العالم في ميزان القرآن والعترة.. الإمام الشيرازي أنموذجا
علي الموسوي
2025-11-12 03:22
في زمنٍ تتزاحم فيه العناوين، وتكثر فيه الأقلام، وتُرفع فيه لافتات العلم في كلِّ مجال، يبقى السُّؤال الجوهري حاضرًا: من هو العالم الحقيقي في ميزان القرآن الكريم والعترة الطَّاهرة (صلوات الله عليهم)؟
أهو من يملأ الأسماع بعلمه ويُطيل المقام في ميادين الدَّرس؟
أم من تتردّد كلماته على المنابر وتُسلَّط عليه الأضواء من كلِّ مكان؟
أم أنَّ للعالم الحقّ ميزانًا آخر، لا يُقاس بما يُقال عنه أو يُنشر له؛ وإنَّما بما يزرعه علمه في العقول من نورٍ، وما يورثه في القلوب من خشيةٍ، وما يثمره في الحياة من صلاحٍ وتقوى؟
لقد شاء الله (تعالى) أن يكون طلب العلم عبادةً دائمة، يزداد بها الإنسان قربًا كلَّما ازداد تواضعًا، ويعلو بها قدره كلَّما تعمَّق في معرفة عظمة الخالق (تبارك وتعالى). ومن هنا، كانت سيرة العلماء الرَّبانيينَ صفحات ناطقةً بهذا المعنى، حيث جسَّدوا في حياتهم أنَّ العلم وسيلةٌ للإصلاح، ومفتاحٌ للعبوديَّة، ونورٌ يهدي النَّاس إلى الله (سبحانه).
ومن أبرز أولئك الذين تحقَّقت فيهم هذه الصِّفات، سماحة المرجع الدِّيني الإمام السيِّد محمَّد الحسيني الشيرازي (قدِّس سره)، الذي عاش العلم عبادةً، وطلب المعرفة سلوكًا، وجعل من فكره طريقًا إلى الله (تعالى) وخدمة عباده. وفي سيرته تتجلَّى ملامح العالِم الحقيقي التي سنعرضها في علامات عدَّة:
العلامة الأولى: الاستمرار في طلب العلم.
من أبرز ملامح العالم الحقيقي أنَّ شغفه بالعلم لا يخبو، وأنَّ رحلته في طلب المعرفة لا تعرف نهاية. فهو يعيش في حالة عطشٍ دائمٍ إلى العلم والمعرفة، ولا يكتفي بما حصَّله، ولا يغتر بما أدركه؛ لأنَّ نور العلم عنده طريقٌ ممتدٌّ نحو الله (عزَّ وجلَّ). ولهذا يخاطب الله (تعالى) نبيَّه الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، وهو مدينة العلم ومنبعه ومصدر الهداية، بقوله: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (1).
إنَّها آيةٌ عجيبة، إذ تأمر مَن أوتي جوامع العلم والكلم أن يطلب المزيد من العلم، لتبيّنَ أنَّ طريق المعرفة لا يُحدّ بحدٍّ، وأنَّ العالم كلَّما اقترب من النُّور ازداد شعورًا بعظمته واتساعه؛ فالعلم في ميزان القرآن الكريم حركةٌ دائمة نحو الكمال، وسعيٌ متجدد إلى فهم آيات الله (سبحانه) في النَّفس والآفاق. وقد أكَّد أئمة الهدى (عليهم السلام) هذا المعنى الرَّفيع في كلماتهم؛ قال أمير المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب (عليه السلام): "الْعَالِمُ مَنْ لَا يَشْبَعُ مِنَ الْعِلْمِ وَلَا يَتَشَبَّعُ بِهِ" (2).
ويقول (عليه السلام) أيضًا: "الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَمَلُّ مِنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ" (3). فالعالم الحقيقي في منطق أهل البيت (عليهم السلام) هو من يرى في كلِّ علمٍ بابًا إلى علمٍ آخر، وفي كلّ جوابٍ سؤالًا أعمق، ومن يعيش لذَّة الاكتشاف لا نشوة الادعاء؛ ولذلك كان أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيَّته البليغة لولده الإمام الحسن (عليه السلام) يرسم مقياس العالم الواقعي بقوله: "فَإِنَّ العالِمَ مَن عَرَفَ أنَّ ما يَعلَمُ فيما لا يَعلَمُ قَليلٌ، فَعَدَّ نَفسَهُ بِذلِكَ جاهِلًا فَازدادَ بِما عَرَفَ مِن ذلِكَ في طَلَبِ العِلمِ اجتِهادًا، فَما يَزالُ لِلعِلمِ طالِبًا وفيهِ راغِبًا ولَهُ مُستَفيدًا، ولأهلِهِ خاشِعًا ولرأيه مُتَّهِمًا، ولِلصَّمتِ لازِمًا، ولِلخَطَأَ حاذِرًا ومِنهُ مُستَحيِيًا، وإن وَرَدَ عَلَيهِ ما لا يَعرِفُ لَم يُنكِر ذلِكَ لِما قَرَّرَ بِهِ نَفسَهُ مِنَ الجَهالَةِ" (4).
وبهذا الوعي العميق، يفهم العالم الحقيقي أنَّ العلم عبادة لا تعرف الاكتفاء، وأنَّ أعظم درجات المعرفة أن يدرك الإنسان جهله أمام عظمة الله (سبحانه). وكلَّما اتَّسعت آفاق علمه، ازداد تواضعًا وخشيةً، واستشعر مسؤوليته أمام هذا النُّور الذي أودعه الله (تعالى) في قلبه.
وهكذا كان الإمام السيِّد محمَّد الحسيني الشيرازي (قدِّس سره) مثالًا حيًّا لهذه الرُّوح المتعطِّشة إلى المعرفة؛ فقد ظلَّ في بحثٍ دائمٍ وتعلّمٍ مستمر حتَّى آخر لحظات حياته، يقرأ ويكتب ويعلِّم ويستمع، لا لأنَّه لم يشبع من العلم؛ بل لأنَّ قلبه لم يشبع من القرب إلى الله (تعالى) من خلال العلم.
كان يرى في كلّ يومٍ فرصةً جديدة لاكتشاف معنى أعمق في الدِّين، وفي كلِّ سؤالٍ طريقًا إلى الحقيقة. فبقي طوال عمره طالبًا للعلم، متواضعًا له، مستنيرًا بنوره، حتَّى صار علمه مدرسةً مفتوحةً للأجيال، تفيض منها روح الطَّلب الدَّائم للهداية.
العلامة الثَّانية: الخشية من الله (تعالى) والارتباط بأهل البيت (عليهم السلام).
إذا كان دوام طلب العلم عنوانَ حياةِ العقل وحرارته، فإنَّ الخشية من الله (تعالى) هي روحُ القلب ونبضُه؛ ولذا حين أراد القرآن الكريم أن يُعرِّف العالم الحقَّ، لم يصفه بسعة الاطلاع ولا بغزارة المصطلحات؛ وإنَّما رفعه إلى مقامٍ من النُّور والخشوع بقوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (5).
إنَّ هذه الآية تختصر فلسفة العلم في الإسلام؛ فالمعرفة التي لا تُثمر خشيةً تبقى ناقصة لم تبلغ غايتها. فغاية العلم أن يورث صاحبه تواضعًا أمام عظمة الله (سبحانه)، لا زهوًا ولا جدالًا، وأن يجعل من الفكر طريقًا إلى التَّقوى، لا وسيلةً للرِّياء والتَّفاخر؛ فالعلم في حقيقته عبادةٌ عقليَّة، فإذا خلا من الخشوع تحوَّل إلى معرفةٍ جامدة لا توقظ القلب، ولا تهدي البصيرة.
وقد لخَّص لقمان الحكيم (عليه السلام) هذه الحقيقة؛ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام)، قَالَ: "قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لِكُلِّ شَيْءٍ عَلَامَةٌ يُعْرَفُ بِهَا وَيُشْهَدُ عَلَيْهَا، وَإِنَّ لِلدِّينِ ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَلِلْإِيمَانِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَلِلْعَالِمِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ الْعِلْمُ بِاللَّهِ وَبِمَا يُحِبُّ وَبِمَا يَكْرَهُ..." (6). فالعالم الذي يعرف ربَّه (تبارك وتعالى) معرفةً حقيقيَّة، يدرك ما يرضيه وما يسخطه، ويجعل من علمه وسيلةً للطَّاعة لا غايةً للتَّميُّز.
إنَّ الخشية في منطق القرآن الكريم وعي عميق بعظمة الله (سبحانه) واستحضار دائم لجلاله. إنَّها خشيةُ الحبِّ، لا خشيةُ الرُّعب؛ خشيةٌ تُورث صفاءً في الضَّمير ورقَّةً في القلب، وتمنح الإنسان بصيرةً في القول والعمل. ومن هنا كان العالم الحقيقي كلَّما ازداد علمًا، ازداد تواضعًا؛ لأنَّه يرى في كلّ آيةٍ من آيات الله (تبارك وتعالى) بابًا إلى جلالٍ لا يُحدّ.
ويكتمل هذا المعنى من خلال العبادة العمليَّة المرتبطة بالقلب والعقل؛ "فالعبادة في الإسلام تحمل معنيين: الأوَّل أعمُّ، ويشمل كلَّ عمل يقصد به الإنسان التَّقرب إلى الله (تعالى)، والثَّاني أخصُّ، ويشمل الأعمال المقرِّبة له في هيئتها ومادتها، كالصَّلاة والدُّعاء وقراءة القرآن. ولقد جسَّد المرجع الرَّاحل الإمام السيِّد محمَّد الحسيني الشيرازي هذا التَّوازن في حياته اليوميَّة؛ فقد واظب على الذَّهاب أربعين ليلة أربعاء إلى مسجد السَّهلة، على الرَّغم من مشقة السَّفر، حتَّى حظي بلقاء مولانا الإمام المنتظر (عجَّل الله تعالى فرجه الشَّريف). كما كان يردد قبل نومه ألف مرَّة: "لا إله إلَّا الله"، ويكتب عريضة يوميَّة للإمام الحجَّة (عجَّل الله تعالى فرجه الشَّريف) بعد صلاة الصُّبح من دون انقطاع، حتَّى في ظروف الاختفاء خلال الأزمة في العراق" (7).
ولعلَّ سرّ تميُّزه يعود إلى ارتباطه العميق بأهل البيت (عليهم السلام)، فقد كانت أعماله كلُّها متجهة نحو الدَّعوة إلى الاقتداء بمنهجهم والتَّمسك بعروتهم الوثقى، متشبعًا بروابط الولاء والانتماء، فكان أثره ملموسًا في تأسيس المكتبات والمدارس وإصدار المجلَّات والنَّشرات، ليترك إرثًا ثقافيًا وخُلقيًا لا يُنسى. وبهذا الجمع بين العلم الخاشع والعبادة المستمرة والولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، تجسَّد في شخصه نموذج العالم الرَّبَّاني الذي يتحقق فيه العلم بوصفه وسيلة للعبوديَّة والتَّقوى، والعمل الصَّالح، والخدمة الحقيقيَّة للخلق.
العلامة الثَّالثة: التَّواضع مع العلم.
من أسمى علامات العالم الحقيقي أن يكون علمه سببًا لخشوعه لا لغروره، ومصدرًا لتواضعه لا لتكبُّره. فالعلم إذا لم يثمر تواضعًا، فقد روحه ومقصده. وقد عبَّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذه الحقيقة بدقَّة حين قال: "الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ" (8). فمعرفة القدر تعني الوعي بموقعها أمام جلال العلم الإلهي الذي لا يُحدّ، ولا يُقاس بعلوم البشر المحدودة.
ومن هنا كان تحذير النَّبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله): "مَن قالَ أنَا عالِمٌ، فَهُوَ جاهِلٌ" (9)؛ لأنَّ دعوى العلم هي عين الجهل؛ إذ تُغلق على صاحبها أبواب الكمال؛ ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "مَنِ ادَّعَى مِنَ الْعِلْمِ غَايَتَهُ فَقَدْ أَظْهَرَ مِنْ جَهْلِهِ نِهَايَتَهُ" (10)؛ فالعلم كلَّما زاد كشف للإنسان جهله، ومن توهم الاكتمال في العلم، فقد أعلن نقصه من حيث لا يشعر؛ إذ المعرفة الحقَّة تفتح أمام الإنسان آفاقًا لا تنتهي، وكلَّما توغَّل فيها، ازداد إدراكًا لصِغَر نفسه أمام عظمة الخالق (سبحانه) وعظمة الحقيقة.
التَّواضع العلمي ليس خُلُقًا يُزيِّن العالم فحسب، فهو سرُّ بقاء النُّور في قلبه، وحارس العلم من الغرور والضَّياع. فالعلم إذا لم يُثمر خشوعًا تحوَّل إلى حجابٍ يحجب صاحبه عن الله (جلَّ جلاله)، وإذا خلا من الانكسار أمام عظمته (سبحانه) صار وبالًا عليه لا زينةً له. والعالم الربَّاني يرى في كلِّ علمٍ سبيلًا إلى الله (تعالى)، وفي كلّ معرفةٍ دعوةً لتزكية النَّفس وخدمة عباده. وكلَّما فُتحت له أبواب الحكمة، ازداد خضوعًا وسجودًا، شاكرًا لِمَن علَّمه، معترفًا بأنَّ ما يملكه من العلم ليس سوى قطرةٍ من بحرٍ لا ساحل له.
وهكذا نرى أنَّ التَّواضع في شخصية العالم هو جوهرها وسرُّ قبول علمه. ومن هذا المنطلق، كان الإمام الشيرازي مثالًا متجسدًا للتَّواضع العلمي، فقد جمع بين بحرٍ زاخرٍ من المعرفة، وقلبٍ يفيض خضوعًا لله (تعالى) ولعباده. مع ما امتلكه من موسوعيةٍ نادرة في الفقه والفكر والسِّياسة والاجتماع، بقي يرى نفسه طالب علم عند أئمة الهدى (صلوات الله عليهم)، ولقد كان تواضعه هو الذي جعل علمه نورًا وهديه صدًى في قلوب الملايين؛ لأنَّه لم يرَ في نفسه فضلًا، ورأى في كلِّ ما أوتيه نفحة من رحمة الله (تبارك وتعالى).
العلامة الرَّابعة: الأخلاق الحسنة.
إنَّ العلم في الرُّؤية الإسلاميَّة لا يُقاس بكمِّ المعلومات ولا بكثرة الظُّهور على الشَّاشات، فهو يُوزن بقدر ما يُثمره من تزكيةٍ للنَّفس وتهذيبٍ للسُّلوك. فالعالم الحقيقي هو من يملأ القلوب سكينةً، ويجعل من علمه سراجًا يُضيء به باطنه قبل أن يُنير للناس طريقهم؛ والعلم الذي لا يهذِّب الأخلاق، ولا يورث الحِلم والتَّقوى، يبقى علمًا أجوف لا روح فيه. وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذه الحقيقة بقوله: "إِنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ دَعَاهُ عِلْمُهُ إِلَى الْوَرَعِ وَالتُّقَى وَالزُّهْدِ فِي عَالَمِ الْفَنَاءِ وَالتَّوَلُّهِ بِجَنَّةِ الْمَأْوَى" (11).
ورسم (عليه السلام) ملامح الأخلاق العلميَّة حين قال: "لَا يَكُونُ الْعَالِمُ عَالِماً حَتَّى لَا يَحْسُدَ مَنْ فَوْقَهُ وَلَا يَحْتَقِرَ مَنْ دُونَهُ وَلَا يَأْخُذَ عَلَى عِلْمِهِ شَيْئًا مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا" (12)؛ فالعالم المخلص لا يرى في النَّاس مراتب يتكبَّر بها، ولا فضلًا يفاخر به؛ لأنَّ تواضعه يحجزه عن الكِبر، ونقاء قلبه يصونه من الحسد؛ فيصبح طاهر القلب، نقيَّ السَّريرة، يحبُّ الخير للنَّاس كما يحبُّه لنفسه.
والأخلاق في جوهرها ثمرةُ الزُّهد، والزُّهد ليس انصرافًا عن الدُّنيا فحسب، فهو تحرُّرٌ من سلطانها وهيمنتها، وأن تبقى الأشياء في يدك لا في قلبك، وأن يكون تعلقك بما يقرِّبك إلى الله (تعالى) دون سواه.
وللزُّهد ـ كما عبَّر العلماء ـ معنيان: الأوَّل أن لا يملكك شيءٌ، والثَّاني أن لا تملك إلَّا بقدر الضَّرورة، وهما معًا سبيل العالم المخلص.
وقد تجسَّد هذا الزُّهد في حياة الإمام الشيرازي (قدِّس سره) بأبهى تجلٍّ؛ إذ عاش أبسط حياة على الرَّغم ممَّا كان في متناوله من الإمكانات. ولم يرَ في الرفاهية فضلًا أو مزية، ووجد في القناعة شرفًا للنَّفس، ورفعةً للروح.
"وهذه بعض مظاهر زهده (قدِّس سره):
1. انكسر إطار نظَّارته (قدِّس سره)، فلم يرض بتبديله؛ بل ربط أجزاءه بشريط لاصق، ولا زالت نظَّارته بعد وفاته ملصقة بذلك الشَّريط.
2. كان (رحمه الله) يعاني من أوجاع الرِجل في السَّنوات الأخيرة من حياته، اقترح عليه البعض أن يجلس على كرسي حين استقباله النَّاس، فلم يقبل بذلك؛ لأنَّه قد يكون فيه لون من ألوان الاستعلاء على الجالسين.
3. اقترح البعض أن يضعوا للكلِّ كراسي أو نحوها، على نفقتهم الخاصَّة، فلم يرض بذلك، وقد نقل له أحد أولاده الاقتراح ذات مرَّة، فقال (قدِّس سره): هل تعلم كم حولنا من الفقراء؟
4. مع أنَّ الملايين كانت تجري بين يديه، إلَّا أنَّه مات مديونًا، وقد تكفَّل أخوه سماحة آية الله العظمى السيِّد صادق الشيرازي (دام ظله) بتسديد هذه الدُّيون على نحو التَّدريج.
5. عاش حوالي تسع سنوات في الكويت ولم يملك شبرًا من الأرض، كما عاش حوالي خمسة وعشرين عامًا في إيران، ولم يملك فيها دارًا ولا عقارًا، وكان البيت الذي سكنه في قم المقدَّسة عبارة عن وقف خيري" (13).
هكذا تجسّدت أخلاق الإمام الشيرازي علمًا ناطقًا وموعظةً تنبض في الفعل والسُّلوك والموقف، وتعبِّر عن عمق الإيمان وصدق النيَّة. كان علمه مشبعًا بالصِّدق، ونوره متوهجًا من صفاء القلب لا من بريق العبارة. ومن هذا الصَّفاء انطلقت سيرته أنموذجًا خالدًا لعالم جمع بين الفكر والعمل، فجعل علمه خُلقًا يمشي على الأرض، وأخلاقه طريقًا يقود إلى الله (سبحانه)، فبقي الإمام الشيرازي (قدِّس سره) شاهدًا واقعيًّا على أنَّ العالم الحقَّ هو الذي تظهر معاني علمه في أفعاله، ويجعل من سيرته رسالةً تضيء العقول وتهدي القلوب.
"لكنَّك تسألني كيف استطاع الرَّاحل أن يبني لنفسه شخصيَّة متعدِّدة الجوانب ومركّزة الكفاءات، فأقول: إنَّه استطاع القيام بذلك، فلم يكن يمتلك من عرض الدُّنيا سوى كتبه، ولم يستطع عدو له أو خصم أن يقدِّم وثيقة وحتَّى شكوى لحصول ابتزاز أو حرص أو طمع مادي فقد مات ولم يترك إرثاً لأحد، بينما وقف كلَّ ما لديه على مشاريع خدميَّة تجدي المجتمع نفعًا.
هذا هو شأن المخلصين الذين يقومون بأدوار كبيرة في المجتمع، فكان الأقرب إلى التَّقوى والزُّهد. وكان جاداً في عمله، نزيهًا في جدّه واستقامته، كبيرًا في حجمه الدِّيني، يحظى باحترام الجميع. نشط هذا الرجل المتوقّد إخلاصًا ونبلًا في أداء رسالته وهي رسالة التَّنوير والوعي، وكأنَّه كان مقيم قاعدة من الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة، يريد أن يوقظ الشَّعب كلّه عن طريق تعميم الثَّقافة علَّه يقلّم أظافر الاستبداد" (14).
العلامة الخامسة: معرفته بأساليب التَّبليغ.
في صميم رسالة الأمَّة تجلَّى النِّداء الإلهي ببيان الخير والدَّعوة إلى الحقِّ: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (15). ولتحقيق هذه الرِّسالة، يحتاج العالم إلى فنِّ التَّبليغ الذي يقوم على فهم النُّفوس، واختيار الألفاظ التي تلامس الوجدان، وضبط الزَّمان والمكان المناسبينِ، وتقديم النَّصيحة بلطفٍ يفتح القلوب، وحكمةٍ تصون كرامة المستمعين وتُهيّئهم لتقبُّل الحقِّ عن محبَّةٍ واقتناع.
وقد وضع الإمام عليٌّ (عليه السلام) مبدئًا عمليًّا لهذه العمل حين قال: "وَمِنْ صِفَةِ الْعَالِمِ أَنْ لَا يَعِظَ إِلَّا مَنْ يَقْبَلُ عظِتَهُ، وَلَا يَنْصَحُ مُعْجَباً برِأَيْهِ، وَلَا يُخْبِرُ مَا يَخَافُ إذِاَعتَهَ" (16)؛ فالعالم الحقُّ يراعي أثر كلامه قبل أن ينطقه؛ ويختار ما ينفع، ويكتم ما يربك، ويجعل من البلاغ وسيلة للشفاء لا أداة للتوهين. ومن هذا الأفق جاء قوله (عليه السلام): "ألا انَبِّئُكُم بِالعالِمِ كُلِّ العالِمِ؟
مَن لَم يُزَيِّنْ لِعِبادِ اللَّهِ مَعاصِيَ اللَّهِ، ولَم يُؤَمِّنْهُم مَكرَهُ، ولَم يُؤيِسْهُم مِن رَوحِهِ" (17)؛ أي إنَّ العالم الحقَّ هو من لا يجمِّل القبيح لتمريره، ولا يزرع الخوف في القلوب، يوجِّه بالحكمة، ويحتضن الأرواح برحمةٍ تفتح أمامها طريق الأمل.
وبذلك يظهر أنَّ معرفة أساليب التَّبليغ ليست مهارة شكليَّة؛ إنَّما هي ثمرة عمق العلم بالله (سبحانه) وفهمٍ دقيقٍ للنَّاس، تُظهر قدرة العالم على الجمع بين الحكمة والرَّحمة، بين الجديَّة والوقار، بين القول والعمل. وصفة العالم المبلِّغ أنَّه يزرع الإلهام في القلوب، ويوقظ العقول من غير أن يُتعبها، ويفتح دروب الهداية بيسرٍ تاركًا أثره في القلب أعمق ممَّا يرسخ في الذَّاكرة.
وقد انعكست هذه الحكمة التَّبليغية في سيرة الإمام الشيرازي انعكاسًا يجمع بين الفكر والممارسة. فقد كان كلُّ من يلتقيه يخرج بدافعٍ نحو العمل النَّافع؛ يدعو هذا إلى تأليف كتاب، ويحث ذاك على إنشاء مكتبة، ويشجِّع آخر على بناء مسجدٍ أو حسينيَّة، أو حتَّى على تزويج شابٍّ يحتاج إلى الاستقرار. وغايته كانت واضحة: بناء مجتمعٍ واعٍ وفاعل، يثمر من دون صخبٍ إعلامي، ويركِّز على الباقيات الصَّالحات التي تبقى أثرًا في الأرض.
"ولنعرض بعض صور التَّبليغ التي قد يزهد فيها بعض النَّاس:
1. كان تفكيره عالميًّا لا محدودًا بحدود بلدٍ أو لغةٍ واحدة. قبل أيَّام من وفاته دعا أحد أساتذة الجامعة إلى محاولة هداية اليهود عبر الإنترنت باللغة العبريَّة، وطلب من القارئ فتح صفحة بالعبريَّة للتَّوجيه، وما لبث أن وافاه الأجل.
2. قبل وفاته بنحو أسبوعين حدد ثلاثة أهدافٍ كبيرة: هداية الكفار إلى الإسلام، وهداية المسلمين إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وتجميع الشيعة فيما بينهم، ودعا غيره لمواصلة السَّعي إذا لم تسمح له الأيَّام بإتمامها.
3. من مشاريعه التي تعمل كأدوات تبليغيَّة كانت نوايا تأسيس قناة فضائية لتعريف العالم بالإسلام ومذهب أهل البيت (صلوات الله عليهم)، ومحاولة تأسيس حسينيَّة في فرنسا وأخرى في موسكو، والعمل على هداية مجموعات محليّة كبيرة مثل العلويين في تركيا..." (18).
وهذه الأمثلة تجسّد عقلًا تبليغيًّا متّزنًا يجمع بين وضوح الرُّؤية وحكمة الوسيلة، ويبتكر السُّبل للوصول إلى النَّاس في مواضع حضورهم جميعًا: في واقعهم الذي يعيشونه، وفي لغتهم التي يفهمونها، وفي قلوبهم التي تنصت قبل آذانهم.
يضاف إلى ذلك أنَّ موعظته العمليَّة كانت أعمق أثرًا من موعظته اللفظيَّة؛ إذ لم يكن يكتفي بالتَّوجيه؛ وإنَّما كان يعيش ما يقول، فتغدو أفعاله دروسًا ناطقة تُهذِّب القلوب وتغرس الإيمان في النُّفوس.
"فقد روي أنَّ أحد السَّادة دخل عليه يومًا في ديوانيته بالكويت، وكان متضايقًا من مشكلةٍ ألمَّت به، فأخذه السيِّد الشيرازي إلى مستشفى العظام دون أن يشرح له السَّبب. وهناك طاف معه على غرف المرضى الذين تنوَّعت مصائبهم بين كسورٍ وتشوهاتٍ ومعاناةٍ مؤلمة. ثمَّ خرجا، فقال له الزَّائر: من كنت تريد زيارته؟ فقال السيِّد: (كلا، لم أقصد أحدًا بعينه؛ وإنَّما جئت لأجلك، لأريك من هو أشدّ بلاءً منك، حتَّى تعرف قدر نعمة الله عليك ولا تتذمَّر). يقول الرَّجل: فعلًا، سُرِّي عنِّي، وحمدت الله على ما أنا فيه، وبقي الدَّرس حيًّا في قلبي إلى اليوم" (19).
هكذا يغدو العالم المتمكِّن من أساليب التَّبليغ كاتبًا ومؤثّرًا وموجِّهًا، يحرِّر العلم من أسواره الورقيَّة ليُطلقه في ميادين الحياة بوسائل معاصرة وإحساسٍ إنسانيٍّ مرهف، فيجعل من تبليغه رسالةً تحرِّك العقول وتوقظ القلوب وتُساهم في بناء الأمَّة.
العلامة السَّادسة: التَّجديد والتَّمحيص المستمر.
من أبرز سمات العالم الحقيقي أنَّه يتعامل مع المعرفة كأفقٍ رحب يتجدَّد مع كلِّ يوم، ينهل من نور التَّأمل وعمق النَّقد، فهي رحلة دائمة نحو الحقيقة تتطلَّب مراجعة مستمرة لما ترسَّخ في الذِّهن من مفاهيم. وإذا توقف عن هذه المراجعة، توقف نموه، وإذا اكتفى بما وصل إليه، خبت أنوار معرفته قبل أن يدرك.
وقد رسم الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الصفة بعمق حين قال: "مِن دَلائِلِ العالِمِ انتِقادُهُ لِحَديثِهِ، وعِلمُهُ بِحَقائِقِ فُنونِ النَّظَرِ" (20). فالعالم الحقيقي لا يكتفي بالكلام، يبدأ دائمًا بنقد نفسه قبل أن يوجِّه النَّقد للآخرين، ويمحص فكره قبل أن يطرحه على النَّاس. غايته الوصول إلى الحقِّ مهما كلَّف الأمر، مع تمييز دقيق بين الحقِّ الثَابت والزَّبد الذي يذهب جفاءً.
ومن هنا، يشكِّل النَّقد البنَّاء وطلب العلم المستمرّان ركيزتين أساسيتين للتجديد، إذ يسعى المخلص للحقيقة دائمًا إلى تنقيتها من الغبار الذي يلتصق بها عبر الزَّمن، وبذلك يكون قد صان الأصالة وأحيا جذورها الرَّاسخة.
وتتجلَّى هذه الصفة بأبهى صورها في سيرة الإمام الشيرازي (قدّس سره)، الذي عاش التَّجديد الواعي والنَّقد الإيجابي فكرًا وممارسة. كان عالمًا لا يقبل السُّكون، ولا يرضى أن تبقى المعرفة حبيسة رفوف المكتبات، وإنَّما أرادها أن تتحرَّك في حياة النَّاس، وتغيِّر الواقع نحو الأفضل.
"ويشهد له المسلمون في كافَّة الأقطار الإسلاميَّة بالفكر الجادّ والتتبُّع المتواصل ونشر الثَّقافة والإنتاج الغزير الذي يمتدّ على حقبة طويلة من تاريخنا الحديث، نفَّذ فيها هذا الكم الهائل والإنتاج الضَّخم الذي جاوز الألف كتاب إلى جميع المستويات الثقافيَّة. وترجمت بعض مؤلَّفاته إلى لغات أجنبيَّة، ممَّا تشهد له بطول الباع" (21).
"ولم يكتف الفقيد المقدَّس في كتابة الفقه بالتَّفصيل الذي لم يسبقه أحد فيه؛ بل كتب في ميادين جديدة لم تكن في عداد الفقه في نظر غيره من الفقهاء أو على الأقل لم يطرقوا باب البحث فيها، فكتب فقهًا في السياسة، وكتب فقهًا في الاقتصاد، وفقهًا في الاجتماع، وفقهًا في الحكم في الإسلام، كما كتب فقهًا في الحكومة الإسلاميَّة، وفقهًا في الدَّولة عمومًا، وفقهًا في المجتمع الدُّولي، وفقهًا في كلِّ ما يستلزم لتلك المباحث" (22).
ويتَّضح من خلال ما سبق...
أنَّ العالم الحقيقي في ميزان القرآن الكريم والعترة الطَّاهرة (عليهم السلام) ليس مَن يملأ المجالس بالكلمات، أو يتباهى بما يحوزه من المعرفة، وإنَّما هو من يجعل علمه وسيلة للعبادة والخشية من الله (تعالى)، وتزكية النَّفس، وخدمة المجتمع.
لقد جسَّد الإمام الشيرازي هذه المعايير على أتمِّ وجه، فجمع بين طلب العلم المستمر، والتَّواضع، والزُّهد، والأخلاق الحسنة، ومعرفة أساليب التَّبليغ، والنَّقد البنَّاء، مع قدرة استثنائيَّة على التَّجديد والتَّطوير.
ويُبرز تتبُّع سيرته أنَّ العلم المتجذّر في قلب متواضع ومُرتبط بأهل البيت (عليهم السلام) لا يقتصر أثره على الفرد، فهو يثمر معرفةً نافعة ويصبح قوةً فاعلة تؤثِّر إيجابيًا في حياة المجتمع.
وبناءً على ما تقدَّم، يمكن التَّأكيد على أنَّ دراسة شخصية الإمام الشيرازي (أعلى الله تعالى مقامه) وأساليبَه العلميَّة والتربويَّة تشكِّل مرجعًا مهمًّا لفهم خصائص العالم الحقِّ، وتحديد المؤشرات التي تفرِّق بين من يسعى لنقل المعرفة بصدق، وبين من يكتفي بالتَّظاهر أو التَّفاخر بها.