كتاب: شهر رمضان شهر البناء والتقدم
المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي
2016-06-11 01:45
مقدمة المؤلف:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
يطلّ علينا كل عام شهر رمضان بعطره الزاكي بنسيمه الفوّاح، الذي ما أن يلمس النفوس حتى يجعلها على أهبّة الاستعداد لتلقي كلمات الانابة والتوبة الصادقة إلى الله سبحانه وتعالى.
شهر رمضان بلسمٌ يبعث الارتياح والطمأنينة إلى النفوس المعذّبة والقلوب المنكسرة والأجساد المنهكة، انّه ضماد لجراحات القلب والجسد؛ يخفّف عنها عناء الحياة ومشاق العمل والكدّ، في لياليه المقمرة بالآمال وبأيامه الزاخرة بالعلاقات والزيارات وبالمحبة المتبادلة.
شهر رمضان، شهر جديد من بين بقية الشهور لأنه يمتاز عنها بأشياء كثيرة، يريد للمؤمن ان يكون جديداً في كل أيامه، جديداً لا بملبسه.. حيث اعتاد البعض ان يرتدوا أجمل ما عندهم من الملابس.
جديداً لا بمأكله.. حيث اعتاد بعض الناس ان يأكلوا في هذا الشهر كل شيء جديد. فكل ما لم يعتادوا على أكله.. يبتاعونه في هذا الشهر ليتناولوه وكأنه ليس شهر الصيام بل شهر الطعام. وكأن الهدف ليس هو التدريب على الجوع والعطش ليتذكّر الإنسان المؤمن جوع وعطش الفقراء والمساكين ليواسيهم، وليتذكّر جوع وعطش يوم القيامة بل الهدف هو التعود على تناول ألذّ الأطعمة!
فعلى المؤمن أن يصمم في هذا الشهر مع نفسه ان يكون أفضل مما كان عليه، وان يعاهد الله سبحانه وتعالى ان يكون لبنةً جديدة تُضاف إلى صرح الإسلام المتين، ليرتفع هذا الصرح شامخاً في سماء الدنيا باعثاً الهداية والأمل إلى كل البشرية.
والانسان بحاجة في كل عام إلى وقفة مع نفسه ومع الحياة، لأنّ غبار الحياة قد يتراكم على قلبه فيجرّده عن رؤية الحقيقة وتحول بينه وبين طريق التقدم. فلابدّ من غربلة تمهد الطريق إلى الدخول في شهر رمضان، لابدّ من نقضٍ لما علق بالإنسان من غبار الجهل واليأس والتخلف، والأخذ بشآبيب الأمل والتقدم للمضي في طريق راسخ نحو تجديد الحياة الفردية ليكون هذا التجديد هو السبيل لتقدم حياة الجماعة نحو الامام.
ورسالة الإسلام هي التأكيد على هذين الأمرين الحيويين، كما قال سبحانه في كتاب الكريم: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يُحييكُم...)[1]، وقال أيضاً (فَلَنُحييَنّه حياةً طيّبةً...)[2]فالبشر قد يتراجعون إلى الوراء.. وقد يقفون في مواقعهم دون حِراك.
اما المؤمن: إذا (تساوى يوماه فهو مغبون)[3]، فهو في تقدم متواصل ـ في كل أبعاد الحياة ـ لا يعرف التراجع ولا يعرف التوقف ولا يعرف الكلل والملل، هكذا أراد الإسلام له.
يقول الشاعر:
وقال نبيّ المسلمين تقدّموا
واحبب الينا ان نكون المقدّما
في شهر رمضان تترجم الأفكار إلى وقائع.. وتتحول الحروف إلى حركة والكلمة إلى حياة.
يتحول الإنسان إلى أمّة كابراهيم (عليه السلام) حيث كان أمة قانتاً لله.
يكون أُمّة بتقدمه في هذا الشهر، فهو يعبد الله ما يعادل عبادة سنة، وهو في المجتمع ليس فرداً بل أفراداً متعاونين متآخين، وهو في الكون بذرة تبعث الحياة في كل ركن من أركان الدنيا.
فشهر رمضان شهر الحركة والبركة.
كل جسم ساكن إذا مسّهُ نسيم هذا الشهر يأخذ بالحركة، فالكثير يخرجون للتبليغ في هذا الشهر المبارك، والكثير يشتغلون في الليل والنهار، وإذا ما حاولنا ان نحصي انتاج بعض الأفراد لوجدنا انهم ينتجون ما يعادل العام.
شهر رمضان هو ربيع القرآن، ففيه أوّلاً نزل القرآن الكريم كاملاً ثم تنزّل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منجّماً ابتداءً من السابع والعشرين من شهر رجب في السنة الآتية؛ ومن المعلوم ان نزول القرآن كان مقترناً ببدء البعثة.
وفي القرآن الكريم يجد الإنسان برنامج التجديد الذي يبتغيه ويسعى من أجل تحققه في هذا الشهر.
فـ(شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن).. هو (هدىً للناس). هداية لإصلاح النفس والغير هداية معنوية ومادية، حيث تضمّن دستوراً لكل طريق صائب ولكل زاوية من زوايا الحياة.
(وبينات من الهدى) حيث ان لهذه الهداية أدلّة واضحة مأخوذة من هذا الجنس، فليس ـ مثلاً ـ من جنس المال ودليله، الشهود التي تثبت المال، بل هداية ودليل على الهداية، إذ الدليل يلزم ان يناسب المدلول، والاّ لم يكن دليلاً عليه، للزوم المناسبة بين عالمي الاثبات والثبوت كما يقوله علماء الكلام.
ويبقى هناك أمر ثالث هو (وَالفرقان...)[4].. أي ما يفرّق بين الحق والباطل، والرشاد والضلال، إذا قد يهتدي الإنسان إلى الحق لكنّه لا يملك حالة التميز بين الحق والباطل.
والقرآن هو كتاب هداية لجميع الناس (هدىً للناس)، فهو ليس لقومٍ دون قوم، ولا لجماعة خاصة، لا لزمانٍ معين ولا لمكان محدد.. بل هو للناس أجمعين.
فالإسلام ليس كاليهودية التي حصروها بقوم خاص هم الاسرائيليون، وليس كالمسيحية التي جاءت لفترة محددة من الزمن.
ثم تأتي جملة (هُدىً لِلمتقين)[5] في آية اخرى لتؤكد ان المستفيد من القرآن هم جماعة واحدة، هم (المتقون)، وان كانت قابلية الهداية موجودة لدى جميع البشر بلا استثناء.
فلام (المتقين) هي للانتفاع لا للملك الخاص.
اما قوله تعالى: (وإنّهُ لَذِكر لَك وَ لِقَومِكَ...)[6]، فالمراد بـ(القوم)[7] المسلمين لا القومية بالمصطلح السياسي المتعارف كالقومية العربية و القومية الفارسية و غيرهما.
ولذا قال سبحانه: (وما أرسلناكَ إلاّ كافَةً للناس...)[8]، وحرف (التاء) في صيغة اسم الفاعل تدلُ على العموم و المبالغة، وهي ليست المبالغة في قبال الحقيقة بل المبالغة في البلوغ للكل. وتقدُّم لفظ (كافة) على لفظ (الناس) للتأكيد على ان طبيعة الدين انه للجميع. فالتقديم هنا لدلالة المرتبة، فهناك فارقٌ كبيرٌ بين ان نقول (ما لنا الا اتباع احمد) وبين ان نقول (ما اتباع احمد الا لنا) كما جاء في اشعار ابن مالك.
اذاً نفحات هذا الشهر ستعم الجميع، فشهر رمضان هو للناس كافة كما ان الدين الإسلامي للناس كافة، اذاً لابدّ من استثمار هذا الموسم الروحي العظيم بأحسن وجه.
لابدّ ان نستفيد من كل لحظة في هذا الشهر.
لابدّ ان نستغل كل عطاء من عطاءات هذا الشهر المبارك.
لابدّ ان يسعى كل واحد منّا ان يكون مرحوماً في هذا الشهر.. وقد قال الامام الصادق(عليه السلام): (لابدّ للخير ان يقع فاستعد أنت أن تكون من أهل الخير)[9].
فشهر رمضان آتٍ الينا بخيراته وعطاءاته ومنحه، فليفكّر كل واحد ان يكون من أهل هذا الشهر، ومن المسجلين في سجل الفائزين.
والفوز الأكبر في شهر الصيام هو اصلاح النفس والغير وتطوير الحياة إلى الأفضل.
وهما عجلتان لا يمكن السير في عباب الحياة المتلاطمة الاّ بهما.
نسأل الله ان يوفقنا للاستفادة من شهره الكريم.
والله الموفّق المستعان
محمد الشيرازي
الفصل الأول ـ المهام العقيدية:
1 ـ تصحيح العقيدة:
الفطرة البشرية هي منبع العقيدة الصحيحة، فالانسان يقرّ بوجود الخالق بالفطرة.
وبالفطرة عرف الإنسان انّ الله واحد لترابط أجزاء هذا الكون فـ(لو كانَ فيهما آلهةٌ إلاّ اللهُ لَفسدَتا…[10].
وبالفطرة توصّل الإنسان إلى معرفة صفات الخالق، فعرف انه عادل لأن عدم العدل اما نابع من الجهل أو الحاجة أو الخبث، وكل ذلك يتنافى مع الصفات الاخرى للخالق.
فالله تعالى منزّه عن الصفات التي يتّصف بها المخلوق من خبث وجهل واحتياج فهو غني عن كل شيء، وهو عالمٌ بكل شيء، وعلمه وغناه ينفيان عنه الجهل والحاجة والخبث.
وبالفطرة يكتشف الإنسان ان لله سبحانه غرضاً في الخلق، وإلاّ لكان الخلق عبثاً، والعالم القادر الغني بمنأى من العبث، ولتحقيق هذا الغرض لابدّ من بعث الرسل و أوصيائهم لهداية البشر إلى ما يريده.
وبالفطرة يعرف الإنسان ان مقتضيات عدل الخالق ان وضع حساباً لهذا الكون، فكان لابدّ من اثابة المحسن بالإحسان ومعاقبة المسيء لإساءته.
وينظر الإنسان فيرى المجرمين كيف يطول بهم المقام في هذا الحياة؟
وكيف يعيشون على جرائمهم؟ بل يزدادون إجراماً، وانهم يموتون دون ان ينالوا العقاب العادل.
وبالعكس يرى المحسنين كيف يرحلون عن الدنيا دون ان ينالوا جزاء احسانهم، وهنا توصلهم النظرة الثاقبة إلى ضرورة وجود حياة اخرى غير هذا الحياة التي نحياها وسيكون العقاب والثواب في انتظار اصحاب الأعمال في الدنيا في الخير أو الشر وبذلك يثبت المعاد.
هذه باختصار هي العقيدة الإسلامية.
وهذه هي اصول الدين والتي منبعها الفطرة البشرية (فِطرتَ اللهِ الّتي فَطَرَ الناسَ عليها)[11].
هذه هي التوحيد والعدل والنبوة والامامة والمعاد.. في يوم القيامة.. وخصوصيات هذه الامور قد ثبتت في الشريعة[12]، وبمقدور كل إنسان ان يحصل على هذه العقيدة وخصوصياتها بشرط ان يعيش صفاء الفطرة وشفافية الوجدان.
وشهر رمضان هو مناسبة جيدة لايجاد هذا الصفاء، ولخلق هذه الشفافية في النفوس، والتي من خلالها يصل الإنسان المؤمن إلى معين العقيدة.
وكلّما تأصّلت العقيدة في النفس الإنسانية طفحت في السلوك وانعكست في الاخلاق. وكل اناء بالذي فيه ينضحُ.
وشهر رمضان هو شهر تأصيل العقيدة وتقويتها و ترسيخها وتركيزها في القلوب والأذهان. وستكو ن ثمرة هذا العقيدة هي الاستقامة في الحياة في القول والفعل.
ومن ثمار هذه الاستقامة هطول البركات و النِعم، وقد قال تعالى: (وألَّوِ استقاموا على الطريقةِ لأسقيناهُ ماءً غَدَقا)[13].
2 ـ العترة الطاهرة.. ملاذنا
التمسك بأهل البيت عليهم آلاف التحية والسلام هو جزء من الدين، والاهتداء بهديهم من أهم الواجبات.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (اني تاركٌ فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي هل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)[14]، وعلّة ذلك؛ ان القرآن الكريم على عظمته فوق ان يفهم كل أحكامه وخصوصياته البشر. فكان لابدّ من مفسّر للقرآن الكريم ومبيّن لأحكامه.
وهذه هي مهمة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده الائمة من أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام.
وليس هذه هي مهمة العترة الطاهرة فقط، فبالاضافة إلى تبيين الاحكام وتوضيحها يقوم الائمة (عليهم السلام) بدور القدوة للمسلمين، فهم أول من طبّق احكام الإسلام فأصبحوا الأمثلة الحية لتطبيقه، فهم الإسلام الناطق لذا كانوا أهلاً للاقتداء في مختلف مناحي الحياة اقتصادية وسياسية وثقافية وتربوية واُسرية.. وغيرها.
وشهر رمضان بما يتضمن من ذكريات ترتبط بالعترة الطاهرة؛ كولادة الامام الحسن (عليه السلام)، وشهادة الامام أمير المؤمنين(عليه السلام) وليالي القدر، حيث كان الائمة (عليه السلام) يتفرغون فيها للعبادة، لذا لابدّ وان نتعايش مع شخصيات هذا الشهر، و ان نعيش تلك اللحظات التي عاشها أئمتنا الأطهار(عليه السلام).
نعيش ذكرى بدر والبطولات التي سطّرها الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) اثناء مبارزته لعمر بن عد ود العامري.
ان نعيش الرسالة و الرسول والدور الاساسي الذي قام به أمير المؤمنين (عليه السلام) في فترة التأسيس مع الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي فترة التصحيح بعد غياب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
وان نعيش الامام الحسن(عليه السلام) ودوره في تحصين الرسالة عندما وقف ذلك الموقف الصلب من معاوية الطاغية الماكر الذي كان يريد اعادة دور الروم واعادة المسلمين إلى الجاهلية الأُولى.
وان نعيش الامام الحسين (عليه السلام) في تلك اللحظات التي ضحى فيها بالغالي والنفيس من أجل الدين، وبلغ الأمر به ان قدّم رضيعه ضحية من أجل ان لا يدع للطاغية يزيد ان يواصل تضليله للناس وتجهيله للأُمة.
وأن نعيش الصبر و العناء عند سيدة نساء العالمين الزهراء البتول (عليها السلام)، و ان نتذكر دائماً كيف يجب ان يكون دور المرأة الصالحة في كل زمانٍ ومكان.
فمن الواجب ان نكرّس حياتنا في هذا الشهر للعترة الطاهرة تأريخاً وفهماً لهم والأخذ بأقوالهم والإقتداء بأعمالهم وتمييزاً لمختلف أدوارهم[15] وتشخيص مواقعنا لأدوارهم (عليهم السلام).
وقد تختلف الاجتهادات كما اختلف أدوار المعصومين، فهناك من يقتدي بالامام الحسن(عليه السلام) ويحاول ان يتمثل الدور الذي قام به هذا الامام العظيم في صلحه مع معاوية حفاظاً على الدين والمؤمنين، وهناك من يحاول ان يتمثل الدور الذي قام به الامام الحسين(عليه السلام) في اعلان الثورة ضد الاستبداد و الطغيان.
وهذا الاختلاف هو نتيجة حتمية لسعة الاُمة التي تُعطي بوجودها مساحات كبيرة من العالم، ونتيجة منطقية لتباين همومها ومشاكلها، وكذلك من التوسعة على الامة لا من الاختلاف في الجوهر.
مثلاً: هناك من تحتم عليه الأوضاع ان يقف موقفاً حسنياً في بقعة من العالم الاسلامي، وهناك إلى جانبه في بقعة اخرى يُحتم عليه ان يقف موقفاً حسينياً.
فكان لابد من التحديد نوع الاقتداء بنوع الظرف الذي يعيشه المسلم.
وهنا علينا مسؤولية اخرى هي اساس كل مسؤولية وهي التعرّف بأهل البيت(عليهم السلام) حتى يكتشف الناس مجالات الارتباط التي بينهم وبين قادتهم الميامين.
كما ويجب علينا ان نعرّف العالم بالعترة الطاهرة حتى يستضيء بأنوارهم ويجعلهم مناراً يهتدي بهم، (وبالنجم هم يهتدون)[16].
3 ـ الرغبة في الجنة والرهبة من النار
انّ أكثر ما يستثير الهمم ويطلق العِنان للطاقات، هو التفكير بالجنة والنار فالجنة هي نهاية الصالحين والمؤمنين، والنار هي مصير الجبّارين والمتكبرين.
وإذا ما تمعنّا في الآيات التي نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة المكرمة لوجدنا أنها تركّز على هذه المسألة، وتطرح الجنة والنار كعامل مهم من عوامل دفع الناس إلى الايمان وحثّهم على الانخراط في سلك المسلمين.
بالاضافة إلى هذه الآيات هناك المئات من الأحاديث والروايات المروية عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة (عليهم السلام) الواردة بهذا الشأن، وقد جمعنا تلك الآيات في كتاب باسم: (الجنة والنار في القرآن).
وتكمن أهمية موضوع الجنة والنار في أثره في السلوك البشري، فالرغبة في الجنة تجعل الإنسان في الدنيا متّقياً وطيّباً وخلوقاً، كذلك تجعله خيّراً متعاوناً مع الآخرين، ويحب الخير للآخرين. اما رهبة النار فتجعل الإنسان يمتنع عن ارتكاب المنكرات ويبتعد عن الموبقات.
ولا يخفى ان مبدأ العقاب والثواب هو خير وسيلة للتربية الصالحة، هكذا كانت حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الائمة المعصومين (عليهم السلام) في كل حركاتهم وسكناتهم مصبوغةً بهذا الأمر (صِبغةَ اللهِ ومن أَحسنُ مِنَ اللهِ صِبغةً...)[17].
وهكذا ربّى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه فكانوا في القمم السامقة، وهكذا كان أصحاب الائمة (عليه السلام).
هكذا كان أصحاب الامام الحسين(عليه السلام) في يوم الطف، فكانوا يقاتلون والبسمة على شفاههم لأنهم كانوا يستعدون للذهاب إلى الجنة، وعلى هدى هؤلاء الائمة وأصحابهم سار الخيّرون من العلماء والصلحاء وسائر المتقين الذين كانوا يتحسسون الجنة والنار كمن رآهم، كما قال سيد الأوصياء أمير المؤمنين(عليه السلام): (فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذّبون)[18]، وشهر رمضان هو أفضل موسم لتركيز هذه الفكرة، حيث ينسلخ الإنسان ـ إلى حدّ ماـ من عالم الماديات ويزداد تحليقاً في سماء المعنويات فيقترب إلى فكرة الآخرة وما فيها من نعيم جعله الله للمتقين وللمؤمنين وما فيها من عذاب أعدّه الله للعاصين والمذنبين، وتكون حصيلة ترسّخ هذه الفكرة هي الاستقامة الدائمة في مختلف مناحي الحياة، فمن أعمال شهر رمضان طلب الغفران والجنة، والتعوّذ من نار جهنم؛ والباعث لهذا الدعاء هو الشوق الكبير إلى رياض الجنة والفرار من نار جهنم.
ان تفكير المؤمن بالجنة وما أعدّه الله له في الآخرة من الدرجات العليا يسبب السعادة له، فكيف ستكون سعادته في الآخرة إذا رأى الجنة بأمّ عينيه.
ان سعادة الدنيا تتوقف على الجنة والنار فكيف بالآخرة التي هي الحيوان.
ان أمراً واحداً هو الذي يضمن استقامة الإنسان واستمراره على الطريق الصحيح، وهذا الأمر هو الشعور المزدوج بالرجاء و الخوف، فالرجاء بلا خوف يدفع الإنسان إلى الغرور، والخوف بلا رجاء يدفع الإنسان إلى اليأس، وكل خطوة يخطوها الانسان في هذه الحياة هي بحاجة إلى الرجاء والخوف.
عندما تريد ان تقول كلمة ما بمحضر جمع من اصدقائك، وعندما تريد ان تقوم بعمل ما في داخل المجتمع، فانت بحاجة إلى عامل محفّز وعامل مثبّط؛ فالتحفيز يدفعك إلى عمل البرّ والخير، والتثبيط يمنعك من عمل الشر.
وهكذا تستقيم حياة الإنسان المؤمن.
وشهر الصيام هو مناسبة جيدة لتربية الإنسان على هذا القيم ليكون انساناً مستقيماً.
الفصل الثاني ـ المهام التعليمية والسلوك
1 ـ تعلّم القراءة والتفسير
لا نغالي ان قلنا ان أكثر المسلمين وحتى العرب منهم لا يعرفون قراءة القرآن، ولا يعرفون معاني ألفاظه.
فاللازم ان تشكل في أيام شهر رمضان الميمون ولياليه في طول بلاد الإسلام وعرضها، وفي البلاد التي يتواجد فيها المسلمون من غير بلاد الإسلام هيئات تعليم القرآن، هيئات ليست خاصة بالرجال بل تعمم النساء والفتيان وحتى الاطفال، ومهمة هذه الهيئات تكون:
1 ـ تعليم الناس القراءة الحسنة، حتى يستطيع المسلم ان يقرأ كتاب الله بسهولة وعذوبة.
2 ـ تعليم معاني الفاظ القرآن، فكلما مرّت كلمة بحاجة إلى توضيح يقوم المعلم بتوضيحها، وهكذا تتم العملية كل يوم وكل ليلة حتى نهاية شهر رمضان.
3 ـ تفسير القرآن الكريم بما يناسب واقع الناس أي ربط القرآن الحكيم بالحياة ويجعله منهاجاً للناس في شؤونهم المختلفة. وتخصيص كل ليلة أو كل يوم من أيام الشهر المبارك لبيان معنى جزء من اجزاء القرآن.
4 ـ وبالاضافة إلى هذه المهام لابدّ لهذه الهيئات ان تقوم بأعمال اجتماعية مختلفة كمساعدة المحتاجين وطباعة الكتب الدينية والتوعوية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما أشبه ذلك من الأعمال الضرورية.
ان تقدم الغرب مرهون بانفلاته من سطوة الكنيسة حيث كانت تحتكر كل شيء لنفسها، و تسيطر على عقول الناس وافكارهم بمجموعة من الأوهام، وعندما تخلّص من هذه الأوهام تقدّم اشواطاً إلى الامام. وبعض الذين درسوا في الغرب من ابناء المسلمين ولاحظوا تقدم الغرب وعرفوا ان تقدمه هو بسبب تركه للانجيل، عاد هؤلاء المسلمون إلى بلادهم وهم يحملون فكرة التخلص من القرآن الكريم، وساعد هؤلاء تبعية الحكام للغرب وجهلهم بأحكام الاسلام، وأخذت هذه النغمة تنتشر بين الشباب المتغربين، وقد تجاهلوا الفارق الكبير الموجود بين القرآن الذي حفظه الله تعالى من الدسّ والتحريف وبين الانجيل المحرّف، وعلى فرض انه لم يكن محرّفاً فقد نزل لفترة من الزمن فهو لا يصلح لكل زمان كما هو القرآن.
وقد أثّرت هذه الدعاية المضللة في عقول البعض الذين تركوا القرآن وراء ظهورهم فتأخروا.. وتراجعوا.. وانهارت حضارتهم ومدنيتهم.
من هنا كان لزاماً على المسلمين ان يعودوا لكتابهم المقدّس في هذا الشهر المبارك و ان يحيطوا به من كل جانب ويتمسكوا به في كل بعدٍ من أبعاده في قرائته وحفظ آياته، وفي التجويد وتعلّم معاني ألفاظه وتفسيره تعليماً وتعلّماً وتأويلاً وعملاً واتباعاً، فالقرآن كالنور إذا أطفأه الإنسان عمّ الظلام، وإذا أشعله عمّ الضياء كل الأرجاء.
لابدّ من تعبئة كل الطاقات المتاحة لأجل اقامة الهيئات بعدد المساجد، بل اقامتها في البيوت ايضاً حتى يتحوّل جوّ هذا الشهر المبارك إلى جوٍ قرآني، فلا تسمع الاّ صوت تلاوة القرآن، ولا تقرأ الاّ في علوم القرآن، وعندما يمتلأ الجو بالقرآن تستعد النفوس إلى تطبيقه والأخذ به كبرنامج للحياة الرغيدة.
هكذا فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في بداية الدعوة الاسلامية، فقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يجعلهم في جو القرآن، وبعد ذلك يدعوهم إلى التمسك به والعمل بهداه.
وشهر رمضان هو مناسبة لخلق هذا الجو الايماني الصادق والذي سيكون مقدمة لتطبيق القرآن الكريم.
والسبيل الأفضل لذلك كما قلنا هو اقامة الهيئات الكثيرة في المساجد والبيوت بل كل أربعة أو خمسة اشخاص يشتركون في تكوين هيئة قرآنية. وهكذا سنقف امام زحف الثقافاة الغربية والتيارات المنحرفة، وسيمكننا ذلك من العودة إلى تطبيق القرآن[19].
2 ـ القرآن الكريم منهج للحياة
القرآن الحكيم كتاب للحياة ومصدر للنور ودستور للسلام، فعن الحياة يقول سبحانه: (إذا دعاكُم لِمَا يُحييكُم...)[20]، وعن النور يقول تعالى: (واتَّبعوا النّور الذي اُنزِلَ معه)[21]، وعن السلام يقول جل ذكره: (يهدي به الله مَن اتّبعَ رضوان سُبُلَ السَّلامِ...)[22]، وهكذا كان القرآن الكريم في بدو الاسلام، فهو الذي وضع المسلمين على طريق الحياة الرغيدة الشريفة من خلال حثّه على العمل و الانتاج، وعبر تحفيزه الناس على التعاون ومساعدة الغير، ومن خلال ما وضع امام المسلم من مناهج اقتصادية واجتماعية نتيجتها هي الحياة الكريمة التي ترفرف اجنحتها بالسعادة و الرخاء. وكذلك القرآن الكريم أرشد الناس إلى طريق الحياة السليمة من خلال الضوء الذي يسلّطه في طريقهم ليهتدوا في الظلمات إلى مواطن الخير فيتمسكوا بها، والى مواطن الشرّ فيتجنبوها. وعرّفهم القرن الحكيم سُبل السلام في الدنيا قبل الآخرة، ويوم كان المسلمون يفهمون القرآن وتعاليمه ويتمسكون به ويأخذون بمنهجه كان لهم الخير والصلاح.
اما عندما تركوا القرآن جهلاً من بعضهم بآياته وعناداً منهم لِمنهجه انهالت عليهم المشكلات من كل حدبٍ وصوب.
عندما ترك المسلمون العمل بمضمون؛ آية الامّة: (وانَّ هذه أُمّتُكُم أُمّةً واحدةً)[23].
وآية الاخوة: (إنّما المؤمنونَ إخوةٌ)[24].
وآية الحرية: (وَيَضعُ عنهم اصرَهم والاغلالَ التي كانت عليهم)[25].
وآية النعم: (خلق لكم ما في الأرض جميعا)[26].
وآية النكاح: (وانكحوا الايامى منكُم والصالحينَ من عبادِكم وإماءِكُم)[27].
وآية التعاون على فعل الخير: (وَتَعاوَنوا على البرِّ والتقوى ولا تَعاونوا على الاثمِ والعُدوان)[28].
وآية المسؤولية: (كُلُّ امرئٍ بما كسبَ رهين)[29].
وآية الحكومة: (لتحكُم بينَ الناسِ بِما أراكَ اللهُ)[30].
وآية تجنّب الظلم: (لا تُظلِمُونَ وَلا تُظلَمُون)[31].
وآية تجنّب الخمر والميسر: (إنَّما الخمرُ والميسِرُ... رِجسٌ من عملِ الشيطانِ فاجتنبوه)[32].
عندما ترك المسلمون العمل بهذه الآيات وغيرها من آيات القرآن الكريم انطفأت شعلة الحياة في نفوسهم واصبحوا كما قال تعالى: (لا يموتُ فِيها ولا يَحيى)[33] فلا هم بميتين ولاهم بأحياء. أي انهم في حالة احتضار دائم، وهناك اممٌ كثيرة في التاريخ عاشت هذه الحالة العصيبة لردح من الزمن.
هذا في مجال الحياة اما في مجال النور الذي يسطع من آيات القرآن ليبعث على الهداية و الصلاح؛ فقد أصبح الأمر عكسياً، فالظلام هو الذي عمّهم والموت هو الذي شملهم. فقد وصفهم القرآن بقوله (يُخرِجونَهم من النور إلى الظلمات…)[34]، بعد ان أخرجهم القرآن من الظلمات إلى النور.
اما عن السلام الذي هو امنية الإنسان فقد تبدّلت وتحوّلت حياتهم إلى ضنك في ضنك: (وَمنْ أعرضَ عن ذكري فانَّ له معيشةً ضنكا...)[35].
هذا هو حال المسلمين اليوم، حياة تحتضر، وظلام دامس، واضطراب وضنك، فإذا أردنا الحياة السعيدة ذات العزة والشرف والكرامة وإذا أردنا ان يرفرف السلام فوق رؤوسنا، فلابدّ ان نعود إلى كتاب الله، وبالأخص في هذا الشهر المبارك، لابدّ ان نقرّر العودة إلى القرآن عندما نجلس بين يدي الرحمن ونقرأ آياته.
علينا ان لا نكتفي بالقراءة فقط ـ بالرغم ما لقراءة القرآن من ثواب وأجر لا يعادله شيء ـ فإنّ القراءة وحدها (كرامٍ بلا وتر) كما ورد في الحديث الشريف.
اما عندما يكون عمل الإنسان مناقضاً لما يقرأه من الآيات:
يقرأ آية الاخوة: (إنّما المؤمنونَ اخوةٌ...)[36] وهو يعمل على تفريق صف المسلمين.
يقرأ آية الحرية: (وَيَضعُ عنهم اصرَهم والاغلالَ التي كانت عليهم)[37] وهو يعمل على تركيز الاستبداد وهكذا وهلم جرا..
فانه سينطبق علينا قول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) (ربّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه).
وقد قال تعالى: (قُل هو للَّذينَ آمَنوا هُدىً وشفاءٌ والذين لا يؤمنون في آذانهم وقرٌ وهو عليهم عمى)[38].
والقرآن مثله مثل كل ما أنعم الله على الإنسان من خيرات، فإذا لم يستفد منها بل عمل على العكس منها كانت عليه نقمة أرأيت كيف يتحوّل النفط الذي اسداه الله نعمة للإنسان إلى بلاء على الانسان، يحرقه ويدمّر حياته عندما يحاول ان يعبث به ولا يحسن استخدامه.
فمن الضروري ان نجدد عهدنا بالقرآن العملي بعد القرآن العلمي، لعلّ الله يخلصنا من هذه الهوة السحيفة التي سقطنا فيها يوم تركنا القرآن كمنهج للحياة.
3 ـ التفقّه
لابدّ من دراسة الفقه، دراسة تشمل صنوف الناس، فان للفقه عرضاً عريضاً، حتى ان المظنون (في الفقه) يحتوي على نصف مليون مسألة شرعية، ومن الواضح ان المسائل أكثر من ذلك[39].
نضرب مثالاً على ذلك: ان أحد الأصحاب سأل الامام الصادق(عليه السلام) عن مسائل الحج أربعين عاماً ولم تنته هذه المسائل.
فسأل الامام في تعجب: اني اسألك عن مسائل الحج مدة أربعين عاماً و انت تجيبني.
فأجابه الامام(عليه السلام): (بيت حجّ إليه قبل آدم بألفي عام تريد تفنى مسائله في أربعين عاماً)[40].
ولا عجب من ذلك فان سعة الحياة، وسعة ما خلق الله من البشر ومن الاحياء، وسعة ما في هذا الوجود من تنوع، هو السبب وراء هذه المسائل الكثيرة[41].
وكثرة التفريعات في التشريع هو من مصلحة الإنسان حيث سيكون محاطاً بالاحكام ولن يكون متحيراً من أمره عندما يُبتلى بمسألة شرعية. فلابدّ لكل مسلم ان يطّلع على أحكام دينه. ولما لم يكن بمقدوره الاحاطة بجميع الاحكام فيكفي ان يتعلم المسلم المسائل التي يُبتلى بها في حياته العملية وسبيله في ذلك هو حضور الهيئات التي تقام في هذا الشهر الكريم، والتي تقدّم بالاضافة إلى تعليم القرآن تعليم المسائل الشرعية.
كما يجب على الخطباء والوعاظ وأئمة المساجد ان ينتهزوا فرصة شهر رمضان المبارك وإقبال الناس نحو المساجد إلى شرح الاحكام الشرعية بقدر المستطاع، فأكثر الخلل الذي نشاهده في المجتمعات الإسلامية منشأه عدم التزام المسلمين بالأحكام الشرعية، فلابدّ من سدّ الفُرج الناشئة من هذا الخلل.
وشهر رمضان هو المناسبة الجيدة لتعميم هذه القضية وجعلها مسألة ملحة عند عامة الناس، وجعلها مسؤولية أئمة المساجد والخطباء والمبلّغين الذين عليهم ان يخصصوا وقتاً معيناً في برنامجهم خلال هذا الشهر المبارك لتعليم الاحكام الشرعية.
وبهذه الوسيلة ستعمّ دراسة الفقه وتصبح من الامور المألوفة في المجتمع كتعلم قراءة القرآن وما أشبه.
4 ـ الآيات المنسية
نظرة واحدة إلى واقع المسلمين تكشف لنا عن الخلل الكبير الذي يُعاني منه المسلمون في حياتهم السياسية و الاجتماعية والاقتصادية، ويعود السبب الأكبر إلى تجزئة القرآن الكريم في التطبيق، فهناك آيات أخذ بها المسلمون وآيات اخرى تركوها وراء ظهورهم، وسوف يسألون عن ذلك، قال تعالى: (كما أنزلنا على المقتسمين ــ الذين جعلوا القرآن عِضِين ــ فَوَرَبَّك لَنَسئلنَّهم أجمعين ــ عمّا كانوا يعملون)[42].
وأي سؤال صعب سيكون امام اولئك الذين أخذوا جزءً من القرآن وتركوا جزءً آخر؟
فماذا أعدّوا من الأجوبة لو سئلوا عن آياتٍ تركوها وراءهم. ومن هذه الآيات:
أ ـ آية الشورى: (والذين استجابُوا لِربّهم وأقاموا الصلاَة وَ أمرهُم شُورَى بينَهُم وَ ممَّا رزقناهم يُنفقون)[43]
فقد جعل الله الشورى بين الصلاة و الانفاق، والصلاة هي ركن العبادة وعمود الدين، وهي السبيل لبناء الشخصية الإسلامية. اما الانفاق فهو السبيل لتقدم المجتمع واقامة نظام اقتصادي اساسه العدل.
وبين الواجبين ـ واجب الصلاة وواجب الانفاق ـ هناك واجب ثالث هو الشورى.
والشورى قاعدة في نظام الحكم وفي النظام الاجتماعي، وبدونه لا يقوم للمجتمع قائمة.
والشورى حلقةٌ بين حلقتين لا يُبنى المجتمع الإسلامي الاّ بهما؛ وللمجتمع ثلاثة أبعاد، بعدٌ روحي يتحقق من خلال العبادة، وبعدٌ سياسي يتحقق من خلال الشورى، وبعدٌ اجتماعي يتحقق من خلال الانفاق.
ب ـ ومن الآيات المنسية آية الحرية: (وَ يضَعُ عَنهم إصرَهم والاغلال التي كانت عليهم)[44]، الحرية في كل شيء الاّ المحرمات، ومن مصاديق الحرية: حرية تكوين الاحزاب، واقامة المؤسسات الدستورية، وسنّ القوانين المتناسبة مع اهداف المجتمع الإسلامي. وحرية التجارة وحرية ممارسة الأنشطة الاقتصادية المختلفة من زراعة وصناعة وعمارة وطبع ونشر، واستفادة من المباحات أرضاً كانت أو غيرها...
كذلك الحريات الشخصية التي لا تتعارض مع الاحكام الشرعية كحرية السفر والاقامة والعمل، وقد فصّلنا ذلك في بعض كتبنا[45].
ج ـ ومن الآيات المنسية آية السعي: (وأن ليس للانسانِ الاّ ما سعى ــ وَأنَّ سعيَهُ سوفَ يُرى)[46].
فلابد ان يكون اهتمام كل إنسان بالانتاج؛ الفلاح في مزرعته يفكر بالانتاج في الجانبين الكم والكيف والعامل في مصنعه يفكر بالنتاج في الكم والكيف. وهكذا كل إنسان يعيش في المجتمع الإسلامي رائده الأول هو الانتاج، وعندما يزداد الانتاج ينتعش المجتمع، وعندما يتحسن الانتاج يحصل الاكتفاء الذاتي، و الحصيلة هي التقدم في كل المناحي وعدم الاحتياج إلى الأجانب.
د ـ ومن الآيات المنسية آية الأُمة الواحدة: (إنَّ هذهِ أُمّتُكُم أُمّةً واحدةً)[47] حيث لا حدود جغرافية بين بلاد المسلمين.
ه ـ ومن الآيات المنسية آية عدم الضريبة الاّ الأربع ـ وهي الخمس والزكاة والجزية والخراج، حيث قال سبحانه: (فَلَكُم رؤوسُ أموالِكم لا تَظلِمونَ وَلا تُظلَمونَ)[48].
و ـ ومن الآيات المنسية آية (خَلقَ لكم ما في الأرضِ جميعاً)[49] حيث تفيد ان: (الأرض لله ولمن عمّرها)[50] وتفيد: (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له)[51].
وبسبب تناسي هذه الآيات تراجع المجتمع بدل ان يتقدم، وانفضّ بعض المسلمين عن الإسلام ولم يرغب غير المسلمين في دخول الإسلام.
فسادَ الاستبداد عندما ترك المسلمون الشورى، وشلّ المجتمع عندما ترك المسلمون العمل بالحريات المتاحة لهم، وانخفضت انتاجية المجتمع عندما ترك المسلمون السعي، وتشتت المسلمون تمزقوا عندما قطعت بلادهم، واضحوا في ضنك عندما تركوا قانون (لكم)[52].
وشهر رمضان هو شهر القرآن.. القرآن كلّه، وليس جزءً من القرآن، فلابدّ من العودة إلى تلك الآيات المنسية، ولابدّ من العمل، وادراك خطورة تركها وراء الظهور.
5 ـ دراسة التاريخ
الإنسان ماضٍ وحاضر ومستقبل.
ولا حاضر بدون الماضي ولا مستقبل بدون الحاضر.
والتاريخ هو الماضي، وهو الوعاء الذي يخزن تجارب الامم والدول. من هنا جاءت أهمية دراسة التاريخ باعتباره دراسة لتجارب الامم و الشعوب.
والحياة ليست بتلك السعة التي يستطيع الإنسان فيها ان يكرر التجارب الفاشلة.
والعمر ليس بذلك العمر المديد بحيث يكون بمقدور الإنسان ان يعيد تجارب الماضين.
من هنا كان لابدّ من الاقتداء بالآخرين الصالحين وأخذ العِبر من تجاربهم والاستفادة من نتائج أعمالهم.
وفي شهر رمضان يحسن بالإنسان المسلم ان يدرس التاريخ ليطّلع على حياة الاُمم والحضارات ويتفهم حياة العظماء والمصلحين الذين جاءوا إلى هذه الدنيا.
في شهر رمضان يتعطش المرء لدراسة السيرة النبوية ليعرف تاريخ المسلمين الأوائل، وكيف استطاعت الفئة القليلة من المسلمين ان تصنع امّة مترامية الأطراف.
ان تأثير الفكرة التي صدع بها الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) كتأثير الحجر عندما يُرمى في وسط الماء، فانه يأخذ بالتموّج ويستمر هذا التموّج بقدر حجم الحجر، وشدة الرمية.
لقد استمرت الفكرة التي طرحها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تتموّج وظلّت تبعث الموج بعد الموج على مدار الزمن، ومع كل موج كانت أجيال جديدة تدخل الاسلام[53] وهي تتحول إلى واسطة لنقل الفضيلة والقيم الإسلامية إلى الأجيال الآتية.
وظلت هذا الحالة هي السائدة ـ إلى حدّ ما ـ حتى قبل قرن من الزمن حيث توقفت نتيجة الغزو الاستعماري ـ عسكرياً وفكرياً ـ للبلاد الإسلامية، لتقوم مكانه زعامات موالية للغرب على البلاد الإسلامية وانتشار الافكار المغلوطة والهدامة، اضافة إلى فهم الإسلام بالمقلوب.
وإذا ما تمعنّا في أسلوب انتشار الإسلام سنلاحظ بالتأكيد انه لم ينتشر بالقوة والاستعمار والاستغلال، بل بالارشاد و الاقناع و التأثر بالفكرة والسلوك و(ادعُ إلى سبيل ربِّكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة)[54] و(كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم)[55].
فالفكرة هي القادرة على بعث الموج وليس السيف[56].
وهذه فكرة هامة نستنتجها من قراءة التاريخ خصوصاً في أيام شهر رمضان، وإذا ما أردنا العودة إلى قوة الإسلام ومنعته، لابدّ وان نأخذ بأسباب القوة.
وإذا أردنا ان نخرج من دائرة الانحسار وننطلق في الميادين العمل المنتج لابدّ وان نبدأ من حيث بدأ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد بدأ بالفكرة وليس بالسيف.
وهذا هو الطريق الذي يجب ان يسلكه المسلمون، فعليهم ان يوحدوا صفوفهم وينظّموا طاقاتهم وينبذوا العنف ويحملوا الفكر الذي حمله رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى العالم وينشروه بالحكمة والموعظة الحسنة.
وبذلك ستتغيّر المعادلة، سيدخل الناس في دين الله افواجاً بعد ان خرجوا منه، وما ذلك على الله بعزيز.
قال أمير المؤمنين(عليه السلام) ما مضمونه: (ان المسلمين يتركون العمل بالقرآن فيتركهم الله ثم يرجعون إلى القرآن فيرجع الله إليهم بعطفه ولطفه).
6 ـ تطبيق الاحكام
ثلاثون يوماً كافية لتدريب المسلم على التقيّد بالاحكام الشرعية، فإذا ما قرر الإنسان المسلم ان يجبر نفسه على الالتزام بما يُملي عليه دينه فيعمل الواجبات وينبذ المحرمات كان تدريباً حسناً؛ وشهر رمضان هو أفضل مناسبة لهذا التدريب حتى يخرج الإنسان المسلم من هذه الجولة وقد اعتاد على التقيّد بالاحكام الإسلامية.
فمن البرامج التي يستطيع المسلم القيام بها في شهر رمضان اداء ما عليه من الصلاة الفائتة ـ لمعصية أو لغير معصية كالنوم والغفلة ـ.
كذلك يقوم باداء بقية الواجبات المطلوبة منه، فإذا كان عليه صوم قضاء يبني على قضاء صيامه الفائت بعد شهر رمضان، فان البناء على اتيان الواجبات لازم، وان يبني على اتيانه بالحج الواجب عليه، وإذا كان عليه دين فيجب ان يسرع في دفعه على عجل، وإذا كان عليه خمس أو حق شرعي من الحقوق عليه ان يسرع في اعادتها إلى اصحابها المستحقين.
وفي مجال ترك المحرمات يجب على المسلم ان يدرّب نفسه في شهر رمضان على ترك المعاصي، فإذا كان مدمناً على الخمور ـ لا سمح الله ـ عليه ان يقرر التخلص من هذه العادة الذميمة.
وإذا كان مُرابياً، عليه ان يطهّر امواله من مال الحرام و ان يطهّر نفسه من أكل الحرام ثم يقرر ان يترك الربا، ويستثمر أمواله في الخير، وإذا كان مقامراً، عليه ان يعود إلى رشده في هذا الشهر الكريم و ان يترك هذا العمل تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، حتى لا يبقى عليه واجب لم يقم به، أو إذا ظلّ يعمل بالمحرمات ولم ينته منها فان صومه لا ينفعه ولا يقبل منه ـ وان كان مسقطاً للتكليف ـ على ما قررته الآيات والروايات، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (انّما يَتَقبَّلُ اللهُ مِن المتَّقين)[57].
ومن الوهم ان يعتقد الإنسان انهُ سيدخل الجنة ببعض الواجبات وانه سينال غفران الله على كثرة عصيانه لله تعالى، فالعاصي سينال عقاب عصيانه[58].
ومن الغرور ان يعتقد الإنسان بأنه من أهل الجنة وهو يرتكب المنكرات[59]، وقد قال تعالى : (فلا تغُرَّنكم الحياةُ الدنيا ولا يغُرنكم بالله الغرور)[60].
صحيح ان الله قادر على كل شيء وانه قد يغفر له نتيجة عمل واحد قام به في الدنيا كمساعدة إنسان محتاج، لكن لا يمكن الاعتماد على ذلك وترك الأحكام الشرعية.
فمثل هذا الإنسان مثل ذلك الرجل الذي يذهب إلى ميدان السباع على أمل ان يجد هناك من يستطيع ان يدفع عنه أذى هذه السباع.
فعلى الإنسان المسلم ان يكمل نفسه كما أراده الله سبحانه و ان لا يبقّي على نفس أية نقيصة من عبادة أو دين أو معاملة، فالجنة للمؤمنين الذين اقترن ايمانهم بالعمل الصالح وبالاخلاص ولم يتركوا واجباً ولم يصرّوا على ارتكاب المعاصي.
7 ـ التمسك بالاخلاق الفاضلة
كما ان المسلم يُلزم نفسه خلال شهر رمضان المبارك بالتقيّد بالاحكام الشرعية، يُلزم نفسه أيضاً بالتقيّد بالاخلاق الفاضلة، فالصوم ليس عن الأكل والشرب بل عن كل ما يخدش شخصية الصائم، من كلمة نابية يطلقها على صديق له أو على زوجته أو من فعل نابٍ يرتكبه بحق قريب له أو بحق المجتمع على العموم.
ان شهر رمضان فرصة للتدريب على الاخلاق الحميدة ونبذ الرذائل، والمراد بالاخلاق أعمّ من الاخلاق الواجبة كالصدق والامانة والوفاء بالعهد وما أشبه ذلك، أو الاخلاق المستحبة كإطعام المساكين والسلام على الناس والبُشر في وجوههم.
ولا يخفى ان هناك فرقاً بين الوعد والعهد.
فالعهد يتم من جانبين، وهو عقدٌ من العقود قال سبحانه: (وَاوفوا بِالعهدِ إنَّ العهدَ كانَ مسؤولا)[61].
اما الوعد فهو من الايقاع وان كان ـ أحياناً ـ يطلق أحدهما على الآخر.
ومن الخطأ ان يكفر سيء الخُلق بأنه يستطيع في أيّة لحظة ان يُحسّن أخلاقه إذا اراد ذلك!!
فمن شبّ على شيء شاب عليه، فان الاخلاق السيئة التي تتكرر عدة مرات تتحول على عادة وتتأصل في النفس فيصبح من الصعب جداً قلعها الاّ بعد جهدٍ ورياضة نفسية عالية.
والاسلوب الأمثل للتخلص من الصفات الذميمة والاخلاق السيئة ما يلي:
1 ـ التذكر الدائم بنتائج الاخلاق الحميدة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يكون صاحب الاخلاق انساناً محترماً ناجحاً في المجتمع، محبوباً لدى الناس، وفي الآخرة يكون مصيره الجنة حيث الخلود والراحة الأبدية، اما صاحب الاخلاق السيئة فيكون على العكس ينفر منه الناس ويبتعدون عنه، ويفشل في كل خطوة يخطوها داخل المجتمع، وفي الآخرة يكون مصيره نار جهنم حيث العذاب الأبدي.
2 ـ مطالعة قصص ذوي الاخلاق الحميدة الذين نجحوا في الحياة بسبب اخلاقهم، ومطالعة من هم على العكس ممّن أخفقوا في حياتهم بسبب أخلاقهم السيئة.
3 ـ الايحاء الدائم بانه يريد ان يكون انساناً خلوقاً وانه يريد نبذ الاخلاق السيئة.
فللايحاء دورٌ كبير في ربط الإنسان المسلم بالاخلاق الفاضلة والقيم النبيلة.
4 ـ معايشة ذوي الاخلاق الحميدة وعدم التقرّب من ذوي الاخلاق السيئة.
وقد قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقال آخر:
فالنفس آخذةٌ مما تمرُّ به
نتناً من النتن أو طيباً من الطيب
وخلاصة القول: ان العمل على تحسين الاخلاق هو نوع من الجهاد، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه عند عودته من غزوة تبوك: (مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس)[62].
وفي حديث آخر: (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)[63]، وغير ذلك من الروايات والأحاديث.
ونقطة أخيرة أوصي بها الاخوة الكرام وهي ان يطالعوا كتب الاخلاق من امثال (جامع السعادات) وكتاب (مكارم الاخلاق) لأن هذه الكتب تصنع جواً مناسباً فتسهل للإنسان المسلم عملية تغيير سلوكه وخلاقه إلى الأحسن.
الفصل الثالث ـ المسؤوليات التبليغية
1ـ رحلات التبليغ
من عوامل انتشار الإسلام الرحلات التي كان يقوم بها المسلمون من مختلف الاجناس ولمختلف الاعمال.. فقد كان المسلم يرى انه مسؤول عن نشر دينه قبل أية مسؤولية اخرى، حتى التجّار كانوا يستغلون رحلاتهم التجارية في الدعوة لدين الله، وحتى أولئك الذين كانوا يذهبون للاصطياف أو الاستجمام كان عملهم الأول هو الدعوة للاسلام.
فقد كانت الظروف السياسية يومذاك تساعد المسلم على القيام بالرحلات الطويلة فلم تكن هناك حدود مصطنعة ولا سدود وحواجز مانعة، ولم تكن هناك هويات ولا جوازات وما أشبه ذلك، فقد كان المسلم يتمتع بكامل حريته ـ التي منحها الإسلام إياه ـ في الحركة والسفر والإقامة في بلاد الإسلام وغيرها، وكان المبلّغون ينطلقون حيث شاءوا إلى أي مكان ويقيمون في أيّة مدة ويعيشون كما يشاءون.
اما بعد كبت الحريات والابتعاد عن تطبيق احكام الله وقوانينه فقد أصبح من العسير جداً القيام بهذه الرحلات التبليغية، والتي انتشر الإسلام من خلالها في العهود السابقة، ومع جمود المسلمين وتضاعف الاجور، وتفاقم المشكلات المعيشية أصبح السفر معها أمراً عسيراً جداً بل ومحالاً في بعض الاحيان.
لذا أصبح من العسير ان يقوم المسلم بمفرده بتوفير مستلزمات السفر التبليغي الاّ ان تقوم هيئات من الخيّرين وتتحمل مسؤولية هذا العمل. و(شهر رمضانَ الذي أُنزلَ فيهِ القرآنُ هدىً للناسِ وبيناتٍ مِنَ الهدى والفرقان)[64] لابد فيه من وجود اشخاص ـ يتحملون ـ مسؤولية هداية الناس، ويظهرون لهم البينات من الهدى والفرقان.
اذاً هذه المسؤولية اُخرى يتحملها المسلم بالاضافة إلى العبادات التي يؤديها في هذا الشهر المبارك.
فمن يا ترى سيكون صاحب هذه المسؤولية؟
أليست هذه الأمة بأجمعها تتحمّلها؟
فالذي يستطيع السفر للتبليغ يجب عليه ذلك، والذي لا يستطيع السفر يجب عليه ان يدفع ما يستطيع من المال ليساهم بقسط من امكاناته في تحريك عملية التبليغ وقد قال تعالى:
(وما كان المؤمنونَ لِيَنفروا كافَّة فلولا نَفَرَ مِن كُلِّ فرقةٍ منهم طائفةٌ لِيَتَفَقَّهوا في الدين لِيُنذِروا قومَهم إذا رّجعوا إليهم لعلّهم يَحذَرون)[65]، فالتبليغ بالرسالة مسؤولية اسلامية إنسانية وهو واجب كفائي، فيجب التعاون والمساعدة في تحقيقه.
والتبليغ نفس يحلّ معضلة المبلِّغين، ففي أحيان كثيرة يعود المبلِّغ ومعه ثلّة من المتطوعين الراغبين في ممارسة هذه المسؤولية وهم الناذرون أنفسهم لله، وهذه فائدة اخرى من فوائد التبليغ.
2 ـ استخدام الوسائل الحديثة في التبليغ
كل شيء في هذه الحياة في حالة تطور، تطور في الكم والكيف، ففي السابق كانت رحلة الحج تستغرق أشهراً من المشقة والتعب، اما اليوم فهي لا تستغرق أكثر من سويعات، وحكم التطور يجري على كل الوسائل المادية التي يمتلكها الإنسان في هذه الحياة، ومن هذه الوسائل سبل التبليغ والهداية والرشاد، فبينما كانت الوسيلة التي يمتلكها الإنسان في القديم عندما يريد التبليغ هي الحنجرة، أصبح اليوم وهو يمتلك وسائل كثيرة من الكتاب والمجلة والجريدة والاذاعة والتلفزيون والفيديو والاقمار الصناعية والكمبيوتر والفاكس وما أشبه ذلك.
فلابدّ للمبلِّغ ان يستفيد من جميع هذه الوسائل و ان لا يبقى جامداً عند الوسائل القديمة، فالجمود يعني الموت والفشل في الحياة، ويمتلك المسلمون العلماء و الخطباء والمثقفين والاموال للحصول على هذه الوسائل، فلم يبق الاّ الربط بينها، فإذا كان المسلم يريد الثواب من اقامة منبر الوعظ والارشاد فباستطاعته ان يستبدل محطة الارسال من راديو وتلفزيون عوضاً عن ذلك بحكم تطور وسائل الحياة، وقد قال تعالى: (وَأعدّوا لهم ما استطعتُم من قوة)[66]، فلابد ان يستفيد الإنسان المسلم من اسباب القوة في نشر الفضائل والقيم الإسلامية.
وشهر رمضان خير مناسبة للاهتمام بهذا الأمر، فالذين كانوا يساهمون معاً لاقامة المجلس الحسيني في الحسينية أو المسجد بمقدورهم اليوم ان يوسعوا من دائرة عملهم ليساهموا معاً في شراء محطة للراديو حيث اصبحت في متناول مَنْ يريد في الكثير من بلدان العالم، بالاضافة إلى اقامة مجلسهم في الحسينية لانهم سيحققون فوائد اخرى من اقامة هذا المجلس في منطقتهم.. مع وجود فارق كبير.
فالخطيب الذي يرتقي المنبر في الحسينية ويستخدم مكبرات الصوت لا يستطيع ان يوصل صوته الاّ إلى جماعة محدودة لا تتعدى الآلاف، اما إذا تغيّرت الوسيلة إلى ما هو أفضل من مكبرات الصوت فانه حينذاك سيوصل صوته إلى الملايين من البشر، فإذا أردنا التقدم والازدهار لابد لنا من تطوير وسائل التبليغ، وهذا أحد أسرار تقدم الغرب الذي استطاع ان يهيمن على العالم من خلال وسائل التبليغ[67] مستخدماً الاقمار الصناعية في ايصال افكارهم بالصورة والصوت إلى جميع انحاء العالم.
وقد تناسى المسلمون؛ كيف ان دينهم هو دين الحضارة والعلم، وأول كلمة نزلت على نبيّهم(صلى الله عليه وآله وسلم) هي كلمة: (اقرأ) وان أولى الكلمات التي نزلت بعد (اقرأ) هي: (الرب، العلم، الإنسان، القلم) (اقرأ وربُّك الأكرم ــ الذي علّمَ بالقلم ــ علّمَ الانسانَ ما لم يعلَم)[68].
فهل هناك عامل أقوى من هذه الآية في استثارة همم المسلمين للأخذ بتلابيب العلم والاستفادة من الوسائل الحضارية في تقديم الحياة.
اذاً لابدّ من العمل على توفير وسائل التبليغ لتكون في متناول أيدي المبلّغين[69].
ولابدّ من توفير كل الوسائل التي يستطيع المسلمون من خلالها معرفة حقائق دينهم ودنياهم من كتاب وجريدة ومجلة واذاعة اسلامية وتلفزيون اسلامي، وهكذا كل الوسائل الممكنة والتي يمكن استثمارها في مجال الخير.
اتباع شورى الفقهاء المراجع
من مشاكل المسلمين في الحال الحاضر انفراد المراجع في العمل ـ على رغم اخلاصهم وصدقهم وتفانيهم في سبيل الحق والهداية ـ وانما هي مشكلة الدنيا الحاضرة، ففي السابق كانت الدنيا انفرادية حيث اعتاد الناس على العمل الفردي والتفكير والتخطيط والتنفيذ الانفرادي فلم يكن بأس بالانفرادية في الجانب المرجعي، اما اليوم وقد نظمت كل الفئات جهودها وامكاناتها، يهودية كانت أو نصرانية أو غيرهما من الأديان والمذاهب التي لها أصل سماوي أو لا أصل سماوي لها.
والعمل الذي يقوم به الإنسان على انفراد مهما كان ناجحاً وجيداً الاّ انه لا يتمتع بتلك الجودة إذا لم يكن متكاملاً مع الاعمال الاخرى.
من هنا كانت مسؤولية المراجع (حفظهم الله تعالى) هي توحيد طاقات العمل وصبّها فيما هو خير وصلاح للامة، حتى تأخذ الامة عدّها التصاعدي بعد سقوط دام عقوداً من الزمن.
وعندما ننظر إلى الامم التي صعدت في سلّم الحياة لم نرَ ذلك إلاّ نابعاً من عامل التنظيم للطاقات، فاليهودية والنصرانية وغيرهما تقدّموا لأنّهم وحّدوا صفوفهم وجمعوا طاقاتهم وتعاونوا فيما بينهم.
فالحاخام اليهودي الذي يعيش في مجاهل افريقيا يمدّ يد التعاون إلى الحاخام الثاني الذي يعيش في اقاصي أمريكا اللاتينية، وانهم محترمون لا يُهانون، ونفس الشيء نجده عند المسيحيين فان أول أمر قام الغرب بتنظيمه هو تنظيم القيادة الدينية لديهم.
ان المرجعية الشيعية تختلف عن الزعامة الروحية في الفاتيكان وبالتالي فهي تختلف في طريقة التدرّج واختيار اعضاء المجالس وغيرها.
لكن مسألة التنظيم كأمر اسلامي مسلّم به، فقد ورد في وصية الامام أمير المؤمنين(عليه السلام): (الله الله في نظم أمركم)[70].
اما عن الشورى فقد وردت عدة نصوص منها: (وَأمرهم شُورى بينهُم)[71]، وأمرهم هو شأنهم وهو كل ما يتعلق بأمور المسلمين.
وفي آية اخرى: (وَلتكُن منكُم أُمَة...)[72].
وكلمة (امة) تعني جماعة لها هدف معين، أي جماعة منظمة تنظيماً دقيقاً[73].
وبالجمع بين أدلة الشورى وأدلة الأمّة نجد من الضروري جداً اقامة مجالس للشورى ابتداءً من المراجع وانتهاءً بعامة الناس، أو ان يُستبدل مجالس الناس بمجلس واحد يضم ممثلين منتخبين عن الناس، فان المجلس الواحد صحيح، والمجالس لكل من أراد ايضاً صحيحة.
ان الانفرادية في المرجعية هي سبب تغلب الغرب علينا ليس دينياً فقط بل ودنيوياً، فأصبح العلماء والمراجع يتعرضون للاعتقال والتعذيب والقتل ومصادرة الأموال و... ولا من منقذ ولا من مجير الاّ الله سبحانه وتعالى. وروسيا الشيوعية والبهلوية في ايران، والجمهورية في العراق، والاتاتوركية في تركيا خير شاهد على ذلك. وشهر رمضان خير مناسبة للتفكير بهذا الأمر والدعوة إليه باعتباره السبيل إلى التقدم و الانتصار على المشكلات.
الفصل الرابع ـ المهام الاجتماعية
1ـ الزيارات
من الضروري على كل صائم في هذا الشهر الكريم ان يضع لنفسه برنامجاً لزيارات العتبات المقدسة ـ معصومين كانوا أو علماء أو صلحاء[74] ـ ولتفقد ذوي الأرحام، فهذه الزيارات من أفضل الأعمال. وهناك متسعٌ من الوقت لأداء الاعمال الاخرى.
كنّا في العراق وقبل ان يشتدّ عليه الحكم الديكتاتوري ـ نقوم في شهر رمضان المبارك بالزيارات بعد الافطار مباشرة، وفي أغلب الليالي كنّا نخرج من مدينة كربلاء المقدسة للقيام بزيارة إلى النجف الاشرف أو الكاظمين (عليهما السلام) أو سامراء، وكانت تتخلل زيارة العتبات المقدسة زيارة لبعض المؤمنين من الأرحام والأصدقاء، فزيارة الأرحام مندوبة في هذا الشهر المبارك لانها تزيد المحبة وتطفئ الضغائن، كما ان زيارة المشاهد المقدسة فيها عظة وعبرة.
فإذا كان أصحاب هذه المشاهد من الشهداء فانه بعمله هذا يعظّم الشهادة كقيمة في الحياة لا تساويها أيّة قيمة إذا كانت الشهادة من أجل الله وفي سبيل دين الله.
وإذا كان أصحاب هذه المشاهد هم علماء فانه بعمله هذا سيعظّم العلم وأهله وانه سيكون مثار سؤال وجواب، سؤال عن قيمة العلم وأهميته في الحياة.
سؤال عن تاريخ هذا العالِم وكيف بلغ هذه المرتبة السامية من القدسية؟ سؤال عن تاريخ هذا العالم الجليل الذي نزور قبره؟ وهل لهُ مؤلفات؟ فيحاول ان يحصل على كتبه ليتعرف من خلالها على آرائه وأفكاره.
الزيارات هي محطات يتزود فيها الصائم العلم والقيم، وتتوحد عبرها العلاقات الاجتماعية فتمهد الطريق لإقامة المجتمع الإسلامي القائم على العدل والصدق والوفاء.
ويوم تسقط فيه الحواجز الجغرافية ويرجع المسلمون إلى امتهم الواحدة باذن الله تعالى يكون السبيل إلى توسّع دائرة الزيارات أرفق، حينها سيسافر المسلمون بين البلاد الاسلامية، ولن تقتصر الزيارات على المدن القريبة، وليس من المستبعد ان تتطور وسائل النقل لتختصر المسافة بشكل أكبر من السابق فيسهل تنظيم سفرات لأماكن بعيدة ـ مثلاً قيام سفرات ليلية في ليالي شهر رمضان بين ايران و العراق و الحجاز أو العكس، فكلما اقتربت المسافات اقترب ابناء الامة بعضهم من البعض الآخر واصبحوا أقدر على حلّ مشاكلهم وأقدر على دفع عجلة المجتمع إلى الامام.
2 ـ اغناء الفقراء
يقول المثل: اعط الصياد ديناراً تعطه غذاء يومه، واعطه شبكة تعطه غذاء العمر.
ويتطابق هذا المثل مع واقع الآلاف من العاطلين عن العمل، فمرّة نقدّم لهؤلاء العاطلين وجبة طعام تكفيهم لفترة من الوقت أو نقدّم لهم مبلغاً من المال يكفيهم ليوم واحد أو أيام.
ومرة أخرى نقدم لهم ما يستطيعون به اشباع أنفسهم طيلة العمر، وذلك بأن تعطيهم رأس المال الذي يستطيعون بواسطته تأسيس محل صغير، أو ان نطلب منهم المشاركة في دورة تأهيلية تمكّنهم من العمل في مهنة شريفة.
أو ان نشتري لهم ماكنة خياطة أو ماكنة تطريز ليقوموا بالعمل بأنفسهم.
ان نسبة كبيرة جداً من الشباب في البلاد الإسلامية يعانون من البطالة أو من البطالة المقنَّعة. فكان لابدّ من التفكير بهؤلاء لأنهم أولاً طاقة تُهدر بلا مبرر وثانياً ان البطالة مفسدة وقد تسبب في انحراف المجتمع وثالثاً يمكن ان نقدم هذه الطاقات لو استثمرت، الكثير من الفوائد المرجوة للبلاد الإسلامية.
ولحل معضلة البطالة في العالم الإسلامي نقترح تحديد الاسبوع باسم اسبوع العمل وهو شبيه لأسبوع الشهداء أو اسبوع النظافة أو اسبوع الصحة، الغاية من تحديد هذا الاسبوع هو لفت الانظار إلى المشاكل التي تواجه المجتمع من خلال ظاهرة البطالة وطرح السبل الكفيلة بحل هذه المعضلة، فلابد ان تشكل لجان لهذه الغاية، لجان تقوم بأعمال التوعية لحث العاطلين عن العمل، وحثّ ارباب العمل على توفير مستلزمات العمل لهؤلاء العاطلين.
ولجان اخرى تقوم بتوفير السيولة المطلوبة والرأسمال المطلوب والضروري لتفوير الأنشطة الاقتصادية لهؤلاء العاطلين.
ولدان اخرى تقوم بتوفير أماكن العمل من مصانع ومتاجر يجد فيها العاطل عن العمل مناله الذي يطمح إليه، وبهذه الطريقة يمكن لهذه اللجان ان تنقذ ملايين العوائل من مشاكل اقتصادية واجتماعية حادة.
هذا هو العلاج المؤقت للمشكلة، اما العلاج الجذري لمشكلة الفقر فيمكن تلخيصها في أمرين:
الأول: العدالة في توزيع الثروة.
الثاني: تحطيم القوانين الكابتة للحريات، وازالة المعوقات عن طريق النشاط الاقتصادي.
واني اتذكر قبل خمسين عاماً في العراق حث لم تكن قوانين الكبت والارهاب منتشرة هذا الانتشار الفظيع ـ كيف كان كل إنسان يجد فرصة للعمل دون معوّق ومانع.
فالأرض لمن أحياها دون ضريبة يدفعها ودون أي قانون وضعي يمنعه عن استثمارها في الزراعة أو البناء والاعمار.
فقد كانت قوانين الله جارية على قدم وساق.
قانون: (الأرض لله ولمن عمرها).
وقانون: (من سبق إلى ما لم يسبق إليه احد فهو له).
وقانون: (احل لكم ما في الأرض جميعا).
وقانون: (الناس مسلطون على أموالهم).
وقانون: (انما المؤمنون اخوة).
وقانون: (وتعاونوا على البرّ والتقوى).
وقانون: (كلكم لآدم وآدم من تُراب)، وقانون.. وقانون..
وبسبب تطبيق هذه القوانين لم نكن نجد انساناً بلا عمل أو عائلة بلا مسكن، ويندر ان نجد في طول البلاد وعرضها فقيراً واحداً يتكفف، فحتى المعتوهون كانوا يجدون فرصتهم للعمل[75].
اما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد جاء إلى حكم البلاد الإسلامية عملاء للغرب والشرق أخذوا يطبقون القوانين المخالفة للشريعة والكابحة لأنشطة المجتمع و طاقاته.
لقد غيّر هؤلاء الحكّام القوانين من قوانين الهية إلى قوانين شيطانية، وبسبب هذه القوانين أصبح ثلاثة ارباع الشعب العراقي ـ مثلاً ـ يعاني الفقر والفاقة والحرمان، علماً بأنه من أغنى البلدان ومن أكثر مناطق العالم ثراء بالأرض والماء والأيدي العاملة.
3 ـ تزويج العزّاب
من الاعمال الموجبة للرحمة في هذا الشهر المبارك تزويج العزّاب والعازبات، فالعزوبة ـ بالمعنى اللغوي الشامل لمن لا زوج أو لا زوجة له اما اصلاً أو بسبب طلاق أو موت أو فسخ ـ هي مشكلة اجتماعية لابدّ من مكافحتها بأيّة وسيلة ممكنة.
قد تكون العزوبة بداية للانحراف الجنسي والاجتماعي، وبداية لرحلة المجتمع العسيرة نحو السقوط الأبدي.
لسنا بحاجة إلى ذكر الأدلة بأن أكثر الجرائم التي تحدث وأكثر السجناء الذين يدخلون السجون هم بسبب الانحراف الجنسي أو النقص الجنسي، فأيّ عمل جبّار يقوم به الإنسان عندما يُقدم على حل هذه المشكلة من خلال اشاعة ظاهرة الزواج؟
والمطلوب طبعاً ليس فقط السعي لربط الزوج بالزوجة، بل تحمّل النفقات الزوجية من توفير السكن وتهيئة فرص العمل. وفي شهر رمضان يتحقّق التقارب بين العوائل فيسهل حلّ المعضلات الاجتماعية ومنها العزوبة، بالاضافة إلى ان البعض يبحثون عن فرص لتقديم الخدمة الممكنة. والبعض الآخر يتطوّع للمساهمة في حلّ مشكلة العزوبة من خلال ما يسديه من المال لهذا الغرض.
ولا ننسى ان القسم الأغلب من المشكلة هي نفسية وثقافية، فلابدّ من هيئات ولجان تثقيفية تقوم بتوعية العزّاب والعازبات إلى اسباب هذه المشكلة وطرق علاجها، واقناع المجتمع بتجاوز بعض الاعراف الخاطئة.
فمن أعراف بعض العوائل بقاء المرأة التي مات عنها زوجها عزباء، فلابدّ من توضيح مساوئ هذا العرف حتى يقلع المجتمع عنه.
وهناك شباب كثيرون يعزفون عن الزواج بسبب التجنيد أو الدراسة، فكان لابد من اقناعهم بعدم وجود التناقض بين الزواج و الدراسة أو الزواج والجندية.. بشرط ان يكون على أهبة الاستعداد لتحمّل مسؤولية الزواج أو تحمّل أقارب الزوج من الأب والأخ بعض نفقاته حتى ينتهي من انشغاله بالدراسة والجندية.
ومن الضروي ان تشكل لجان تقوم بمهمة التزويج الجماعي لشباب أو يقوم الأقرباء والأرحام بتشكيل لجنة لتزويج العزّاب المتواجدين فيما بينهم ففي هذا العمل أجر وثواب[76].
ومن الأعمال المثاب عليها في شهر رمضان اصلاح ذات البين، فإصلاح ذات البين هو أفضل من عامة الصلاة و الصيام، فكثير من المشاكل العائلية يمكن ان تحلّ في لحظة ربانية يتقرب فيها الزوج والزوجة إلى الله في هذا الشهر المبارك.
فكان لابد من السعي الدؤوب نحو تقريب الأزواج فيما بينهم وحلّ مشكلاتهم حتى المستعصية منها، فكل مشكلة لها حلّ، ومعظم المشاكل بين الأزواج هي نتيجة توقّع كل واحد منهما من الآخر اكثر من حقوقه.
وان الحل البسيط هو التنازل الذي يقدّمه كل من الزوجين للآخر.
4 ـ علاج المرضى
الاهتمام بالمرضى ورعايتهم هو جزء من أعمال هذا الشهر المبارك وهو عملٌ يُنجز بقدر المستطاع، فهناك مَن يستطيع ان يقدّم الخدمات لمريض أو مريضين، وهناك من يمتلك الامكانات التي تسمح له بأن يقدّم الخدمات لعدد كبير من المرضى وذلك من خلال بناء المستشفيات والمستوصفات، ومخازن الأدوية المجانية وانشاء المختبرات التحليلية.
وهناك من يتمكن ان يؤدي الخدمات الاعلامية المطلوبة التي توفّر الوقاية من الأمراض، وقد يكون الاعلام بصورة أحاديث تُبث من خلال وسائل الاعلام أو مقالات تُكتب في الصحف أو كتب وقائية توزّع بين الناس أو ندوات تعقد.
أو عبر البوسترات التي تدعو الناس إلى الوقاية من بعض الأمراض التي يصعب علاجها كمرض (الايدز) الناشئ عن الانحرافات الجنسية.
ومن الأعمال الممكنة في هذا الشهر الكريم جمع الأدوية الفائضة من البيوت وفتح مركز خاص لاستقبال هذه الأدوية ومن ثم توزيعها على المحتاجين بالمجان.
وكنّا في ـ كربلاء المقدسة ـ قد استخدمنا هذا الأسلوب، فكان له آثر جيد على مستوى الناس الذين يحتاجون لهذه الأدوية، وكان شعارنا في ذلك: (ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه).
ومن برامج الوقاية من الأمراض هو الحفاظ على البيئة من كل ما يعبث بها سواءٌ كان في الهواء أو الأرض أو المياه.
ان المشكلة التي تهدد الكثير من البشرية اليوم هي مشكلة التلوّث التي تسبب تلوّث ما يؤكل وما يُشرب وما يُتنفس، وأغلب أسباب التلوّث ناتجة من رمي النفايات في غير أماكنها المخصصة، فالبعض يرمي بها في البحر والبعض الآخر يرمي بها في الشارع فتسبب تلوّث الماء والهواء، وهذان أمران محرّمان، لأنهما يتسببان في أذى الناس.
فكان لابدّ من التفكير الأساسي لهذه المشكلة.. ووضع خطة لحل مشكلة التلوّث، وذلك بالأمور التالية:
أولاً: التوعية وتذكير الناس بأهمية النظافة، وان النظافة من الايمان، و ان عليهم ان يرموا بالنفايات في الاماكن المخصصة.
ثانياً: جمع هذه النفايات ووضعها في مراكز خاصة.
ثالثا: الاستفادة من هذه النفايات بفتح معامل تقوم بعملية تكرير لهذه الفضلات للاستفادة منها في الأسمدة، كما يحدث في الكثير من دول العالم.
وأهم مسألة في عدم تلوّث البيئة هو دعوة الناس إلى الاقتصاد في المأكل والملبس ومنح ما يفيض عن مصروفهم إلى الفقراء والى الجهات المحتاجة وبذلك نستطيع ان نقلل من النفايات إلى أقل ما يمكن وبالتالي خفض نسبة الأمراض في بلادنا الإسلامية.
5 ـ رعاية المهاجرين والمهجرين
لم يشهد التاريخ علاقة أخوية كالتي شهدتها المدينة المنورة عندما حلّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمهاجرين للاقامة فيها.
فهؤلاء المهاجرون كانوا مُعْدَمين من كل شيء، فقد تركوا بيوتهم وأموالهم في مكة، حتى انهم تركوا نساءهم وأولادهم وجاءوا إلى المدينة مهاجرين بدينهم.
وأول عمل قام به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة هو المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار، وكان وراء هذا العمل عدة أهداف هي:
أولاً: هدف نفسي حيث ان المهاجرين الذين تركوا عوائلهم كانوا أحوج ما يكونون إلى الرعاية النفسية، والى المحبة والعطف والاهتمام، وهذا ما تحققه الاخوّة بينهم وبين الانصار الذين لا يتحسسون بهذه المشكلة لأنهم في وطنهم.
ثانياً: هدف اقتصادي فقد قسّم الأنصار أموالهم بينهم وبين المهاجرين، حتى ان بعضهم كان له زوجتان فخيّر أخاه المهاجر بأن يختار احدى زوجاته ليطلقها ثم يتزوجها المهاجر، كما حدث لسعد بن الربيع.
ثالثا: هدف تثقيفي، فالمهاجر هو أعرف بالاسلام من الانصاري، فعبر هذه الاخوّة تنتقل التجربة والخبرة والعلم والتربية من المهاجر إلى الانصاري، وبذلك يسهل تثقيف الانصار ويسهل تربيتهم، التربية الإسلامية المطلوبة.
وظاهرة الهجرة والمطاردة واللجوء في العالم موجودة مادام هناك ظلم وظالم واستكبار ومتكبر. واليوم تعاني جماعات كبيرة في عالمنا الإسلامي من مشاكل الهجرة واللجوء، وقد قرأت في احدى الصحف ان هناك مائة مليون لاجئ في العالم يمثل المسلمون ثمانين مليون منهم أي (80%) وأصبحت قضيتهم قائمة في كل بلدٍ اسلامي، وهؤلاء بحاجة إلى العمل والى المأوى والى المال والى...
فمن هو المسؤول؟
طبعاً كل المسلمين القادرين هم مسؤولون عن هؤلاء المهاجرين، فكما تحمّل أهل المدينة مسؤولية المهاجرين يجب ان يتحمل اصحاب الاموال والبيوت إليهم ويجب ان لا تقتصر المسؤولية على الجانب المالي فقط، بل يجب اسداء الاحترام والرعاية والاهتمام للمهاجرين لأنهم كانوا أعزاء في بلادهم، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (ارحموا عزيز ذل وغنياً افتقر وعالماً ضاع في زمان الجهّال)[77].
والى جانب هؤلاء المهاجرين والمهجرين هناك الآلاف ممن هم في السجون و المعتقلات وتعاني عوائلهم من الحرمان والضياع وهؤلاء ايضاً بحاجة إلى الرعاية والمحبة و العطف.
وهناك العشرات بل المئات من المساجد والحسينيات والمدارس والمكتبات التي هُدمت أو انهدمت وهي بحاجة إلى الخيّرين لبنائها.
فصدام وحده في مدينة كربلاء المقدسة وحدها هدم أكثر من خمسمائة مسجد وحسينية ومكتبة عامة ومدرسة، فإذا كان هذا حال بلد واحد تحت حكم طاغٍ واحد، فكيف يكون حال كل البلاد المبتلاة بعشرات الطواغيت؟
فكان لابد من مبادرات سريعة يقوم بها الاثرياء وأصحاب القلوب الرحيمة للتخفيف من مشاكل المنكوبين، والرفع من معاناة العوائل والاطفال.
وشهر رمضان هو شهر الرحمة والغفران، فلابد ان يملأ المسلمون قلوبهم بالشفقة على الآخرين حتى يرحمهم الله ويغفر لهم ذنوبهم، وقد قال رسول الله(ص): (الراحمون يرحمهم الله)[78] و(ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء)[79].
الفصل الخامس
تبيان محاسن القانون الإسلامي
يمتاز الدين الإسلامي بشموله لجميع القوانين التي يحتاجها البشر لإدارة أمورهم الحياتية، وقد سبق ذكر بعضها.
فقوانين الصناعة تدخل تحت عنوان المال والكسب والتجارة، كما ان قوانين الزراعة مذكورة في باب المزارعة و المساقاة، وأُمور الجيش مذكورة في باب الجهاد، وأمور الدولة في فقه الدولة الاسلامية، والقضاء له باب خاص في الفقه، والعلاقات الخارجية تدخل في نطاق الجهاد وغيره.
اما الشؤون الحيوية الاخرى كالزواج وأمور العائلة فهي تبحث في عدة ابواب فقهية كالنكاح والطلاق وما إلى ذلك.
وإذا ما قارنا بين هذه القوانين وقوانين الغرب للاحظنا ان القوانين الإسلامية تنتهي إلى العدالة و إلى المساواة والى توفير الحرية للمسلم وغير المسلم.
فالقانون الإسلامي له غاية، وحتى لو تشعب القانون وتفرّع إلى مختلف شؤون الحياة من زراعة وصناعة وتجارة، فهو لا يفقد أهدافه وهو بالطبع العدالة والمساواة والحرية، بخلاف القوانين الوضعية التي توضع بصورة مجزئة ومنفصلة عن القوانين الاخرى مما يفقدها اصالتها وأهدافها.
ومن ناحية اخرى فإنّ القانون الإسلامي يمتاز بأصالته البشرية فهو يتفق مع الفطرة الانسانية، الأمر الذي يجعله قابلاً للتطبيق في كل عصر ومصر بخلاف القوانين الوضعية التي لا تمتلك رصيداً من الفطرة الإنسانية.
الميزة الثالثة للقوانين الإسلامية انها قوانين من الله الذي لا يخطأ ولا يسهو، بينما القوانين الوضعية هي من صنع البشر الذي يخطئ ويسهو ويغفل، لذا كانت القوانين الوضعية متناقضة ومخالفة لأصولها في الكثير من الاحيان أو انها لا تؤدي الهدف المرجو منها أو تصل إلى هدف آخر معاكس.
فكان لابد للنخبة المثقفة من ابناء الامة من اصحاب القلم والبيان ان يكرّسوا جهدهم في هذا الشهر الكريم لبيان محاسن القانون الإسلامي ومساوئ القانون الوضعي.
ويكفي للمقارنة ان ينظروا إلى التجربة الإسلامية الاولى في عهد الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة الطاهرين(عليه السلام) وكيف كان وضع المسلمين عندما كانوا يطبّقون القوانين الاسلامية، والى ما لحق بالمسلمين اليوم جراء تنفيذهم للقوانين الوضعية المخالفة للفطرة الإنسانية.
كيف استطاع القانون الإسلامي ان يستأصل الجريمة من المجتمع الاسلامي، وكيف تتزايد الجرائم في مجتمعاتنا اليوم بسبب القوانين الوضعية التي ليست بقادرة على الحدّ من الجريمة وحسب بل تزيد في الجرائم من خلال السجون الطويلة المدى التي ترمي اليها بغير المجرمين ليتخرجوا فيها متفننين في عالم الجريمة.
ان اظهار هذا التمايز بين القانون الإسلامي والقانون الوضعي كفيل لاظهار عظمة الإسلام ورجعية المبادئ الوضعية التي لم تحلّ مشاكل البشرية وحسب بل اضافت مشاكل إلى مشاكلها.
وهنا تبرز قيمة الإسلام كمنهاج للحياة وكيف خسر المسلمون الكثير عندما تركوا الإسلام وراء ظهورهم.
إذاً العودة إلى القوانين الإسلامية هو عامل مهم من عوامل التقدم في الامة، اما العامل الثاني فهو الجو العام الذي يُعتبر بمثابة الأوكسجين الذي يتنفسه الإنسان.
فانه عندما جاء الإسلام أوجد مناخاً فاعلاً في المجتمع يمتاز بكل المواصفات الضرورية لإقامة حضارة انسانية، وهذه المواصفات هي؛ الاعتناء بالذوق والجمال، النظافة الروحية و النفسية و الجسدية، التنظيم في مختلف الشؤون، والفضيلة في مختلف الأبعاد، الشورى في مختلف الأنشطة السياسية و الاجتماعية و التعاون في مختلف الاتجاهات المقبولة، وضمان الأمن والاستقرار، والتفكير بالانسانية وليس بجماعة خاصة، الاتجاه إلى الدنيا و الآخرة معاً فلا تغلب الدنيا على الآخرة ولا الآخرة على الدنيا والتوجّه نحو العالم وعدم التقوقع.
ونتيجة لهذا المناخ الايجابي الذي اوجده الإسلام في بداية الرسالة أقبل الناس على الدخول في دين الله أفواجاً، فوجدوا فيه ما كانوا يحملون به، ووجدوا الجمال بأروع صوره، ووجدوا الحرية بأبهى أشكالها، ووجدوا العدالة في أفضل صورها، ووجدوا المساواة على أحلى ما يمكن، ووجدوا الرفاه والأمن والطمأنينة. وعندما دخلوا الإسلام تمسّكوا به اشدّ ما يمكن، وبعض هؤلاء الذين عرفوا الإسلام ـ وان لم يدخلوا إليه ـ حاربوا ملوكهم وأهل ملّتهم إلى جانب المسلمين كما يُبين لنا التاريخ ذلك لما لمسوا فيه من الرفاه والحرية والأمن.
اما بعد ان انقلب المسلمون على أعقابهم وسيطر عملاء الغرب على بلاد الإسلام، وتركوا شرع الله وتمسكوا بشريعة الهوى، أخذت بلادهم بالتراجع، وانهارت حضارتهم التي بنوها لقرون من الزمن.
وعلى العكس أخذت الحضارة الغربية تتقدم أشواطاً إلى الامام لأنهم أدركوا قوة المسلمين فبدءوا يأخذون بأسباب هذه القوة، وقد حذّر أمير المؤمنين (عليه السلام) المسلمين عندما خاطبهم قبل قرابة أربعة عشر قرناً: (الله الله في القرآن لا يسبقنكم بالعمل به غيركم)[80].
لقد سبقنا الغرب في العمل بجزء من القرآن فأعطوا لشعوبهم جزءاً من الحريات الممنوحة في الإسلام وشرعوا قانون الضمان الاجتماعي الذي يعود في جذوره إلى الاسلام، واحتضنوا العلماء وأهل العلم، واندفعوا نحو الانتاج في الكم والكيف.
وأهم من ذلك وحّدوا بلدانهم في دولة واحدة بعد ان أزالوا الحواجز الجغرافية والنفسية والاقتصادية، وكانت نتيجة ذلك أن المسلمين يضطرون لأن يلجأوا إلى الدول الغربية لينعموا بالحرية التي حُرموا منها في بلادهم، ولينعموا بالثروة التي حرموا منها في بلادهم، ولينعموا بالمساواة التي حرموا منها في بلادهم، ولينعموا بالكرامة والأمن اللذين حُرموا منهما في بلادهم، ولينعموا بالدراسة في الجامعات التي حُرموا منها في بلادهم، ولينعموا ـ في آخر المطاف ـ بالحياة التي حُرموا منها في بلادهم.
وفي شهر رمضان لابدّ وان نتذكر ما لحق بنا عند المقايسة؛ كيف كنّا وبما كان عليه الغرب في العصور المظلمة، وكيف أصبحنا وكيف اصبحوا هم اليوم.
ان الفارق بيننا وبينهم في ثلاثة امور لابدّ ان نعمل من أجلها:
الأمر الأول: المبدأ الصالح.
الأمر الثاني: الإنسان الصالح.
الأمر الثالث: الجو الصالح.
فعندنا مبدأ هو أرقى المبادئ وقد جُرّب فعلاً وأثبت جدارته وصدارته.
والانسان عندنا هو انسان ممتلئ بالايمان والاخلاق، هاجسه الأول والأخير هو عمل الخير.
والجو الصالح من مسؤولية الامة بأن توفر الاجواء الصالحة من شورى وحرية ومساواة وأُخوّة لكي يمكن اعادة الحضارة الإسلامية مجدداً.
والله الموفق والمستعان
سُبحان ربِّك ربِّ العزَّةِ عمّا يصفونَ وسلامُ على المرسَلينَ والحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاة و السلام على محمّدٍ وآله الطاهرين
محمد الشيرازي