الأمة القوية تبني واقعاً متفرّداً
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
2016-07-18 12:27
الأمة قد تكون قوية، وقد تكون ضعيفة، وهذا يتبع طبيعة النسيج المجتمعي الذي تتكون منه، فإذا كان هذا النسيج قويا متماسكا متعاونا، كان واقع الأمة متميزا ومتصدرا لقيادة البشرية في العالم نحو التقدم والتمدن والاستقرار، خلاف ذلك لن تكون الأمة قادرة على التصدي لدور القيادة العالمية بسبب ضعف النسيج المجتمعي الذي ينتج ضمن دورة مستمرة بين الفكر والتطبيق.
لقد عانت أمة المسلمين من عدة مشكلات كبيرة وبعضها يعد من المشاكل المستعصية، ولعل مشكلة الاستبداد هي حجر الزاوية في تأخر المجتمعات والدول الإسلامية، فالطبقة الحاكمة في الغالب تكون مستبدة، بداية من الرأس (الحاكم)، فمنه تبدأ سمة الاستبداد، ولا شك أن هذا النوع من الحكام دائما يجدون أرضية بشرية تمهد لهم تكريس الاستبداد في شخصية هذا الحاكم.
فحتى لو كان الحاكم شخصية غير مستبدة ولا تميل الى الطغيان، فإن الحاشية والبطانية والمجموعة التي تلتف حوله، سوف تدفع به الى الطغيان والاستبداد، بسبب التملق والمراءاة والكذب والمدح الزائف لشخصية الحاكم، كل هذا يحدث من اجل الحفاظ على مصالح الحاشية والمقربين، وهي في الغالب مصالح اقتصادية مادية قصيرة المدى، تؤكد عدم حرص هؤلاء المتزلفين على حاضر ومستقبل دولتهم ومجتمعهم، بل كل ما يعنيهم ويهمهم هي مصالحهم ومنافعهم المادية، وليذهب البلد والشعب الى أسوأ المصائر، فهذا لا يعنيهم بشيء، ولذلك غالبا ما تكون مشكلة الاستبداد مستعصية في الدول الإسلامية كما يشير الى ذلك مسار التاريخ.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، حول هذا الجانب، في كتابه القيم الموسوم بـ (الشورى في الإسلام): (ليست المشكلة فقط في الحكام المستبدين والمتزلفين الذين يدورون حولهم وينالون من مالهم وجاههم، ولذا يسحقون وجدانهم فيطرونه ويكيلون الثناء والمديح له جُزافاً، ويعملون بأوامره حتى في قتل الأبرياء وهتك الأعراض ونهب الأموال. بل الطامة الكبرى في الرحم التي تولّد هؤلاء الحكام، وهي الأمة).
ولعل السبب الأول في مشكلة الاستبداد، أو أية مشكلة أخرى، يعود الى طبيعة الأمة ونسيجها المجتمعي بما ينطوي عليه من قيم وعادات، ومنظومة فكرية مبدئية سلوكية، هذا المجتمع يحمل بذور الاستبداد في ذاته فينعكس ذلك في شخصية الحاكم، بمعنى هناك استعد في الأمة لقبول الاستبداد والطغيان)
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي: (إذا لم تكن الأمةُ ضعيفة وفيها قابلية لتقبل الاستبداد، لما كان بإمكان الحكام الطغاة من السيطرة عليها، فالأمة إذا صارت كالجسم الضعيف تسلط عليها المرض من كل مكان، بينما الأقوياء لهم المناعة في طرده عن أجسامهم، ولذا فمهمة الوعاة رَفعُ هذا المرض عن الأمة حتى لا تستعد لتقبُّل المستبد، وحينذاك لا تجد أثراً منه).
مهمات أطباء الروح
هناك مهمات كبيرة ينبغي أن يقوم بها ويتصدى لها العلماء والمفكرين والدعاة، باعتبارهم أطباء متخصصين في معالجة الروح، لذلك عندما يقيم المرض في جسد ما او في روح معينة لمدة طويلة، فإن مهمة إزالة هذا المرض الروحي ومعالجته، تحتاج الى وقت ليس بالقصير مقرنا بجهد وتخطيط كبير ومتواصل.
يقول الإمام الشيرازي عن هذا الموضوع بكتابه المذكور نفسه: (من المؤكد أن الجسم الذي يعشش فيـه المرض مدة طويلة لا يمكن علاجه بمدة قصيرة، أو دواء بسيط، وكذلك جسم المسلمين الذي يعشش فيه الاستبداد قروناً، لا يعالج إلاّ بنشر الوعي العام بكل الوسائل الممكنة الإعلامية وغيرها).
إذاً مهمة المفكر والعالم والداعية، تتلخص بسعيه لمقاومة المرض الروحي، ومعالجته بصورة سليمة، فكما هي مهمة الطبيب الجسماني تسعى لمكافحة الأمراض التي تحاول أن تترك عطبا في الجسد، فإن مهمة ، أطباء الروح لا تقل أهمية عن دور الطبيب الجسماني، حيث تقع على عاتقه مسؤولية توعية الناس وتوضيح الأمور الغامضة لهم، حتى تكون لديهم قدرة على معالجة الخلل إذا كان في نفوسهم وشخصياتهم أو إذا كان لدى الآخرين، أي أن الداعية والعالم والمفكر، عليه أن يزيد من وعي الناس وينبههم على الأمور الصحيحة.
حيث يؤكد ذلك إمام الشيرازي في قوله: (كما أنّ الطبيب الجسماني بحاجة إلى بيان المرض والعلاج، كذلك أطباء الروح بحاجة إلى توعية الناس بمشاكلهم، وإنّها من أين ابتدأت، والى بيان العلاج). ومن الواضح أن مهمة المعالجة تأخذ مسارين، الأول ما هي طبيعة المشكلة ومتى بدأت، والمسار الثاني يتركز على كيفية المعالجة للخلاص من المشكلة.
الشروع في علاج المشكلة
هناك قول مفاده (إذا عُرِفَ السبب بطل العجب)، وهذا يعني أننا عندما نواجه قضية او حالة ما مستعصية على الحل، فلابد من البحث عن السبب الذي يقف وراء وجود واستمرار هذه المشكلة، وعندما يتم اكتشاف السبب، سوف تكون هناك قدرة وفرصة كبيرة لمعالجة المشكلة مهما كانت درجة تعقيدها وصعوبتها واستعصائها.
هذا يعني أن الهدف الأول الذي ينبغي أن نسعى إليه في حال مواجهتنا الى مشكلة معينة، هو البحث الدقيق المتواصل بإصرار عن الأسباب التي تقف وراء هذه المشكلة، فإذا حاول المعنيون والمختصون مثلا، دراسة مشكلة الاستبداد في المجتمع الإسلامي، من المهم أن تبدأ وتنتهي مثل هذه الدراسات باستجلاء الأسباب، وبعدها تبدأ مرحلة أخرى يمكن تلخيصها بأنها مرحلة الشروع بالمعالجة ومواجهة انتشار ظاهرة الأسباب في الطبقة الحاكمة وفي الطبقة المحكومة.
نعم لا يمكن للاستبداد والطغيان أن ينمو ويتطور ويصبح ذا خطورة هالة على الحاكم والمحكوم، إذا لم يكن هنالك استعداد لدى الطرفين لاحتضان هذه الظاهرة والترويج لها، وكما مر سابقا، هناك دور للحاشية والبطانة، يتركز على كيفية زرع بذرة الاستبداد في شخصية الحاكم والعمل على تكريسها وتطوريها حتى تتحول شخصية الحاكم من حالتها الإنسانية الفطرية، الى شخصية مستبدة طاغية تخلو من النظرة الإنسانية والتعامل الإنساني مع الشعب.
ولكن ينبغي التنبّه من لدن الجميع، وخاصة الطبقة المفكرة، طبقة الدعاة والفلاسفة والعلماء وحاملي الرأي الحر، على هؤلاء الإيمان المطلق بأن أصعب المشكلات وأكثرها استعصاء يمكن معالجتها والتصدي لها والتعامل معها بأسلوب القضاء عليها، مهما بلغت هذه المشكلة من صعوبة أو استحالة في الظاهر، لكنها في جميع الأحوال تكون قابلة للمعالجة، وحسب إرادة المتصدين لها، وقدرتهم على معالجتها وفق صبر ومطاولة لا تعرف اليأس او الهزيمة.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب بكتابه نفسه: (إن هول المشكلة لا يحول دون الشروع في العلاج، كلٌ بحسب قدرته العلمية والمادية. وقـد ذُكر في التاريخ : أن » كنفوشيوس « مرّ على قبيلة قاطنة جنب جبل عظيم ، فالتف حوله أفراد القبيلة طالبين عونه فـي حل مشكلتهم ؟ قالوا: يا معلم الخير: نحن قبيلتان انحدرنا من جدٍّ واحد، لكن أقربائنا يقطنون الطرف الآخر من الجبل، ولابدّ لنا من اللقاء كل عام مرة أو أكثر من مرة، وقطع الجبل يستغرق زمناً كثيراً وتضحية في أفرادنا، سواء هم جاءوا إلينا أو نحن ذهبنا إليهم بالسقوط من الجبل فـي البوادي أو بافتراس الوحوش لأفراد منا، فما هو الحل؟
قال: إنهُ بسيط إن عملتم على قلع الجبل صخرة صخرة من بينكم. فعملوا بما قال ، وبعد سنوات كانت القبيلتان مترابطتين عبر نفق في الجبل).