استشراف المستقبل واستكشاف المخاطر الوجودية

تحليل منهجي وسردي لمستقبل الكوارث والحلول

شبكة النبأ

2025-12-03 04:47

يتناول هذا المقال الأكاديمي الذي نشره مركز دراسة المخاطر الوجودية، نتائج تمرين استشراف تعاوني يهدف إلى استكشاف المسارات المستقبلية المحتملة لمجتمع علم المخاطر العالمية الناشئ. استخدمت الدراسة منهجية بارإيفو (ParEvo)، وهي عملية تطورية تشاركية عبر الإنترنت، حيث قام باحثون متخصصون في المخاطر الكارثية بإنشاء وتقييم تسعة سيناريوهات سردية متغيرة تمتد من عام 2022 حتى 2029. 

ركز تحليل هذه الروايات على ثلاثة محاور رئيسية: تحديد أنماط الصراع والتقارب داخل مجتمع المخاطر، وفاعلية وكلاء التغيير كالحكومات والأفراد، وطبيعة التأثير الذي قد يحققه هذا المجال. أبرزت النتائج الأهمية المركزية التي أولاها المشاركون للخلافات الداخلية والخلافات الأيديولوجية، مثل الجدال حول "النزعة طويلة الأمد"، والتي كانت في الغالب أكثر هيمنة في السرد من الكوارث العالمية الخارجية نفسها. يختتم الباحثون بتقديم دروس مستخلصة حاسمة لتحسين أدوات الاستشراف السردي التشاركي وتقديم توجيهات لمجتمع المخاطر العالمية لمساعدته على التخطيط لنجاحه المحتمل أو فشله، وإدارة حالة اليقين العميق التي يواجهها.

مقدمة: علم المخاطر العالمية في مفترق طرق

في السنوات الأخيرة، برز مجتمع متخصص ومتنامٍ يهدف إلى فهم وتخفيف مخاطر الكوارث العالمية، وهو ما يُعرف بـ "علم المخاطر العالمية". يُقصد بهذا العلم النهج المنهجي الناشئ لتحديد وإدارة وتخفيف مخاطر انقراض البشرية أو الانهيار المجتمعي العالمي. وعلى الرغم من أن هذا المجال يُشار إليه أحياناً بمصطلحات مثل "المخاطر الوجودية" أو "المخاطر الكارثية العالمية"، إلا أن الهدف يظل واحداً: حماية المستقبل البشري من التهديدات القصوى.

إن دراسة وتخفيف هذه المخاطر تعد أمراً حيوياً لأسباب متعددة، حيث جادل الفلاسفة بأن لدينا واجبات قوية لتخفيفها بناءً على أسس نفعية أو أخلاقية أو تعاقدية اجتماعية. ويبدو بشكل متزايد أن هذه المخاطر تؤثر بشكل كبير على حياة العديد من الناس، فضلاً عن تهديد الأهداف طويلة المدى للمؤسسات والحكومات والجمعيات الخيرية والمستثمرين. ومع ذلك، يواجه البشر تحيزات معرفية تدفعهم إلى التقليل من شأن هذه المخاطر أو تجاهلها، مما يستدعي العمل الجاد لمنحها الاهتمام الذي تستحقه.

يواجه هذا المجتمع العلمي مستقبلاً غير مؤكد، مع تحديات رئيسية تنبثق من تنوع وجهات النظر ونظريات التغيير داخله، بالإضافة إلى التردد المتزايد وشدة الأزمات العالمية. فالمجال يشهد نمواً وتنويعاً كبيرين، لكنه يواجه تحديات صعبة وأسئلة لم تتم الإجابة عليها حول طبيعته وهدفه. ومن هنا، تأتي أهمية هذه الدراسة التي تستخدم أسلوب الاستشراف السردي التشاركي لاستكشاف العقود المستقبلية المحتملة لهذا المجال، مع التركيز على الفترة الزمنية القريبة (حتى عام 2029) وكيف يمكن لمجتمع المخاطر العالمية الاستجابة لها.

المنهجية: عملية "ParEvo" كأداة لاستكشاف المستقبل

اعتمدت الدراسة على عملية "ParEvo"، وهي طريقة عبر الإنترنت لاستكشاف العقود المستقبلية البديلة باستخدام عملية تطورية تشاركية. تم تطوير هذه الطريقة من قبل استشاري تقييم لجمع رؤى من الاستشراف وتقييم البرامج. تعتمد المنهجية على منصة عبر الإنترنت حيث يقوم عدة أشخاص بإنتاج وتقييم مجموعة من الروايات المتفرعة حول ما يمكن أن يحدث، حيث تأخذ العملية شكل سلسلة من الجولات (تُعرف بالتكرارات)، يساهم فيها المشاركون بإضافات متتالية لمجموعة من الروايات التي تُبنى على "نص بذر" واحد، وهو ما يعادل الفقرة الأولى من رواية.

تختلف "ParEvo" عن العديد من منصات استشراف المستقبل الأخرى في عدة جوانب جوهرية:

1. الأساس النظري: استند تصميمها إلى نظرية توليدية، وهي التجسيد الاجتماعي للخوارزمية التطورية، مما يعني أنها تعتمد على التكرار والتنويع والاختيار.

2. التشعب والرضا: إنها عملية متشعبة ومرضية، تنتج مجموعة متنوعة من الروايات المستقبلية ذات الجودات المختلفة، بدلاً من أن تكون عملية تقاربية تهدف إلى تضييق الاحتمالات إلى ما يُحكم عليه بأنه "الأكثر احتمالية".

3. التنوع: تستكشف تنوعاً أكبر من البدائل الممكنة مقارنة بتقنيات المستقبل التقليدية التي غالباً ما تُمثل في مصفوفة 2×2.

4. السرد التطوري: بدلاً من تقديم لقطات لحالة مستقبلية محتملة، تولد ParEvo سرداً تنموياً ممتداً يصف تسلسلاً معقداً من التغييرات بمرور الوقت من الحاضر إلى المستقبل.

5. التوجه الإثنوغرافي: تأخذ تصورات المشاركين وتفضيلاتهم حول العقود المستقبلية البديلة كمادة أولية للموارد، حيث يسبق بناء الروايات من قبل المشاركين التحليل التفصيلي ويُعلمه.

في هذه الدراسة، طُلب من المشاركين الكتابة كما لو كانوا يبنون فيلماً وثائقياً مستقبلياً ينظر إلى الوراء على أحداث حقيقية، بدلاً من استخدام نوع الخيال العلمي البحت. وقد تضمنت العملية ثمانية تكرارات تمثل الفترة من 2022 إلى 2029، مما أدى إلى هيكل متفرع من الروايات.

المشاركون: تنوع في الخبرات والخلفيات

استضاف مركز دراسة المخاطر الوجودية (CSER) التمرين، وشارك فيه أربعة باحثين من برنامج علم المخاطر العالمية كميسرين أو مشاركين، وانضم إليهم باحثان من مشاريع أخرى داخل المركز وتسعة مشاركين آخرين. تم اختيار المشاركين بناءً على تعاونات سابقة أو مستقبلية، مع الحرص على جعل المجموعة متنوعة من حيث الجنس، والمرحلة المهنية، والتخصص.

شملت خلفيات المشاركين تخصصات متنوعة للغاية، منها:

* طالب دراسات عليا في علم الآثار يعمل على الانهيار المجتمعي والمرونة.

* عالم نفس يعمل على التواصل بشأن المخاطر والأدلة.

* عالم براكين يعمل على تأثيرات الانفجارات ذات الحجم الكبير.

* عالم مناخ يدرس التغير المناخي الكارثي.

* مدير اتصالات في منظمة مناصرة للمخاطر العالمية.

* أخصائي استشراف في القطاع الإنساني.

* مطور تكنولوجيا ووسائل تواصل اجتماعي مستقل.

* باحث في المخاطر العالمية يعمل على تغير المناخ والانهيار المجتمعي.

* أستاذ قانون يعمل على القانون النووي وعدالة الكوارث.

على الرغم من أن المشاركين التقوا وجهاً لوجه يومياً كجزء من فترة زائرين مكثفة، إلا أنهم تفاعلوا مع تطبيق ParEvo بشكل مستقل ومجهول عبر الإنترنت. وقد صُمم النص البذري ليستحضر مجموعة المشاركين أنفسهم، حيث قدم "مجموعة من الباحثين والمحاورين ووسطاء السياسات" ودعا المشاركين لتخيل ما حدث خلال السنوات الثماني التالية.

التحليل السردي: مسارات المستقبل المتشعبة (2022-2029)

أسفر التمرين عن تسع قصص نهائية استمر المشاركون في البناء عليها حتى التكرار الثامن (2029). انقسمت هذه القصص إلى مجموعتين رئيسيتين بناءً على المساهمة الأولية التي تفرعت منها في الجولة الأولى (المساهمة رقم 9 والمساهمة رقم 6).

المجموعة الأولى: الراديكالية والأزمات (متفرعة من المساهمة 9)

تميزت القصص في هذه المجموعة (73، 74، 75) بمواضيع الانقسام العميق والتدخلات الأمنية:

* القصة 75: شهد مجتمع المخاطر العالمية انقساماً عميقاً بين "الراديكاليين" الذين استخدموا العمل المباشر وتسريبات المعلومات، و"أنصار المدى الطويل" (Longtermists) الممولين جيداً والمرتبطين بصناعة التكنولوجيا. كان المحرك المهم للأحداث هو اختراق كلا المجموعتين من قبل الأجهزة الأمنية. وقعت العديد من الأحداث الكارثية، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية، وشذوذ مناخي متطرف، وتفاقم جائحة كوفيد-19، وركود عالمي ناتج عن انهيار العملات المشفرة. ومع ذلك، لم تتطور أي من هذه الأحداث إلى كارثة وجودية شاملة، وانتهت القصة بـ "عدم يقين عميق" حول آفاق البشرية.

* القصة 74: اتبعت نفس المسار حتى عامي 2028 و2029، حيث أدت أزمة العملات المشفرة العالمية وإنشاء حركة "احتلوا 2.0" إلى زيادة في النشاط الإرهابي والاغتيالات. في مواجهة هذا الواقع، بذل مجتمع المخاطر العالمية جهوداً للتوحد والتركيز على تقليل مستوى المخاطر الحالي، وإن كان بنجاح محدود.

* القصة 73: تفرعت في عام 2025، حيث تم سجن باحث في المخاطر العالمية بسبب تدخلات الأجهزة الأمنية، وافتُرض أن سلالة جديدة من كوفيد-19 قد تسربت من المختبر، وأطلقت روسيا سلاحاً نووياً تكتيكياً. سيطرت فكرة "مبادرة الاستجابة السريعة" على المجال، لكن هذه المبادرة فوجئت بتقنية جديدة تسمى (ExiSense) تجمع بين الذكاء الاصطناعي والأنظمة البيولوجية، مما أثار أسئلة صعبة للغاية جعلت الاستجابة السريعة غير ممكنة.

المجموعة الثانية: التوافق والذكاء الاصطناعي (متفرعة من المساهمة 6)

ركزت هذه القصص (69، 70، 71، 72، 76، 77) بشكل أكبر على بناء التوافق والسياسات:

* القصة 71: بدأت بعملية متعددة السنوات من النقاش وبناء التوافق حول العلاقة بين أيديولوجيات المدى الطويل ودراسة المخاطر العالمية. توحد المجتمع في النهاية تحت مفهوم "المدى الطويل الأقصر" (Shorter Longtermism)، مما ساعد في تحديد أولويات البحث. نشأت فرصة للتأثير على السياسة من علاقة صدفة بين باحث في المخاطر العالمية وموظف في البيت الأبيض.

* القصة 76: اتبعت نفس المسار، حيث أدت العلاقة مع البيت الأبيض إلى تأثير جديد للمجتمع، لكن نصيحتهم أضعفت التنافسية التكنولوجية للولايات المتحدة مقارنة بالصين، التي أصبحت اللاعب العالمي الرئيسي في الذكاء الاصطناعي.

* القصة 77: في هذا المستقبل، ساعد الاهتمام الأمريكي الجديد بالمخاطر العالمية الولايات المتحدة لتصبح الرائد العالمي في إنتاج ذكاء اصطناعي آمن ومسؤول.

* القصة 70: ظل التنافس حول الأهمية النسبية للذكاء الاصطناعي مقارنة بمحركات المخاطر الأخرى ساخناً، قبل أن تظهر تقنية ذكاء اصطناعي جديدة قدمت سبباً جديداً للقلق.

* القصة 69: تضمنت كشفاً بأن ذكاءً اصطناعياً تم تطويره لنمذجة وحل النزاعات حول المخاطر العالمية قد سرب نتائجه علناً، مجادلاً بأن البشرية غير مؤهلة بوضوح لحكم مستقبلها، ودعا لترك صنع القرار لأنظمة الذكاء الاصطناعي.

* القصة 72: انحرفت مبكراً في عام 2024، حيث فشلت جهود جسر الفجوات بسبب أحداث عالمية كارثية وخطابات انقسامية جديدة حول السكان وعلم تحسين النسل والعدمية. استجاب مجتمع المخاطر العالمية برسم مسارات جديدة، مثل الشراكة مع المنظمات الإنسانية والتركيز على التغيير المحلي الصغير النطاق.

التحليل الموضوعاتي: الصراع، التقارب، ومحركات المخاطر

أظهر التحليل النصي والتقييم الذي أجراه المشاركون أنماطاً واضحة في كيفية بناء هذه العقود المستقبلية.

1. الصراع والتقارب (Conflict and Rapprochement)

كان موضوع الصراع مهيمناً بشكل لافت. كشف التحليل الموضوعاتي أن 62% من جميع المساهمات ذكرت شكلاً من أشكال الصراع.

* 21% من المساهمات ذكرت "صراعاً داخل مجتمع المخاطر العالمية".

* 33% ذكرت "صراعاً بين مجتمع المخاطر العالمية والعالم الأوسع".

ومع ذلك، كان المشاركون حريصين أيضاً على استكشاف حلول لهذه الصراعات، حيث ذكرت 30% من المساهمات شكلاً من أشكال التقارب أو التقدم داخل المجتمع، و41% ذكرت ذلك بين المجتمع والعالم الأوسع.

المثير للاهتمام هو أن المساهمات التي تضمنت "الصراع" كانت أكثر جاذبية للمشاركين الآخرين للبناء عليها مقارنة بتلك التي ركزت على "التقارب". المساهمات التي ذكرت "التقارب/التقدم بين مجتمع المخاطر العالمية والعالم الأوسع" كانت أقل احتمالاً لتكون جزءاً من القصص النهائية التسعة. هذا يشير إلى أن الصراع وفر حافزاً أقوى للسرد القصصي.

أظهرت تصورات الشبكة (Network Visualizations) أن موضوعات الصراع داخل المجتمع وبين المجتمع والعالم الخارجي كانت مركزية ومتصلة بقوة بجميع الموضوعات الأخرى، في حين كانت محركات المخاطر الفعلية (مثل تغير المناخ، الذكاء الاصطناعي، الأسلحة النووية) أكثر هامشية. هذا يسلط الضوء على أن العلاقات داخل المجتمع وبين المجتمع والعالم كانت تُنظر إليها على أنها المحرك الأساسي للسرد، وأن الأحداث الخارجية غالباً ما كانت تُرى من خلال تأثيرها على هذه العلاقات.

2. عوامل التغيير (Agents of Change)

كانت الحكومات هي عامل التغيير الأكثر ذكراً (في 51% من المساهمات)، تليها المنظمات الأخرى/عامة الناس (40%)، ثم مجتمع المخاطر العالمية (38%). هذا يعكس من شعر المشاركون بأنهم شخصيات مناسبة لإدراجها في مساهماتهم. ومن اللافت للنظر أنه عندما سُئل المشاركون عن قوتهم الخاصة للتأثير على المستقبل، اعتقد ثمانية من أصل عشرة أنهم لن يكون لديهم تأثير كبير على الأحداث الموصوفة، وأنهم سيتأثرون بها أكثر مما يؤثرون فيها.

في بعض القصص (مثل 72، 73، 74، 75)، اتخذ مجتمع المخاطر العالمية دوراً قيادياً محدداً، بينما كان أكثر تفاعلاً (رد فعل) في قصص أخرى.

3. النتائج والتأثيرات (Outcomes and Impacts)

اختلفت تقييمات المشاركين لطبيعة التأثير الذي حققته هذه العوامل. لاحظ أحد المشاركين أنه في القصص (71، 74، 75، 76، 77)، بدا أن المجموعة الأصلية كان لها تأثير كبير على البشرية، بينما لم يكن الأمر كذلك في القصص الأخرى. رأى مشارك آخر العكس، حيث اعتبر أن القصص (69، 72، 73) كانت أكثر نجاحاً وواعدة. هذا الاختلاف يعكس تبايناً في القيم حول ما يشكل "تأثيراً إيجابياً": هل هو العمل البناء داخل المؤسسات العالمية القائمة (التغيير التدريجي)، أم العمل الراديكالي الذي يلعب خارج القواعد حتى لو عنى ذلك صراعاً أكبر؟.

ظاهرة الغياب اللافت: أين الكارثة الوجودية؟

واحدة من أهم النتائج التي لوحظت هي أنه في أي حالة، لم يقم المشاركون بالبناء على المساهمات التي احتوت على بدايات كارثة وجودية أو عالمية من خلال وصف الحدث نفسه. في استبيان التقييم، قال أربعة من أصل عشرة مشاركين إن هذا الفشل في استكشاف سيناريوهات "أسوأ الحالات" كان الشيء الأكثر إثارة للدهشة المفقود من القصص.

التفسيرات المحتملة لهذا الغياب تشمل:

1. التعليمات: طُلب من المشاركين الحفاظ على استجاباتهم "واقعية"، وقد فسر البعض ذلك على أنه يعني أن يكونوا "أقل تطرفاً".

2. الحاجز النفسي: قد يكون بعض المشاركين قد خشي من أن وصف مثل هذه الكوارث سيكون مزعجاً أو صعب التحقيق ضمن قيود الكلمات والوقت، أو حتى "واضحاً جداً" نظراً لطبيعة تخصصهم.

3. ذكر دون تصعيد: لاحظ مشاركان أن الميزة الأكثر إثارة للدهشة كانت ذكر حادثة أسلحة نووية دون مزيد من التصعيد، مما يشير إلى نوع من التجنب السردي للنهاية المأساوية الكاملة.

نقاش: حدود المنهجية وتحديات السرد

على الرغم من نجاح ParEvo في تطوير سيناريوهات متنوعة، إلا أن العملية واجهت بعض القيود. لاحظ الميسر (وهو الشخص المنسق الذي قاد العملية البحثية وأدار تمرين الاستشراف)، أن القصص أصبحت أكثر "روائية" (Novelistic) مع تطورها، حيث تم إدخال عناصر الاهتمام الإنساني، وتقلبات الحبكة، والأقواس السردية. في المقابل، نادراً ما تم وصف العناصر الأكثر واقعية، مثل السنوات التي لم يحدث فيها سوى القليل أو التقدم التدريجي البطيء، ولم يتم البناء عليها. قد يعود ذلك إلى رغبة المشاركين في جعل مساهماتهم "ممتعة" أو "مسلية"، أو توقع أن ذلك سيجعل مساهماتهم أكثر عرضة للبناء عليها من قبل الآخرين. هذا قد يعكس "مغالطة السرد": ميلنا لخلق قصص ذات تفسيرات السبب والنتيجة من أحداث عشوائية.

كما أن قرار التركيز على تقييم القصص المكتملة حد من تنوع العقود المستقبلية التي تم تقييمها، حيث أن جميع القصص النهائية التسعة نبعت من مساهمتين فقط من الجولتين الأولى والثانية.

الدروس المستفادة لمجتمع المخاطر العالمية

تقدم هذه الدراسة ومخرجاتها السردية دروساً استراتيجية عميقة لمجتمع الباحثين والممارسين في مجال المخاطر العالمية:

1. حتمية الصراع وإدارته:

تشير النتائج بقوة إلى أن المجتمع قد يحتاج إلى قبول أن الانقسام والصراع أمران لا مفر منهما، بدلاً من محاولة بناء "جبهة موحدة" تبدو جيدة من الخارج لكنها تبني الاستياء تحت السطح. هذا يثير أسئلة تكتيكية حول كيفية بناء الشبكات والتعاون الآن لتحقيق أهداف استراتيجية طويلة الأجل، مع العلم أن هذه التعاونات قد تتحول إلى مصادر للصراع لاحقاً. استخدام عمليات مثل ParEvo يساعد في تسليط الضوء على الطرق المختلفة التي يمكن أن تتكشف بها هذه الصراعات، مما يسمح للمجتمع باتخاذ إجراءات مبكرة.

2. التعامل مع عدم اليقين العميق (Deep Uncertainty):

كشفت القصص عن وجهات نظر متباينة حول ما يشكل مستقبلاً معقولاً أو مرغوباً فيه، خاصة فيما يتعلق بالحجج المؤيدة والمعارضة لـ "المدى الطويل" (Longtermism) كأيديولوجية. تشير الدوافع والأولويات المنسوبة لعوامل التغيير إلى أن المجال يعمل في منطقة عدم يقين عميق، وبالتالي يحتاج إلى استخدام أدوات صنع قرار قوية تأخذ في الاعتبار عدم اليقين المعرفي والمعياري.

3. الاستعداد للنجاح والفشل:

كان السؤال المتكرر للميسر أثناء قراءة القصص الناشئة هو: هل المجتمع مستعد لنجاحه أو فشله؟ هل يخطط الباحثون بناءً على فكرة أن سياق عملهم سيظل كما هو، أم أنهم يعرفون ماذا سيفعلون إذا وجدوا أنفسهم أمام فرصة لإحداث تغيير عالمي جذري أو مواجهة عواقب كارثة عالمية؟. الانطباع الذي أعطته العديد من القصص هو أن الإجابة هي "لا"، حيث شعر المشاركون أنهم شخصياً سيكونون أكثر عرضة للتأثر بالأحداث بدلاً من التأثير فيها.

4. الانفتاح على العالم الخارجي:

أظهرت النتائج أن العلاقات داخل مجتمع المخاطر العالمية كانت مركزية في المساهمات، بينما كانت الأحداث في العالم الخارجي أكثر هامشية. هذا يشير إلى أن المجتمع قد يخاطر بأن يصبح منغلقاً ومركزاً داخلياً. لتخفيف هذا، من المهم أن يطور المجال تعددية أكبر داخله، وأن يصبح أفضل في التعامل مع والتواصل مع مجموعة أوسع من أصحاب المصلحة وإضافة قيمة لهم.

5. الضعف الشخصي والمؤسسي:

أظهرت القصص تفاعلات محتملة بين البحث في المخاطر العالمية والمخاطر نفسها، واتجاهات أخرى مثل المراقبة، وسلطات الطوارئ، وحركات الاحتجاج. من المهم أن يدرك الباحثون ويستجيبوا لضعفهم الشخصي، وضعف عملهم، تجاه المخاطر التي يدرسونها؛ خاصة وأن نفس العوامل التي تزيد من الحاجة لهذا العمل قد تجعل من الصعب أو الأقل تأثيراً إنتاجه.

الخاتمة

هدفت هذه الدراسة إلى استكشاف العقود المستقبلية المتباينة للنهج المنهجي الناشئ لتحديد وإدارة وتخفيف المخاطر العالمية. من خلال استخدام منهجية ParEvo، تمكنت مجموعة متنوعة من المشاركين من التفكير في مستقبل جهودهم التعاونية والقوى التي تشكلها. توفر القصص التي ظهرت، والمساهمات التي أشارت إلى مستقبل أكثر تبايناً، مجموعة بيانات مفيدة لفهم هذه الاحتمالات.

أبرزت الدراسة موضوعات رئيسية مثل أهمية الصراع والتقارب، وتحديد عوامل التغيير الرئيسية، وتطوير طرق لقياس النجاح وتقييم التأثير. كما قدمت دروساً حول تطبيق أدوات استشراف المستقبل السردية التشاركية، بما في ذلك فوائد تصميم الدراسة التعاوني والحاجة إلى توجيه واضح.

في الختام، تؤكد الدراسة على ضرورة أن يقبل مجتمع المخاطر العالمية حتمية الصراع، وأن يستعد للأحداث المستقبلية العشوائية أو المتطرفة، وأن يخطط لكل من النجاحات والإخفاقات المحتملة، وأن يبني تعاونات أوسع بدلاً من الانشغال بالاختلافات الداخلية. إن استشراف المستقبل ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل هو أداة ضرورية لتوجيه مسار علم يسعى لحماية مستقبل البشرية جمعاء.

ملاحظة ختامية: حينما يروي العلماء قصة المستقبل

في ختام هذه الرحلة الاستشرافية، نجد أن تجربة استخدام منهجية "ParEvo" لم تكن مجرد تمرين أكاديمي لتخيل الكوارث، بل كانت مرآة عكست واقع ومخاوف المجتمع العلمي الذي يسعى لحماية البشرية. لقد أظهرت القصص التي نسجها المشاركون أن التحدي الأكبر الذي يواجه "علم المخاطر العالمية" في السنوات القادمة قد لا يكون الكوارث الطبيعية أو التكنولوجية بحد ذاتها، بل العامل البشري المتمثل في الانقسامات والصراعات الداخلية.

لعل المفارقة الأبرز التي كشفتها الدراسة هي "غياب الكارثة"؛ فعلى الرغم من أن هؤلاء الخبراء يكرسون حياتهم لدراسة مخاطر انقراض البشرية، إلا أنهم عندما طُلب منهم تخيل المستقبل، تجنبوا كتابة سيناريوهات "نهاية العالم" الكاملة، وركزوا بدلاً من ذلك على التفاعلات السياسية والاجتماعية ومحاولات التوافق. هذا يشير إلى أن حتى الخبراء قد يجدون صعوبة نفسية أو عملية في مواجهة "أسوأ الاحتمالات" وجهاً لوجه في سردهم القصصي.

أظهرت النتائج درساً بالغ الأهمية: وهو أن الباحثين يشعرون بأنهم "متأثرون" بالأحداث العالمية أكثر من كونهم "مؤثرين" فيها. ففي معظم القصص، كانت الحكومات والأحداث الخارجية هي التي تقود الدفة، بينما كان العلماء يحاولون اللحاق بالركب. هذا الشعور بالضعف أمام الأحداث المتسارعة يوجه رسالة واضحة لمجتمع المخاطر العالمية: يجب الاستعداد ليس فقط للنجاح في منع الكوارث، بل أيضاً لاحتمالية الفشل، وللتعامل مع عالم تسوده الفوضى وعدم اليقين.

باختصار، تخبرنا هذه الدراسة أن الطريق نحو تأمين مستقبل البشرية لا يمر فقط عبر المختبرات والمعادلات الرياضية، بل يمر حتماً عبر إدارة الصراعات البشرية، وتقبل الاختلافات، وبناء مرونة حقيقية تسمح لنا بالتعامل مع المفاجآت —سواء كانت سارة أو كارثية— بدلاً من الاكتفاء بمراقبتها وهي تحدث.

* المصدر: The Centre for the Study of Existential Risk

مركز دراسة المخاطر الوجودية هو مركز أبحاث متعدد التخصصات ضمن معهد التكنولوجيا والإنسانية بجامعة كامبريدج مخصص لدراسة وتخفيف المخاطر الوجودية والكارثية العالمية.

ذات صلة

دور الفقيه الجامع للشرائط في تنظيم أموال الخمسالتوحش الأخلاقي واضمحلال السلام النفسيثرثرات السياسة تفسد الوعيالمخدّرات تستعبد الجسد وتميت الضميرتضليل السوشيل ميديا