أثر التوازن الفكري والمادي في بناء الدولة
رؤى من أفكار الامام الشيرازي
شبكة النبأ
2017-01-30 07:29
الطموح لبناء الدولة القوية المستقرة يمثل هدفا لجميع القادة والشعوب في المعمورة، فإذا تحقق ذلك، هذا يعني حماية كرامة الأفراد والشرائح المتنوعة، فضلا عن صون مكانة الدولة برمتها، ولا يمكن الوصول الى هذا الأهداف إذا كان الاقتصاد بدائيا أو هشا، أو لا يساير المنطلقات الحديثة التي أسسها علم الاقتصاد في الدول القوية أو ما تسمى بدول العالم المتطور.
ومن الأمور البديهية أن يؤدي الاقتصاد المتين الى هذه النتائج واقعيا، فهو كفيل بتحقيق الحياة السعيدة للفرد والمجتمع على حد سواء، وتتضح هذه النتائج، من خلال ما تحققه القوة الاقتصادية للدولة، والسياسة الحكيمة لقادتها وقدرة الطاقم الاقتصادي على التخطيط المحدث والتنفيذ الجيد، الذي سيساعد الجهات المعنية قادرة على أن تجعل الدولة والمجتمع في درجة الأمان.
في كتابه القيّم الموسوم بـ (لنبدأ من جديد)، يرى الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، أن من أهم ما يجب الاهتمام به في تجديد الحياة هو حفظ كرامة الفرد والمجتمع عن طريق بناء الاقتصاد المتوازن مع التطور الفكري، كونه المنطلق لحماية كيان الدولة وتحصين المجتمع من آفات الضعف الاقتصادي، كالفقر وتوابعه.
الدولة الفقيرة لا يمكنها تأمين الحياة الكريمة لشعبها، لذا يركز الإمام الشيرازي على أهمية أن يتحقق هذا الشرط، لأن الإنسان (الفرد والجماعة)، يكون معرضا للمهانة والعوز، نتيجة لعدم تحقق الشروط المطلوبة للعيش الكريم، حيث يبقى بين مطرقة الفقر، وسندان الحياة ومتطلباتها، من ناحية مواصلة العيش ومستلزماته، ولهذا غالبا ما يربط الامام الشيرازي، بين قضية التجديد على نحو عام، وبين شرطية التخطيط الاقتصادي المحدث، لسبب واضح أن هذا الربط العلمي والعملي يضمن بناء اقتصاد مهني متطور ومعافى، ما يؤدي بالنتيجة الى تشييد دولة معاصرة تقوم على الركائز الحديثة في تفاعلاتها المتنوعة، لاسيما في المجال الاقتصادي.
ويرى الإمام الشيرازي أهمية توافر شرطين لبناء الاقتصاد السليم، الأول برمجة الخطوات الفعلية في المجال الاقتصادي العملي، وهذا يستدعي التخطيط المستمد من خبرات وكفاءات معترف بها ذات خبرة لا يطولها الشك في أي حال، والثاني له علاقة مباشرة بعملية الاستثمار، فكيف يمكن أن تصل الى الكرامة في العيش والعمل، وأنت لا تعرف كيفية استثمار الطاقات التي تمتلكها، هذان العنصران يرتبط احدهما بالآخر، إذ يرى الإمام الشيرازي أن: (من أساليب الابتداء من جديد: أن تجعل كل الطاقات في الاستثمار الأفضل).
ارتباك العلاقات السائدة
إن طريقة تفكير الإنسان سوف تنعكس على طبيعة حياته، ونمط العيش، وسبل التعامل مع المجالات الحياتية المختلفة، هنا لا مناص من تجديد الفكر وأسلوب التعاطي مع التطور الاقتصادي الإنتاجي، فلا فائدة من أن تتطور ماديا على حساب التطور الفكري المطلوب، أي لابد أن يكون هناك تساوق وتوازن بين التطور في المجال المادي والعمراني، وبين التطور الفكري والثقافي وزيادة الوعي لعموم المجتمع، وفي حال تطور احدهما على حساب الآخر، سيحدث اختلال في منظومة القيم لدى المجتمع، وسوف ترتبك الكثير من العلاقات والاعراف والتقاليد السائدة، بين شرائح ومكونات المجتمع كافة، فضلا عن حالات التذبذب بين النجاح والفشل، لذا ينبغي استثمار طاقات الإنسان، ونعني هنا الدولة والمجتمع بأفضل صورة ممكنة.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي على: (أن الطاقات قد تهدر كما هي العادة عند كثير من الناس، وقد تصرف صرفاً ضعيفاً أو متوسطاً، وقد تصرف صرفاً قوياً).
لذلك يحسم الإمام الشيرازي أي جدل في هذا المجال لصالح التطور الفكري المادي المتوازن، حيث يُعدّ التطور الفكري المرافق للتطور المادي، شرط من شروط النجاح في البناء المجتمعي الامثل، وانطلاقا من هذه الرؤية الواقعية أيضا يؤكد الإمام الشيرازي على: (أنّ المسبب الأول للتخلّف هو الفكر المنحط).
هذه هي قيمة الفكر المتجدد، ترتفع بالمنجز المادي الى مرتبة أعلى وتجعل منه تطورا مجزيا، ولابد أن يكون هناك ربط بين التفكير الجديد وبناء الاقتصاد الجيد، وتخليص الإنسان من شبح الفقر، ويبدو أن هذه النوع من التخطيط الاقتصادي لا يمكن أن تضمنه الدولة ولا المجتمع من دون تحديث الفكر، أي هنالك ارتباط وثيق بين الفكر الجيد والاقتصاد الجيد في ظل أجواء الحرية، فكلما كانت أجواء الحرية متوافرة، كلما كانت فرص التحديث الفكري أكثر حضورا، وهذا ينعكس على النجاح الاقتصادي والتطور المتوازن بين (المادي والفكري).
لذلك يربط الإمام الشيرازي قضية تطوير حياة الإنسان في تطوير الاقتصاد (المادي) ولكن هذا لا يتم من دون التطور الفكري، لهذا يقول الإمام في كتابه نفسه: (ينبغي على من يريد تجديد حياته وتقديم نفسه إلى الأمام، أن يجدد في فكره أيضاً).
هناك دول تأخرت كثيرا بسبب فقدان حالة التوازن بين تطوير الاقتصاد وتطوير الفكر، وقد أظهر لنا واقع كثير من الدول أنها أهملت التجديد الفكري، واعتمدت على الثراء المادي لاسيما في مجال العمران، فباءت كل خططها بالفشل.
التقارب بين الفكر والمعاصرة
تُرى ما فائدة أن تبني أبراجا وناطحات سحاب، فيما يعاني اقتصادك من الضعف والترهل وتحاصر شعبك البطالة والعوز، إن حالة القلق التي تهيمن على العاطلين تفنّد سياسة الاهتمام المادي على حساب الفكري والتخطيط السليم حيث: (يستبد به القلق بالإنسان الذي يجد سبيله إلى المترهلين والعاطلين دون غيرهم) كما يشير الى ذلك الإمام الشيرازي بوضوح في كتابه المذكور.
لقد أثبتت التجارب فشل الدول التي اعتمدت العمران على حساب الفكر، إذ لا مناص من الربط بين المعاصرة وبين عناصر التحديث في الجانبين الفكري والمادي، فلا ينبغي فصل المعاصرة عن الفكر المحدث، ولا عن العمل المنظَّم والمخطط له، ولابد أن يتم هذا التزاوج بين الفكر والمادة في ظل أجواء الحرية كما سبق ذكره، ذلك أن الحرية والالتزام تعني إعطاء الكفاءات الاقتصادية والفكرية دورها في بناء الدولة، لذلك ربط الإمام الشيرازي بين نجاح الحياة والحرية التي تشمل على الرأي والفكر وأخذ الكفاءات لدورها المناسب في البناء، فالحياة لا تصح بعيدا عن الحرية، والفكر لا ينمو ويصح بعيدا عن التحرر، حتى التطور المادي لا يمكن تحقيقه.
ومما يقوله الإمام الشيرازي في هذا المجال ويُظهر انحيازه الحاسم للفكر المقرون بالعمل والتخطيط، ما ورد في كتابه نفسه قائلا: (إن العمل للحياة لا يكون إلا بالحرية، فإذا لم تكن هناك حرية، لم يكن ثمة عمل للحياة) ولن يتحقق هذا الامر من تلقاء نفسه، أي لابد أن يكون هناك سعي مبرمج لتحقيق الاهداف المطلوبة، إضافة الى توافر الإرادات القوية التي يمكنها تحويل المطامح والتطلعات، الى فعل قائم على الارض، وفي حالة غياب الارادة وغياب التخطيط والاستثمار الصحيح للطاقات، فإن النتيجة تكون الفقر والجهل والضياع، ولعل ما تعيشه الدول الإسلامية والعربية من حالات تخبط وتردي وتراجع في الفكر والمادة والبناء الاقتصادي، هو ناتج طبيعي لحالات التخلف والفساد الذي تسبب من فقدان التوازن الفكري المادي، لهذا عانت معظم هذه الدول من الفقر وسوء الإدارة والتخطيط:
يشير الإمام الشيرازي الى هذا الواقع المزري ضمنا، عندما يقول: (إن بلاد الإسلام وقعت ضحية التخلف والفساد والجهل والمرض والفقر والفوضى والرذيلة).