القدرة على استيعاب الجماهير ومفاتيح النصر

قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره-

محمد علي جواد تقي

2017-01-04 08:20

"... كان النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، صديقاً مع جميع من كانوا حوله؛ من الأخيار مثل؛ مع علي بن أبي طالب، ومن الأشرار مثل؛ شبث ابن ربعي، و الاشعث ابن قيس، و... أمثالهما، ولم تكن العلاقة بحدود الصداقة، بل وتزوج من هذا وأعطى مالاً لذاك، نصّب هذا وأعطى الزعامة لذاك، كل هذا من أجل جمع كل هذه القوى حوله لتشكيل قوة واحدة يتمكن بها من القضاء على الشرك، وهذا يعني الإكثار من الاصدقاء.

عندما نذهب الى أي مكان في بلادنا مثل؛ الخليج او العراق او ايران، نجد امامنا مختلف انواع التوجهات لدى الناس. يُقال أنه كما أن الله خلق صور الناس مختلفة، فانه خلق افكارهم مختلفة ايضاً، وهذا أمر طبيعي جداً، وهذا يصدق على كل شيء، مثال ذلك مائدة الطعام، التي تتنوع بأصناف الطعام، فنرى أن كل شخص يأخذ نوعاً من الطعام، وهكذا في جميع نواحي الحياة، نلاحظة تعدد الأمزجة والتوجهات الفكرية، فهناك عقل صغير كما هناك عقل كبير.

وهذا ينسحب ايضاً على الجانب الروحي في الانسان ايضاً، وهذا يفسر الحديث الشريف بأن "الإيمان عشر درجات"، وإلا ما معنى الرواية الواردة في "بحار الانوار" : "لو علم سلمان ما في قلب أبي ذر لقتله، ولم عمل ابو ذر ما في قلب سلمان لقتله"، وكلاهما من خلّص أصحاب رسول الله، ومن خلّص اصحاب أمير المؤمنين، وكلاهما ماتا من اجل قضية اسلامية؟

لذا نحن بحاجة الى حالة استيعابية، على غرار ما كان يفعل رسول الله، علماً أنه، صلى الله عليه وآله، كان يعلم ما في قلوب بعض المحيطين به، ويعرف كوامنهم جيداً، وما تضمر من نفاق وكفر، ومنهم حسّان بن ثابت؛ ذلك الشاعر المعروف بشعره، وايضاً المعروف في زمانه بالجُبن! والتاريخ يسجّل موقفه المخزي مع صفية عمة رسول الله، في إحدى الحروب مع المشركين، عندما تخاذل أمامها لقتل أحد اليهود في إحدى المعارك، فذهبت هي وقتلته، ثم طلبت منه أن يسلبه درعه وسيفه ويأخذه غنيمة له، فأبى ايضاً لشدّة جبنه، ومع هذا الجبن في وضح النهار، ينقل في التاريخ أنه كان يصبّغ جانباً من لحيته وشاربه باللون الأحمر، فسئل عن ذلك؟ فقال: كأني أسدٌ والغٌ في الدم...!! ثم ان رسول الله كان يعلم بعاقبته وانحرافه عن الطريق لقوله، صلى الله عليه وآله: "لا زلت مؤيداً بروح القدس مازلت مادحنا"، مع كل ذلك فان النبي الأكرم كان يستثمر هذا الرجل في شعره فقط، وإذن؛ لنتعلم من رسول الله، أن الارتباط بالناس قوة، وبهذه القوة يكون بامكانك تحقيق المقاصد الاسلامية.

استيعاب الجميع والتطلّع الى الأفق البعيد

أن تستوعب الجميع في مشروع اقتصادي او ثقافي او أي عمل ذو ابعاد واسعة، تريد منه تحقيق اهداف كبيرة، يعني دخول مختلف الناس في مشروعك، الكبير منهم والصغير، الغني منهم والفقير، والعالم منهم والجاهل، الرجل والمرأة، وهكذا سائر الشرائح المجتمعية، وهذا ربما يثير بعض المخاوف من دخول غير المؤهلين وغير الموالين بما يهدد نجاح المشروع.

أما الرؤية الحضارية الواسعة الابعاد، فانها ترى لكل انسان دوراً في الحياة، إن عاجلاً او آجلاً، ومجموع هذه الادوار هو الذي يضمن النجاح لأي مشروع ناهض، فاذا كان يصدق هذا على مؤسسات عمل بحدود معينة، مثل المؤسسات الثقافية او الصناعية او التربوية، فانه يصدق قطعاً على مشروع الدولة والنظام السياسي الذي إن اراد النجاح ما عليه إلا الامتداد بأذرعه في أنحاء البلاد لجمع الشمل وتوظيف كل الطاقات والقدرات الموجودة لخدمة الصالح العام، كما الشجرة اليانعة تماماً، التي تقوى وتشمخ عالياً ثم تثمر، عندما تضرب بجذورها في أعماق الارض بحثاً عن عناصر القوة والحياة.

وهذا كان من سمات الدولة الاسلامية التي أرسى دعائمها النبي الأكرم، منذ الساعات الاولى لدخوله مكة فاتحاً دون إراقة قطرة دم واحدة، فقد كان يرى في مجتمع مكة بمن فيهم من رموز الشرك وأعداء الأمس، جزءاً من المجتمع الاسلامي الكبير تحت لواء الاسلام، لذا كان شعاره في هذا المضمار؛ وصيته الى الوالي الذي عينه على مكة (عتّاب) بأن "أحسن الى محسنهم وتجاوز عن مسيئهم".

الى هذا يشير سماحة الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في محاضرته الصوتية التي يؤكد فيها موصياً بالاستيعاب الجماهيري بغية تحقيق القوة والمتانة لمواجهة الخط الآخر و الاوسع من الاعداء، ولعل في هذا التفاتة ذكية من النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، بالخروج من المحيط الجغرافي الضيق وتجاوز الخلافات القبلية والعنصرية وحتى الثارات الموجعة تحت راية الاسلام، للتطلع بأناة نحو الأفق البعيد حيث تكمن المخاطر على الاسلام على تخوم شمال الجزيرة العربية، حيث الروم، ومن الشرق حيث الفرس.

وفعلاً؛ فقد انضمّ الى الجيش الاسلامي الكبير معظم مشركي مكة، ومنهم معاوية بن أبي سفيان وآخرين من أعداء الأمس، وشاركوا في سرايا ومهام عسكرية عدّة ضد الاعداء الأكبر حجماً واكثر خطورة على الاسلام والجزيرة العربية، ومن خلال هذا التحشيد العسكري والجماهيري الهائل أوجد النبي الاكرم، قوة يحسب لها حساب في عالم ذلك الزمن أمام القوة الكبرى، فهل بقيت بعد ذلك، قوة لأبي سفيان – مثلاً- او ابنه او الآخرين من زعماء قريش ورموز الشرك والعدوان ضد الاسلام؟ ولعلنا نستلهم مصداق هذه الفكرة من الآية الكريمة في سورة الرعد: {...كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا جُفَاءً الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}.

مصادر تشكّل القوة الجماهيرية

في عهد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، كان الدولة الاسلامية في لبناتها الاولى، ولم يكن المجتمع الاسلامي قد تشكلت ملامحه بشكل كامل، فكان الاستيعاب الجماهيري يشمل المشرك ومن كان بالأمس القريب عاكفاً على الاصنام، أما في زماننا الحاضر، فليس هنالك من مشرك او من يعبد الاصنام، إنما هنالك تنوع بشكل آخر، كما اشار الى ذلك سماحة الامام الشيرازي، بوجود الأمزجة والتوجهات الفكرية والثقافية المتنوعة في المجتمع.

هذا التنوع الهائل حالياً، يحتاج الى من يوفر له الطمأنينة بالعيش الآمن والكريم، وان يسود الشعور لدى الجميع بأنهم مكرمون تجسيداً للآية القرآنية: {ولقد كرمنا بني آدم}، بل وانهم ذو شأن، لا فرق؛ إن علا أو قل، بل ان هذا الاستيعاب من شأنه ان يفتح آفاق التنمية البشرية بمفهومها الحديث، وتطوير المهارات وصقل المواهب الكامنة في الزوايا المظلمة من المجتمع، ولطالما سمعنا ورأينا النوابغ من التلاميذ الصغار في المدارس وطلبة الجامعات من ابناء الشريحة الفقيرة.

هذا الشعور النفسي العام، هو الذي يخلق بدوره شعوراً آخر بالمسؤولية إزاء المجتمع والدولة، ومن الناحية المنطقية، لن يكون بوسع أي انسان، مهما كان وحمل من توجهات وقناعات، إلا أن يفي بقدر معين الى يحسن اليه و يضعه في مكانه المناسب، بل ان هذه التجربة الجديدة تكون بمنزلة المحك للجميع ليثبتوا ولائهم وانتمائهم للوطن، ثم يسهموا – كلٌ بقدره – في خدمة الصالح العام.

وإذن؛ فان مشاعر الأمن والكرامة التي تتملك القلوب هي التي تمنح أي دولة او نظام حكم، النجاح المأمول، ويجعلها تتفرغ لمواجهة أعداء الخارج، بل والتوجه الى التنمية والتطوير في المجالات العلمية والتقنية لدفع عجلة التقدم الى الامام.

ولا أدلّ على ذلك من تجربة الحشد الشعبي المتمخضة من فتوى الجهاد في العراق، وما أحدثته من نقلة نوعية مباغتة ضد تنظيم داعش، من حالة الدفاع الى الهجوم ومن ثم تحقيق الانتصارات الباهرة. وهذا لم يكن ليتحقق لولا وجود الشاب والشيخ الكبير وعالم الدين والمثقف والاديب والتاجر والمرأة وجميع شرائح المجتمع في جبهة واحدة ضد عدو مشترك، وهو الحراك الجماهيري غير المسبوق للشعب العراقي منذ الاطاحة بالديكتاتورية عام 2003.

فاذا كان النجاح في هذه التجربة مثار فخر واعتزاز الجميع في العراق، بمن فيهم الساسة الموزعون على احزاب وتيارات مختلفة، فهلا يكون درساً لهؤلاء ايضاً بأن يراجعوا حساباتهم وينظروا في مشروعية الاطار السياسي الذي يعتمدوه لنظام الحكم تحت عنوان "المحاصصة السياسية" التي تكبد الشعب العراقي خسائر فادحة وفجائع يومية، وهي تضاف الى آلالام معنوية مبرحة عندما يعتريها الشعور المؤلم بفشل التجربة السياسية الراهنة برمتها وأن هذا النظام الحاكم غير مؤهل وعاجز عن قيادة البلاد.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا