الشروط التي تعرضها أيا كانت، فإنها تساهم فضلا عن ذلك في تعظيم أرباح شركات وسائط التواصل الاجتماعي. والواقع أن الربحية الاستثنائية التي تحققها هذه الشركات ترجع في الأساس إلى تجنبها لأي مسؤولية ــ أو نفقات ــ عن المحتوى المقدم على منصاتها.
تدّعي الشركات أنها تعمل على توزيع المعلومات فحسب. ولكن لكونها منافذ توزيع شبه احتكارية فإنها تُعَد من المرافق العامة وينبغي إخضاعها لقواعد أكثر صرامة، من أجل الحفاظ على المنافسة، والإبداع، والقدرة العادلة والمفتوحة على الوصول.
الواقع أن المعلنين هم عملاء شركات الوسائط الاجتماعية الحقيقيون. ولكن بوسعنا أن نشهد الآن ظهور نموذج أعمال جديد بشكل تدريجي، وهو لا يستند إلى الدعاية والإعلان فحسب بل يستند أيضا إلى بيع المنتجات والخدمات للمستخدمين مباشرة. وتستغل هذه الشركات البيانات التي تسيطر عليها، وتعمل على تجميع الخدمات التي تعرضها، وتستخدم تسعيرا تمييزيا بغرض الاحتفاظ بقدر أكبر من الفوائد التي كانت لتتقاسمها لولا ذلك مع المستهلكين. ويعمل هذا على تعزيز ربحيتها إلى مستويات أعلى، لكن تجميع الخدمات والتسعير التمييزي يعملان على تقويض كفاءة اقتصاد السوق.
تخدع شركات الوسائط الاجتماعية مستخدميها من خلال استغلال اهتمامهم، وتوجيهه نحو أغراضها التجارية الخاصة، وهي تتعمد هندسة نوع من الإدمان على الخدمات التي تقدمها. وقد يكون هذا ضارا للغاية، وخاصة بالمراهقين.
لا يخلو الأمر من تشابه بين منصات الإنترنت وشركات المقامرة. فقد طورت نوادي القمار تقنيات ترمي إلى الاستحواذ على العملاء إلى الحد الذي يجعلهم يقامرون بكل أموالهم، بل وحتى بأموال لا يملكونها.
ومن الممكن أن نشهد أمرا ماثلا ــ وربما لا رجعة فيه ــ يحدث لاهتمام البشر في عصرنا الرقمي. وهذا ليس مجرد إلهاء أو إدمان؛ ذلك أن شركات وسائط التواصل الاجتماعي تحرص فعليا على تحريض الناس على التنازل عن استقلاليتهم. وتتركز هذه القدرة على تشكيل اهتمامات الناس على نحو متزايد في يد قِلة من الشركات.
يتطلب الأمر جهدا كبيرا للتأكيد على ــ والدفاع عن ــ ما أسماه جون ستيوارت مِل حرية العقل. فبمجرد خسارة هذه الحرية، ربما يواجه أولئك الذين نشأوا في العصر الرقمي صعوبة كبيرة في استعادتها.
والعواقب السياسية المترتبة على هذا بعيدة المدى. فالمحرومون من حرية العقل يمكن التلاعب بهم بسهولة. ولا يلوح هذا الخطر قريبا في الأفق فحسب؛ بل إنه لعب بالفعل دورا مهما في انتخابات الرئاسة الأميركية في عام 2016.
كما يلوح في الأفق احتمال أكثر إثارة للانزعاج والقلق: نشوء تحالف بين الدول الاستبدادية واحتكارات تكنولوجيا المعلومات الضخمة الغنية بالبيانات، وهو ما من شأنه أن يجمع بين أنظمة وليدة لمراقبة الشركات وبين أنظمة ناضجة بالفعل للمراقبة والتي ترعاها الدولة. وربما يُفضي هذا إلى نشوء شبكة من السيطرة الاستبدادية ما كان ليتصور حتى جورج أورويل مثيلا لها.
من المرجح أن تظهر مثل هذه الزيجات غير المقدسة أولا في دول مثل روسيا والصين. وتتساوى شركات تكنولوجيا المعلومات الصينية بشكل كامل مع المنصات في الولايات المتحدة. وهي تتمتع أيضا بالدعم الكامل والحماية من قِبَل نظام الرئيس شي جين بينج. والحكومة الصينية قوية بالقدر الكافي لحماية شركاتها الوطنية المفضلة، على الأقل داخل حدودها.
وتواجه احتكارات تكنولوجيا المعلومات التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها إغراء تعريض نفسها للخطر من أجل اكتساب القدرة على دخول هذه الأسواق الضخمة السريعة النمو. وربما يكون الزعماء المستبدون لهذه الدول سعداء للغاية بالتعاون مع هذه الاحتكارات، بهدف تحسين أساليبهم في السيطرة على شعوبهم وبسط نفوذهم وقوتهم في الولايات المتحدة وبقية العالم.
هناك أيضا إدراك متزايد للصلة بين هيمنة احتكارات المنصات واتساع فجوة التفاوت. إذ يلعب تركيز ملكية الأسهم في أيدي قِلة من الأفراد دورا ملموسا، لكن الموقع الغريب الذي تحتله عمالقة تكنولوجيا المعلومات يشكل أهمية أكبر. فقد امتلكت القدرة الاحتكارية في حين تتنافس أيضا ضد بعضها بعضا. وهي كبيرة بالقدر الكافي لابتلاع الشركات البادئة التي قد تتطور وتنمو إلى أن تصبح قادرة على منافستها، وهي فقط تمتلك الموارد اللازمة لغزو أراضي بعضها بعضا.
ويعتبر مالكو عمالقة المنصات أنفسهم سادة الكون. والحق أنهم عبيد لرغبتهم في الحفاظ على موقعهم المهيمن. وهم ينخرطون في نضال وجودي للسيطرة على مناطق النمو الجديدة التي تفتحها تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي، مثل السيارات بدون سائق.
يتوقف تأثير مثل هذه الإبداعات على البطالة على السياسات الحكومية. والواقع أن الاتحاد الأوروبي، وبشكل خاص دول الشمال، كانت أبعد نظرا من الولايات المتحدة في وضع سياساتها الاجتماعية. فهي تحمي العمال، وليس الوظائف. وهي على استعداد لتحمل تكلفة اعادة تدريب أو تقاعد العمال المزاحين. وهذا يعطي العمال في دول الشمال شعورا أعظم بالأمان ويجعلهم أكثر دعما للإبداعات التكنولوجية مقارنة بالعمال في الولايات المتحدة.
الواقع أن احتكارات الإنترنت ليس لديها الرغبة في ــ ولا تميل إلى ــ حماية المجتمع من العواقب المترتبة على تصرفاتها. وهذا من شأنه أن يحولها إلى خطر عام، والهيئات التنظيمية مسؤولة عن حماية المجتمع منها. ومن الواضح أن الهيئات التنظيمية في الولايات المتحدة ليست قوية بالقدر الكافي للتصدي للنفوذ السياسي الذي تتمتع به هذه الاحتكارات. ويتمتع الاتحاد الأوروبي بوضع أفضل لأنه ليس لديه أي عمالقة منصات خاصة به.
يستخدم الاتحاد الأوروبي تعريفا للسلطة الاحتكارية يختلف عن ذلك المستخدم في الولايات المتحدة. وفي حين يركز إنفاذ القانون الأميركي في المقام الأول على الاحتكارات الناشئة عن الاستحواذ، يحظر قانون الاتحاد الأوروبي إساءة استخدام القوة الاحتكارية بصرف النظر عن كيفية اكتسابها. وتفرض أوروبا قوانين أقوى كثيرا لحماية الخصوصية والبيانات.
وعلاوة على ذلك، تبنى القانون الأميركي عقيدة غريبة تقيس الضرر كزيادة في السعر الذي يدفعه العملاء في مقابل الخدمات التي يحصلون عليها. لكن هذا يكاد يكون من المستحيل إثباته، لأن أغلب منصات الإنترنت العملاقة تقدم غالبية خدماتها بالمجان. فضلا عن ذلك، يُسقِط هذا المبدأ من حساباته البيانات القيمة التي تجمعها شركات المنصات من مستخدميها.
تأتي مفوضة الاتحاد الأوروبي لشؤون المنافسة مارجريت فيستاجر في مقدمة الداعمين للنهج لأوروبي. استغرق الاتحاد الأوروبي سبع سنوات لبناء الحجة ضد جوجل. ولكن نتيجة لهذا النجاح، تسارعت إلى حد كبير عملية تأسيس الضوابط التنظيمية الملائمة. علاوة على ذلك، وبفضل جهود فيستاجر، بدأ النهج الأوروبي يؤثر على المواقف في الولايات المتحدة.
إنها مسألة وقت فقط قبل أن تنكسر الهيمنة العالمية لشركات الإنترنت الأميركية. وسوف يكون في الضوابط التنظيمية والضريبية التي تقودها فيستاجر زوال هذه الهيمنة.