التمني والكسل لا يبني دولة متقدمة
رؤى من افكار الامام الشيرازي
شبكة النبأ
2016-01-11 09:45
يخطئ من يتصور أن بناء الدولة يمكن أن يقوم على مرتكز مادي بحت، إذ يرى بعض المهتمين بأن الثروة ومضاعفة الايرادات، يمكن أن تبني لنا دولة متقدمة راسخة مستقرة ومندفعة الى أمام في محال الابداع والانتاج بجودة عالية، ولكن ينسى هؤلاء أن هناك ثنائية لا يمكن إغفالها من اجل بناء الدولة، فإذا كانت الثروات تبني الدولة ماديا، من الذي يمكن أن يبنيها معنويا وفكريا، وهل يمكن أن يكون البناء وحده كافيا أو بديلا عن التطور الفكري والثقافي للمجتمع؟.
إن من يركز على الجانب المادي ويهمل الجانب الفكري والعلمي، سيكتشف أنه بهذا التوجّه إنما يبني دولة البنايات الشاهقة والشوارع والجسور (والمولات) وما شابه، لكنه يعجز عن بناء العقول والنفوس والقدرات الفكرية للدولة، لذلك يبقى دور العلم في المقدمة دائما، ولا يمكن للثروات وحدها أن تبني دولا متقدمة.
لذلك يرى الخبراء والمعنيون أن هناك أهمية للموازنة بين المادي والفكري، حتى يتم البناء بصورة متوازنة، وهناك من يضع العلم والعلماء في الأولوية، وهو محق في ذلك، لأن الدولة بلا علماء هي دولة متأخرة، لذلك من الامور التي لا يختلف عليها الجميع، أن دور العلم في بناء الدولة المستقرة، يتصدر المقومات كافة، لما له من دور اساسي في تأسيس وبناء الدولة والانسان في وقت واحد، ولذلك عندما يتم احترام العلماء في دولة ما، ستجد أن التقدم حاصل لديهم لا محالة، لان النتيجة الطبيعية لمسار العالم هو التقدم.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، بكتابه الثمين الموسوم بـ (طريق التقدم)، في هذا المجال: (إن العلم في مقدمة العوامل التي تسبب تقدم الفرد، وبالتالي: تقدم المجتمع، ومتى ما تواجد العلماء في مجتمع، وألتف ذلك المجتمع حول علمائه واحتفوا بهم، إلاّ وسجل ذلك المجتمع لنفسه تقدماً باهراً وزاهراً).
العلم المجرد لا يخدم الدولة
إن العلم هو نوع من الافكار القائمة على الاثبات والبرهان، ومن ثم التخطيط والانتاج، وعندما يبقى العلم بعيدا عن التطبيق مجرد لا ينفع الدولة او الشعب بشيء، اذا بقي حبرا على ورق، بمعنى يجب أن يتحول العلم ومضامينه الى عمل مادي ملموس، عندئذ يكون العلم قد حقق الهدف المنشود منه، لهذا يؤكد الامام الشيرازي بهذا الخصوص على: (إن العلم والعمل توأمان لا ينفصلان، ورضيعا لبان لا ينفك بعضهما عن البعض في تحقيق التقدم وتقومه، فإن كل فرد وكذلك كل مجتمع يريد الرقي والتقدم، لا بدّ له من توفير هذين العاملين معاً).
لدى الدول الاسلامية وشعوبها مشكلة يمكن تلخيصها، بالكسل، والهروب نحو التمني، لتحقيق التقدم، ولكن هذا محال، لأن بناء الدولة والمجتمع يحتاج الى جهود هائلة، لذا فإن هناك عقبة كبرى تقف في طريق تطور المسلمين، تتمثل بتلكّؤ المسلمين وكسلهم، في تحويل العلم الى عمل، وانتهاجهم الخمول والاتكال والتمني ايضا، الامر الذي يجعل من العلم حبر على ورق من دون فائدة ترتجى منه، بسبب كسل المسلمين، وهو ما يحصل راهنا، على عكس ما كان يقدمه المسلمون في المراحل المتقدمة.
من هنا يرى الامام الشيرازي في هذا الصدد، في كتابه نفسه: (سابقاً كانت الأمة الإسلامية مجدة في تحصيل العلوم وتربية العلماء والاحتفاء بهم والأخذ عنهم، ولذلك تطورت الأمة حتى سبقت جميع الأمم في مختلف مجالات الحياة فأصبح المسلمون آباء العلم الحديث. ولكن للأسف نجد في يومنا هذا، أن كثيراً من المسلمين تخلوا عن العلم والعلماء، وهم يحبون أن تتحقق الأمور بالأماني).
والقول أعلاه يؤكد أننا نحتاج الى الربط بين المادي والفكري، ولعل الاعتماد على وفرة الاموال من خلال تصدير النفط وتكديس الاموال، لا يمكن أن يكون بديلا عن العلم والعمل، فعندما يتهرّب الانسان من واجباته العملية المطلوبة في هذا المجال او ذاك، فإنه أما أن يكون كسولا، أو متكلا على غيره، ويرغب أن يحقق ما يصبو اليه من نتائج بالتمني، وهو اسلوب حياة خطير عاشه ويعيشه كثير من الناس، الامر الذي يؤدي الى بقائهم في دائرة الخمول والكسل.
لهذا يؤكد الامام الشيرازي في هذا المجال على: (إن الاعتماد على التمني فحسب، يورث حالة التواكل عند الإنسان والتخلي عن مسؤولياته، فكثير من المسلمين يرون بأن الشخص الفلاني، أو الجيش، أو الحزب، أو النظام هو المكلف بإنقاذ بلده، أي: إنه ينتظر النتائج من غيره دون عمل ومقدمات من نفسه، وهذا خطأ فادح).
العيش في ظل الأساطير والتمنيات
يرى الخبراء أن بناء الدولة لا يُبنى على الاساطير، وهو امر يتفق عليه الجميع، حتى من عامة الناس، فالبناء ينبعي أن يتم تعضيده بالتخطيط والتنفيذ الدقيق، لذا فإن أسلوب مسايرة الحياة في ظل الاساطير والاحلام والتمنيات، لن يؤدي الى بناء الفرد او المجتمع او الدولة المتكاملة والقوية، لأن التهرّب من المسؤولية، وإلقائها على الاخرين، والعيش في ظل التمني، تكون نتائجه مؤسفة ولا تتيح للانسان حياة كريمة تليق بإنسانيته، من هنا لابد من فهم معادلة التوازن بين المادي والفكري، مع الابتعاد عن الكسل والخمول.
من هنا يرى الامام الشيرازي في هذا الجانب: (إن ابتعاد المسلمين عن العمل وإلقاء المسؤولية على الآخرين نوع من العيش في عالم الأساطير والأحلام، ففي الحديث الشريف: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته). ويضيف سماحته قائلا: (كما أن عالم الأساطير والأحلام لا يتمخّض عن نتيجة، فكذلك الاتكال على الأمنيات والآمال فإنه لا يمكن فيها الحصول على نتيجة واقعية في آخر الأمر)، وبهذا فإن النتيجة هي الاخفاق في بناء الدول، والبقاء في دائرة الجهل والحرمان.
ولا شك أن الكسل له مخاطر قد تقود الدولة الى التراجع وربما الاندثار، فتجارب التاريخ تؤكد لنا عن اندثار أمم وسقوط حضارات، والاسباب معروفة، فالجهل واهمال العلم والعلماء، وانعدام الثقافة او قلتها، تتقدم جميع الاسباب التي تسقط الامم والحضارات، لان العلم يبني فردا متطورا واعيا، والاخير هو أساس بناء المجتمع الواعي المتطور، واذا تم بناء المجتمع المتطور يمكن بناء الدولة المتطورة، أما العكس فهو دمار مؤكد للفرد والمجتمع والدولة معا.
يقول الامام الشيرازي حول سقوط الحضارات: (إن الجهل وعدم الوعي، وفقد العلم والعلماء، وقلة ثقافة الحياة، من أهم أسباب تأخر الفرد والمجتمع، ويؤدي إلى تقهقر الأمم وسقوطها، بل إلى موتها وفنائها)، ولذلك سوف يتحمل المجتمع نتائج ما سيقوم به من اعمال، ومن البديهي ان تكون بصالحه اذا اقترنت بالعلم والعمل، والعكس صحيح، لذلك يقول الامام الشيرازي: (إذا عمل الإنسان سوءً ـ بالمعنى الأعم الشامل للكسل أيضاً ـ فسيُجزى به، ويتأخر في الحياة، وتنصب عليه المشاكل والويلات).
وربما يتساءل معنيون لماذا الكسل والعجز ونحن امة بنت دولة عظيمة في التاريخ الانساني؟ سيكون الجواب، إن المسلمين الاوائل كانوا يحولون العلم الى عمل ولم يهملوا العلم ولا العلماء، كما أنهم ذوي عزيمة وارادة قوية وراكزة، تبتعد بهم كليا عن التمني والاتكال والكسل، فهناك تنظيم يجعل من حياتهم واضحة لا ازدواج فيها ولا عشوائية، ولا تقوم على التمني، بل توازن بين المادي والفكري، لبناء الدولة المتطورة والمجتمع المنتِج.