الرئاسة أولى الأمور بالمشورة
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2016-09-05 05:40
يوجد بين المشورة والاستبداد بون شاسع، فكلاهما يناقض الآخر بسبب اختلاف الهدف والمعنى والفعل أيضا، المشورة تنبع من الحكمة والذكاء والتعقّل والشعور بالمسؤولية، والسعي نحو النجاح بخطوات واثقة متئدة، أما الاستبداد، فإنه رحلة نحو السقوط والهلاك عاجلا أم آجلا.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (الأخلاق الإسلامية)، حول هذا الموضوع: (المستبد يعرّض نفسه للهلاك)، واسند سماحته رأيه بقولٍ لأمير المؤمنين (ع): (خاطر بنفسه، مَن استغنى برأيه).
إذاً فالضرر الأكبر يقع على من يخاطر بعزل نفسه عن عقول الآخرين وخبراتهم وآرائهم، وقد يصل حد الهلاك، كونه نوع من التعنت غير المحمود، والمضي قُدُما في طريق الطغيان، بعد أن يشعر الانسان أنه لا يحتاج لعقول الآخرين وخبراتهم، بسبب شعره بأن عقله أكبر من عقول الجميع، وأن رأيه يتفوق على آراء الجميع، وانه ليس بحاجة لخبرات الناس وتجاربهم، فما لديه من خبرة تغنيه عن الحاجة للآخرين.
وهذا المنحى الاستعلائي هو نتيجة لمرض نفسي حصره علماء النفس بمرضى النفوس المتعالية المتكبرة، وهو غالبا ما يكون تعال أجوف لا يستند الى ركائز واقعية، وانما يستند الى أسباب مرضية تكتنف نفس الحاكم او المسؤول، والمشكلة، أن النتائج والاضرار التي تنعكس على هذا السلوك الفردي لا تعود على شخص الحاكم او المسؤول وحده، وانما على الرعية التي يحكمها حتى لو بلغت الملايين من الأشخاص، بسبب شمولية قرارات وتصرفات الحاكم.
لذلك يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب في كتابه المذكور آنفا: (إن كانت الأمور تحتاج إلى المشورة، فالرياسة أولى الأمور بها، فإنها ملتقى الأعمال. ولذا قال الإمام الصادق (ع): (لا يطمعن القليل التجربة المعجب برأيه في رياسة) انه لا يملك زمامها ـ إلا وسرعان ما يفلت من يده ـ بالاستبداد والاستقلال).
وهكذا حذر أئمة أهل البيت عليهم السلام، من طموح المعجب برأيه، والمستغني به، بأن يتحكم بدفة القيادة والوصول الى سدة الحكم، لأنه سوف يتحول الى حاكم مستبد، وعند ذاك ستؤول احوال الأمة الى أضرار ومصائب وويلات لا حصر لها.
مشورة الجبان فيها الخسران
ويحذر الامام الشيرازي، من أن لا تأتي المشورة في محلها عندما نحاول أن نحصل عليها من شخص غير مؤهَّل للقيام بهذا الدور، أي أننا قد نذهب أحيانا في الاتجاه الخاطئ عندما نطلب المشورة من انسان هو نفسه يحتاج أن يستشير الآخرين كي يصحح مساراته الخاطئة، بسبب عدم أهليته للمشورة وعدم امتلاكه لها، وكما يُقال (أن فاقد الشيء لا يعطيه).
لذلك ينبغي أن يكون المستشار، مكتملا في عقله ونفسه، لأن أي خلل في التفكير وأي تردّي في النفس وأي علّة في الذات، سوف تنعكس على اقوال وآراء الانسان المصاب بها، فعندما تطلب منه المشورة وهو مريض باللؤم او الخبث، فإنه حتما سوف يدفع بك نحو الخبث بسبب نفسه الخبيثة واللئيمة.
لذا يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: إن (المشورة ليست حيث وقعت تجلب الخير، فرب شخص تكون استشارته أضر، وخصوصاً من جبل على صفة لئيمة، فمشورة الجبان في الحرب، والبخيل في العطاء، والسفيه في التصرف.. لا تزيد إلا خبالاً).
وهكذا ينبغي أن يكون المستشار أمينا في المشورة التي يقدمها لم يطلبها منه، لأن الصفة الأهم للمستشار هي الأمانة، وعليه في هذه الحالة أن ينصح بالأمور الصحيحة، وأن يذهب الى وجهة الحق حتى لو كان ذلك ضد نفسه.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي بقوله: (المستشار مؤتمن، فيلزم أن يقول الحق، ولو على نفسه).
ويدعم الامام الشيرازي وجهة نظره هذه بحديث نبوي شريف، يذهب بمضمونه الى أهمية مشاورة ذي العقل المكتمل، وصاحب الخبرة، وحامل النفس الطيبة التي تنحو الى الخير والعطاء الدائم، كذلك ينبغي الابتعاد عن مشاورة من يحمل نقصا في ذاته، وهذا يشمل على سبيل المثال الشخص الجبان، إذ كيف يمكن أن نستشير انسانا جبانا في قضية تستدعي درجة من الشجاعة في اتخاذ القرار ومواجهة الظلم مهما كانت النتائج، فالوقوف بوجه الظلم يتطلب دعما معنويا وماديا، واذا كان المستشار جبانا سوف لا يقدم لمن يستشيره سوى التردد والخوف والتراجع عن سبل المواجهة.
كذلك لا ينبغي اخذ المشورة من البخيل، فهو غير مؤهل لذلك، وهناك نوع من الحرص المؤذي الذي يصل الى درجة الخطأ فيتمخض عنه نتائج عكسية، لذا يذكر الامام الشيرازي في كتابه نفسه هذا الحديث النبوي الشريف: (قال رسول الله (ص): (يا علي، لا تشاورن جباناً، فإنه يضيق عليك المخرج، ولا تشاورن البخيل فإنه يقصر بك من غايتك، ولا تشاورن حريصاً، فإنه يزين لك شرهاً، واعلم يا علي، ان الجبن والبخل والحرص غريزة واحدة، يجمعها سوء الظن).
من شاور الناس عرف وجه الصواب
لماذا يحتاج الانسان الى المشورة، ولماذا كلما ازدادت مسؤوليته وصلاحياته ازدادت حاجته الى المشورة؟، إن الانسان حتى لو كان مسؤولا عن نفسه فقط، فهو يحتاج الى المشورة، لأن النفس لها حقوق على صاحبها، وهذه الحقوق ذكرتها الأديان والفلسفة والفكر والادب والثقافات المختلفة، وركزت عليها نصوص قرآنية وأحاديث شريفة وروايات لأئمة أهل البيت.
من هنا يقول الإمام الشيرازي في هذا المجال بكتابه (الأخلاق الإسلامية): (من طلب الخير وجده، ومن شاور الناس عرف وجه الصواب والمشورة إنما هي مع أصحاب العقول الرزينة).
ويؤكد سماحة الإمام الشيرازي على أن المشورة تزيّن العقول، وتساعد الناس على اقتفاء أثر النجاح، على العكس تماما من الاستبداد الذي يلحق الإساءة بكل من يعمل به او يقترب منه، فالمستبد ليس انسانا سويا، وحتما أنه سوف يلحق الاذى بنفسه والآخرين، أما الانسان المتوازن الذي يستشير الآخرين في خطواته، خاصة تلك التي تؤثر في حياة الآخرين، فهو انسان متزن وحكيم، ويتحمل مسؤولية أفكاره وأقواله لاسيما ما ينعكس منها تجاه الآخرين.
يقول الامام الشيرازي عن هذا الموضوع: ان (الاستبداد لا يوضع على شيء إلا شانه، والمشورة لا توضع على أمر إلا زانته).
وكما مرّ سابقا، لا ينبغي للانسان أن يلجأ الى مشورة الآخرين بطريقة عشوائية، بل ينبغي عليه أن يعرف الى من يلجأ في قضية المشورة، لأن عدم المعرفة بالآخرين لا يمكن أن تحقق هدف المشورة، لأن الجهل بالناس وشخصياتهم وما يحملون من افكار، قد يذهب بالمشورة في الطريق المضاد، اذا كان من نستشيره غير أمين، لأن الصفة الأهم بالمستشار أن يكون أمينا وصادقا، ومتحملا للمسؤولية تجاه نفسه والآخرين.
لهذا ينبغي أن يكون المستشار ممن يخافون الله والمعاد، لأنه في هذه الحالة قد يبادر بأفكار وآراء وحلول لا ترضي الله تعالى، وفي هذه الحالة سوف ينقلب الهدف من المشورة الى الضد والعكس تماما، حيث تكون نتائجها ليست في محلها الصحيح.
لذا يؤكد الامام الشيرازي على أن: (للمشورة شرط أساسي، وهو أن يكون المستشار، ممن يحسب لله حساب، ويخاف المعاد، وإلا أشار بما لا يرضى الله، ويكون عاقبة أمره خسراً. قال الإمام الصادق (ع): قال علي (ع) شاور في حديثك الذين يخافون الله).