ثلاثية الازدهار: العلم العلماء الابتكار
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2016-12-19 06:15
العلم، العلماء، الابتكار، ثلاثية لا يمكن الفصل بين ركائزها، كما أنها السبيل الأسرع والأقصر والأوضح والأدق، لنقل أمة ما من حاضنة التخلف، الى فضاء التطور والازدهار، فإذا تم احترام العلم في الأمة تزايد فيها العلماء أضعافا عن الأمة التي تجهل قيمتهم ومكانتهم وتضع العلم خلف ظهرها وفي آخر اهتماماتها، ذلك أن العقول والمواهب المتميزة، هي وحدها قادرة على صنع بيئة متقدمة، قادرة على استثمار حيوية المجتمع، لكن العقل على الرغم من قدراته الهائلة، يحتاج الى مساعد فعّال، ينظم عمله ويضيء له سبل التطور والازدهار، ذلك هو العلم وثمة وسيط مهم يمثل ثالثة الأثافي مكانةً وأهمية ونعني به (العلماء).
(العلم مصباح العقل وينبوع الفضل)، هذا القول البالغ الوضوح أطلقه سيد البلغاء الإمام علي عليه السلام، كي يبيّن للملأ تلك الأهمية القصوى التي يتحلى بها العلم عن سواه من الركائز المهمة، وثمة المواهب الخلاقة التي تقف ايضا، الى جانب العقل المتعلم، ممثلة بالعلماء والكفاءات المدرَّبة المتنوعة، فتجعله أكثر قدرة على خلق بيئة التقدم التي يحتاجها المجتمع والدولة، حتى تنتمي هذه الدولة وشعبها الى روح العصر الطامح الى الابتكار والاكتشاف في كل لحظة.
إن تواجد العلم يحفز الأمة على رعاية العلماء، والتلاقي بين الاثنين يؤدي بالنتيجة الى ازدهار الابتكار وانتعاش البيئة المنتجة لكل ما هو متميز وجديد في مجالات الحياة المختلفة، لهذا السبب نطّلع في الكتاب المتميز للإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) الذي يحمل عنوان (الطريق الى التقدم)، نطلع على رؤية بالغة الوضوح حول أهمية الثلاثية أعلاه، حيث يرد في كتاب الإمام ما نصه:
(متى ما تواجد العلماء في مجتمع، وألتف ذلك المجتمع حول علمائه واحتفوا بهم، إلاّ وسجل ذلك المجتمع لنفسه تقدماً باهراً وزاهراً).
هكذا تثبت التجربة أن أمة بلا علم ولا علماء ستبقى بلا ابتكار ولا ازدهار، وأمر طبيعي عندما تتوافر هذه الثلاثية في المجتمع فإن انتماءه لروح العصر سوف يغدو أمرا محسوما، فمن فضائل التأريخ، بأبعاده الموغلة بالقِدَم، أو المنظورة منه، أنه يقدم للشعوب والامم، تجارب بعضها للبعض الآخر، فيجعلها أكثر قدرة واستعدادا لعصرنة البيئة الانتاجية المتنوعة، في عموم الميادين التي تتوزع على الاقتصاد، والسياسة، والتعليم، والصحة وما شابه، وهكذا تكون التجارب الانسانية الناجحة، بخدمة التجارب الوليدة او الجديدة في أصقاع العالم، فتكون هناك حالة من التعاون والتداخل بين التجارب الماضية والراهنة، في مجال الإنتاج العلمي والابتكار الفاعل والمتجدد.
تمهيد الطريق نحو التقدم
مما لا شك فيه أن هذا المثال المستل من تجارب الشعوب والتأريخ معا، يوضّح لنا بجلاء أهمية دور العلماء في تطوير الحياة، من خلال التعامل الذكي، مع الموارد المتوافرة، فإذا كانت الارض جدباء جافة، لا تحمل في بطونها المعادن والثروات، فإن هناك ثروات تتحرك فوق الارض، وهي المواهب الخلاقة، والعقول المبدعة للعلماء، وهذا ما حدث في سويسرا، وغيرها من الدول التي اكتشفت سر التقنيات المعاصرة، ومنحت علماءها الفرصة للابداع، والعمل على خلق بيئة التقدم المطلوبة.
المسلمون يملكون مساحات هائلة، من الارض الحبلى بخيرات الطبيعة وثرواتها، ويملكون العلماء والكفاءات، لكن المشكلة تكمن في الحكام وحكوماتهم، فهؤلاء على تقاطع شبه دائم مع العلماء والكفاءات، فإما القتل او التشريد الى المنافي، وإما الاقصاء والتحييد التام، فتسود بيئة طاردة للعلم والعلماء فتكون متأخرة عن مواكبة العصر، مفقرة للابتكار، وتضمحل فيها عناصر التقدم، ويكبو الشعب والأمة والدولة ويتراجع العلم والعلماء ويخبو بصيص الأمل وينطفئ الطموح، كل هذا يحدث بسبب تجاهل الثلاثية أعلاه من الحكومة أو النظام السياسي القمعي الذي يخشى العلم والعلماء والابتكار، لذلك يقول الإمام الشيرازي عن هذا الحال:
(إن العلم والعلماء، والوعي والثقافة، هو المقوم الأول في طريق التقدم والرقي. وهكذا تقدم الغرب بعلمائه في مختلف المجالات على بلاد المسلمين).
هناك أمم تصنع حكوماتها بعلمها، وهناك حكومات تقتل أمتها بالجهل، وثمة شعوب واعية، تصنع حكوماتها كما تريد، ولا تسمح للحكومات أن تصنعها أو تتحكم بها، لهذا نجدها شعوبا فاعلة، عاملة ليل نهار، ومنتجة، ومواكبة لمجريات العصر، يقول الامام علي عليه السلام، في غرر الحكم أيضا: (إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما)، كذا هو الزمن يسعى جاهدا كي يطفئ سراج الإنسان في كل دقيقة تمضي من عمره، لذا على الإنسان أن يحافظ على توقّد سراج العقل بالعلم والابتكار الدائم.
الصراع بين العلم والقمع
نعم ثمة صراع بين العلم والقمع، بين الضوء والظلام، بين الخمول والنشاط، بين الابتكار والاجترار، لذا فإننا في حالة صراع مستمرة مع الجهل لطرده من حياتنا، هكذا ينبغي أن يكون السباق، بين الإنسان والزمن، وهكذا ينبغي أن يستمر طرد الجهل بسراج العلم والابتكار، فطالما تمضي دقائق الزمن من عمر الانسان وتقدمه وتطوره، فعليه أن يعي ذلك، ويسابق الزمن بالانتاج الامثل، ولن يتحقق ذلك من دون صنع بيئة التقدم، ومقوماتها، من خلال القضاء الكلي على الجهل، والامية، واللامبالاة، والاتكال، وغير ذلك من صفات حاضنة التردّي التي تخوض معركة شرسة ضد التطور، لهذا ينبغي أن نحتضن العلماء ونصون العلم ونشجع الابتكار كي ننتصر في معركة العلم ضد الجهل.
في هذا المجال ينبّه الإمام الشيرازي في المصدر نفسه الى:
(أن الجهل وعدم الوعي، وفقد العلم والعلماء، وقلة ثقافة الحياة، من أهم أسباب تأخر الفرد والمجتمع، ويؤدي إلى تقهقر الأمم وسقوطها، بل إلى موتها وفنائها).. نعم هناك صراع مستعر، يتقابل طرفاه في كل لحظة، ولا يزال السجال مستمرا بينهما، ونعني بهما التقدم والجهل، أو العلم والتخلف، إنه صراع أزلي ينجح في قطف ثماره الراعون للعلم والعلماء والمشجعون للابتكار، في حين يخسره من يهمل هذه المقومات الداعمة والصانعة لحياة بشرية أجمل وأفضل.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي بصورة قاطعة على هذه النقطة عندما يقول: (للأسف نجد في يومنا هذا، أن كثيراً من المسلمين تخلوا عن العلم والعلماء). ولكن علينا أن نتساءل ما هي النتيجة التي ستكون عليه الأمة أو الشعب أو حال المسلمين عموما إذا ما تخلوا عن العلم، وآزروا الجهل ورعاته من المسؤولين الفاشلين، فالمعروف أن من يتخلى عن العلم والعلماء، في مجتمعاتنا المتلكئة، هم الحكام وحكوماتهم التي لا تكتفي فقط بتهميش العلماء وإقصائهم، وتحييد العلم، بل ترى فيهم خطرا، يتهدد مناصبهم، ومصالحهم التي تتقدم على العلم، وعلى العلماء، فهي إذاً حالة صراع أزلي طرفاه واضحان كل الوضوح، طرف يضم العلم والعلماء ورعاته، وطرف يجتمع فيه الطغاة القامعون وأزلامهم المنتفعون من أسيادهم على سدة الحكم.
بالنتيجة ليس أمامنا سوى الانتصار للعلم والعلماء والابتكار، واستثمار العمر كما يجب، وتشغيل الطاقات كما ينبغي، ووضع معايير وتشريعات تضمن رعاية العلم والعلماء، وتقدم أصحاب الكفاءات على من هم دونهم في القدرة والموهبة، حتى يكون بمقدورنا اللحاق بالعالم المتقدم، من خلال احترامنا واهتمامنا لاسيما الجهات الحكومية المعنية للعلماء ومنحهم المكانة التي يستحقونها والرعاية التي تليق بهم.