الامام الشيرازي والتسامي فوق الجراح
محمد علي جواد تقي
2016-07-05 09:37
جيئ ذات مرة بورقة صفراء (بيان تهجمي) ضد سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- فاقترح بعض الاخوة المقربين منه، إصدار بيان توضيحي لرد الاتهامات الواردة، فرفض سماحته رفضاً باتاً، إصدار أي نوع من البيانات للرد على ما يُقال هنا وهناك، حتى وإن كان بقصد الشبهة والشكوك من اذهان الناس، ولا يكون رداً بالمثل، فكان جواب سماحته كلمة واحدة لا غير: "التجاهل".
عادة ما يعرف العظماء والناجحين ليس فقط من خلال افكارهم ونظرياتهم وانجازاتهم، وإنما ايضاً من خلال تعاطيهم مع واقعهم الخارجي، وتحديداً مع الناس من حولهم، من افراد الأسرة وافراد المجتمع، فهل يكون "الصادق الأمين" كما الرسول الأكرم، في بداية دعوته، وكما الأئمة المعصومين الذين كانوا يحملون الجراب على ظهورهم لاطعام الفقراء والمساكين، كل ذلك وهم في ظل ظروف غاية في الصعوبة من الناحية الاجتماعية والسياسية، فهم لم يكونوا اصحاب محال تجارية، فيقدموا من يزيد من ارباحهم الى هذه المؤسسة الخيرية او تلك، إنما كانوا يعيشون صراعاً مفتوحاً وعنيفاً – احياناً- مع جبهات متعددة؛ الحكام من جهة، والمنكرين لولايتهم وحقّهم، واحياناً تشمل هذه العطايا شريحة اجتماعية على تماس بهذه الفئة المعادية او تلك، وكانوا على معرفة بهم تماماً، ولكن لم يكونوا لينظروا اليهم بقدر ما كانوا يتطلعون الى الاهداف السامية من وراء تحركهم الانساني والحضاري.
ولعل هذا يفسّر لنا اسلوب تعامل الأئمة الاطهار مع من يشتم ويسب وجهاً لوجه، وهذا ما يستحيل ان نلاحظ تكراره في زماننا الحاضر، ففي مقابل الشتم، كان يأتي النصح والارشاد ثم المال والطعام والضيافة وغير ذلك من ردود الفعل غير المتوقعة بما يسقط في أيدي الطرف المقابل ويحول موقفه 180 درجة.
وهذا يعني مما يعنيه؛ أن العظماء والناجحين لن يبحثوا عن الاعداء رغم التحديات الماحقة والظروف العصيبة، إنما يبحثون عن كيفية وصولهم الى اهدافهم، وهذا هو حال منظرين ومفكرين وقادة ومحررين، واجهوا التشكيك والتنكّر والتنكيل بمختلف الاساليب، وربما واجهوا الموت باعينهم، بيد أنهم أبوا ان ينزلوا الى مستوى اسفاف الآخرين، ولو فعلوا ذلك لما كنّا نجد كتبهم تتداولها الأيدي جيل بعد جيل، او أولئك الذين تضرب الامثال بثوراتهم التحررية، وكيف أنهم تجاوزوا طريق ذات الشوكة وحققوا طموحاتهم وآمال شعوبهم.
جاء البعض الى سماحة الامام الراحل في أيامه الاخيرة، يعتذر عما بدر منه في سالف الزمان، وفي زحمة التنافس الفكري والثقافي المحموم، فما كان من سماحته إلا الابتسامة العريضة!! وهو يشير بيده أن "لا تهتم بذلك" او عدّه كأن شيئاً لم يكن، لا قلت ولا سمعت، وإن كانت ثمة فرصة، فهي للبداية الجديدة وعدم الاكتراث لما مضى.
والسؤال هنا؛ كيف يمكن لمفكر او صاحب مشروع ثقافي ضخم او زعيم كبير او صاحب مكانة اجتماعية او سياسية او دينية، أن يسكت إزاء تهمة معينة او تشكيك معين او غير ذلك؟
يمكن ذلك بكل بساطة بخطوة واحدة من شخصنة المشروع او المكانة التي عليها، الى رحاب الاهداف الكبيرة حيث يكون بمنزلة الباب الواسع التي يفتح الناس آفاق المستقبل وخيارات الإصلاح وتغيير الواقع الفاسد الذي يعيشونه، وهنا تحديداً تتجسد إحدى مفاهيم التضحية ومفاهيم الشهادة، فهكذا انسان يكون شاهداً على واقعه الفاسد ساعياً الى تغييره حتى وإن كلفه ذلك تضحيات جسام.
وهذا ليس بالأمر الهيّن، فان الانسان محب دائماً للتفاخر والظهور، لاسيما اذا تعلق الامر بالعطاء والاحسان والعلاقة مع بعض الشرائح الاجتماعية التي يجد انها بحاجة اليه، لذا نجد التمايل مع العواطف و المشاعر بدلاً من التفكير بالاهداف المرسومة، علماً ان بعض التجارب امامنا من اشخاص او جماعات لها باع طويل في العطاء الفكري والعمل الثقافي، بيد أن فشلوا من الوقوف حتى عند الشعارات التي رفعوها وسيروا بها التظاهرات والاعتصامات وعبئوا بها الناس لارتكاب مختلف الاعمال منها الموت دون هذه الشعارات ومنها مثلاً "الاسلام هو الحل"، وهم يعلموا جيداً ويقرأون التاريخ، بأن الاسلام لم ينتشر ولم يسد في العالم، بالاستبداد الفكري وحبّ الأنا والتقوقع، إنما بالتضحيات الجسام قبل كل شيء.