الامام الشيرازي علامة فارقة في الفكر الانساني
عبد الرزاق عبد الحسين
2016-07-07 04:00
شخصية لها بصمتها الخاصة، فكر تنويري، وانسانية خالصة، ونزوع دائمي نحو الخير، مدرسة في الاخلاق الحميدة، صاغ نظرية اللاعنف، له رؤية خاصة لعالمنا، قدمها في حياته عبر مئات المؤلَّفات، واليوم تُضاء مكتبات محبيه بحزمات تنويرية من افكاره، ولكن هناك علّة لا نعرف أسبابها، وهي تتعلق بالقادة السياسيين، هناك تساؤل لماذا لم تأخذ الحكومات بأفكاره مع انه يقدم لها حلولا مناسبة لكل المشكلات على طبق من ذهب؟.
إننا نعيش هذه الأيام أجواء بالغة الحزن، ونحن نستذكر هذه الشخصية الفكرية الاسلامية الانسانية الفريدة من نوعها، فقد تركت لنا وللبشرية أفكارها المضيئة، وكنوزها الفكرية في مجالات الحياة المختلفة، وخاصة في مجال اللاعنف، لاسيما انه ترك لنا نظرية كاملة في هذا الميدان، اطلق عليها عنوان (نظرية اللاعنف) وعالج في قضايا التطرف العالمي، من جميع جوانبه، إنه الامام الراحل آية الله العظمى، والمجدد الثاني السيد محمد الشيرازي (أعلى الله درجاته)، الذي نعيش ذكرى رحيله في هذه الايام.
فقد ترك لنا ارثا مجيدا في جميع مجالات الحياة الفكرية، والتي يمكن ان تتحول الى تطبيقات عملية في حياة المسلمين والانسانية جميعا، ومن بين المفاهيم والافكار التي ركز عليها المجدد الثاني الامام الشيرازي نظرية اللاعنف، فقد قال عن العنف، إنّ الإسلام الذي جاء به رسول الإنسانية (ص) وقدّمه ذلك التقدّم الملحوظ حمل بين طيّاته عدّة قوانين مهمّة عملت على نشره في شتّى أرجاء العالم الأكبر .
فمن أشهر هذه القوانين المهمّة التي كان لها دور طائل في تقدّم المسلمين ونجاحهم في مختلف الميادين هو قانون: اللين واللاّعنف الذي أكّدت عليه الآيات المباركة فضلا عن الأحاديث الشريفة الواردة عن أهل البيت (ع).
وفي كتابه المهم (اللاعنف في الاسلام) تسطع رؤية ساطعة بالفعل تقدم حلولا ناجعة لمشكلات الانسان في رحلته الشاقة والطويلة، يستقي المجدد الثاني هذه الرؤية العميقة من الفكر الاسلامي، ويعتمد فحوى النصوص القرآنية.
يقول سماحته بشكل لا مواربة فيه، لا يخفى أنّ الآيات الداعية إلى العفو وعدم ردّ الإساءة بمثلها هي في نفس الوقت تدعو إلى اللاّعنف، فليس العفو إلاّ ضرب من ضروب اللاّعنف أو مصداق من مصاديقه البارزة. قال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ. وقال سبحانه: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوء فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً.
لقد قدم السيد الشيرازي دروسا فكرية قمة في الوضوح والتجلي، يقوم جوهرها على المبدأ الاسلامي الجانح الى السلم، فالاسلام يرفض العنف في مجمله بغض النظر عن الاسباب والمسببات، ويؤيد الجنوح الى التفاهم والانخراط في الحوار ليس هروبا من المواجهة وانما تجنبا للصدام، وتقريبا وتغليبا للغة الحكمة والتعقل.
كل هذا وفق رؤية قرآنية، حملت في نصوصها وافكارها دعوات خالدة نحو السلم وردع العنف بأشكاله، كما يدوّن ذلك سماحته قائلا: أن هناك مصداق آخر للاّعنف الذي يؤكّد عليه الإسلام العزيز وهو السلم والسلام، حيث إنّ الإسلام هو دين السلم وشعاره السلام ..فبعد أن كان الجاهليون مولعين في الحروب وسفك الدماء جاء الإسلام وأخذ يدعوهم إلى السلم والوئام ونبذ الحروب والمشاحنات التي لا ينجم عنها سوى الدمار والفساد ..
على هذا الأثر فإنّ آيات الذكر جاءت لتؤكّد على مسألة السلم والسلام، فقد قال عزّ من قائل مخاطباً عباده المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً.
ان المجدد الثاني يحتّم على كل ذي بصيرة وعقل حكيم وإرادة خالصة للخير، أن يعمق منهج اللاعنف بحسب رؤية ونظرية الامام الشيرازي ويسير بهذا المنهج حتى يصل الى درجة النجاح في تحقيق السلم الخاص والعام، ويشمل السلم الخاص السلم الذاتي (الفردي والجمعي) ومن ضمنه سلم الجماعة والدولة ايضا، وهذا ما يحتم على الحكومات تطبيق نظرية اللاعنف للمجدد الثاني، لاسيما أنها واضحة وسهلة التطبيق وتخلو من التعقيد والمصاعب.
وجوهر ما يستند إليه المجدد الثاني، هو الدعائم الشرعية المعروفة، و أولها النص القرآني، ثم الاحاديث والروايات الشريفة، ثم ما يرد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، فهي جميعا تنادي بالسلم والسلام.
فمن ضمن رؤية المجدد الثاني كما ورد في نظرية اللاعنف، بالإضافة إلى الآيات الشريفة المنادية إلى العفو والصفح الجميل والجنوح إلى السلم والسلام هناك آيات اُخر تدعو إلى احترام عقائد الآخرين حتّى ولو كانت فاسدة وغير صحيحة، وهذا إنّما يدلّ على حرص الإسلام على السماحة واللاّعنف في سلوك المسلمين حتّى مقابل أصحاب العقائد الضالّة التي لا قداسة لها في نظر الإسلام، نعم من واجب المسلمين السعي لهدايتهم بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِين. وفي سورة الكافرين يقول تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَليَ دِينِ. صدق الله العلي العظيم.
في نظرية اللاعنف، يبدأ المجدد الثاني وينتهي بالسلم، والحكمة، ونبذ التطرف، ونشر قيم التعاون، ومد جسور الاحترام، والتخلي عن التصادم بأنواعه، مهما كانت الأسباب، مؤكدا سماحته ان الفكر الآخر حتى لو كان مخالفا لأفكارنا، فذلك لا ينبغي أن يكون مدعاة للتضارب معه، ان السلم هو منهجنا، واللاعنف هو خريطة العمل التي نسير في ضوئها.
اننا ونحن نعيش هذه الايام المعطرة بذكرى هذا المفكر الاسلامي الانساني الذي يشكل علامة فارقة في الفكر الانساني، انما ندعو الحكومات والمسؤولين عن حاضر ومستقبل المسلمين الى دراسة نظرية اللاعنف للامام الشيرازي والعمل بها، فهذه أمانة لا يجوز التنصل منها خدمة للمسلمين والاسلام.