الاقتداء بالعظماء
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2025-09-22 04:43
(على المؤمن الحقيقي أن يتفرّغ لعمل الخير وأن لا تخدعه الدنيا وزخرفها)
الإمام الشيرازي
العمل الصالح جملة لغوية واضحة في معانيها ومقاصدها، وغالبا ما تتردد على ألسنة الناس، لكن القيام بها، وتحويلها من المعنى إلى التطبيق تتطلب نفسا كبيرة وقلبا مؤمنا حقيقيا، يعمل لله تعالى، ويوظف عمره بالكامل للعمل الصالح، لكن الدنيا ومغرياتها قد تقف حاجزا مانعا أمام الإنسان الذي ينوي القيام بالأعمال الصالحة، فيبقى يردد هذه الجملة ولا يعمل بها.
في هذه الحالة مطلوب من الإنسان أن يقتدي بالعظماء، أولئك الذين جعلوا من أيامهم وسنوات أعمارهم كلّها لعمل الخير والصلاح، وهؤلاء لم يأتوا إلى الدنيا محملين بهذه المقدرة العالية على العمل الصالح، وإنما بحثوا عن النموذج الصالح كي يقتدوا به، ويصيروا مثله، بعد الجدية والبحث في مسيرة حياته والتشبّه به وبأعماله وشخصيته، ومن ثم أصبح هؤلاء أنفسهم نماذج عظيمة يُقتدى بها، ويسير الناس في هدي خطاهم وأعمالهم.
لذا على كل إنسان يحمل رسالة صالحة في حياته أن يجد النموذج الصالح الذي يستلهم من تفاصيل سيرته إمكانية العمل لله تعالى، لاسيما أن الدنيا تغص بالمغريات والشهوات والملذات، ومن الصعب على الإنسان أن يصرف أيام وسنوات عمره كلها للعمل الصالح.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في إحدى محاضراته القيّمة:
(مطلوب من الإنسان الرسالي أن يقتدي بالعظماء، فعليه أن يستغل عمره وأن يصرف أوقاته في طاعة الله كما كان يقضي أولئك الكبار أيامهم ويصرفون أوقاتهم في التعب والجد والاجتهاد).
ومن القضايا المؤشَّرة عند الإنسان، أنه يحصر قيمته بالجوانب والمقاييس المادية فقط، وهذا الأمر يقلل من قيمته ويساوي بينه وبين البهائم ومنها الأغنام، فهو يجترّ الطعام اجترارا، ويلوك الأكل من أجل أن يزيد وزنه، لأنه يظن كلما ازداد وزنه تزداد قيمته، وكأن قيمة الإنسان مرتبطة بزيادة العظام واللحم فقط، وهو لا شك تفكير خاطئ وغير سليم.
لأن قيمة الإنسان ترتبط بجوانب معنوية، وإيمانية وأخلاقية أكثر من المقاييس والمعايير المادية، فالتقوى مثلا قيمة إيمانية تمنح الإنسان درجة إيمانية عالية، وفي نفس الوقت تجعل قيمته كبيرة بين الناس، لأن التقوى تضفي عليه قيما أخرى تجعل منه شخصا نموذجيا، مثل الصدق والتعاون والتكافل ومن ثم العمل التام لله تعالى.
الإنسان بين القيمة المادية والمعنوية
ولكن بالمقابل هناك من يراقب جسده ويتابع وزنه ويفرح عندما تتضخم عضلاته، ويزداد وزنه، وحين يخسر وزنه لأي سبب كان يحزن ويكتئب، وكأن قيمة الإنسان مرتبطة بهذا الجانب المادي حصرا، بيد أن الأمر بخلاف ذلك، فزيادة الوزن أو نقصانه لا يقلل من قيمة الإنسان ولا يزيد منها.
ومع ذلك يوجد أشخاص يصابون بهوَس قياس الوزن، وتبعا لذلك يفرحون أو يحزنون مع أن الأمر لا علاقة له بذلك، لأن عمل الخير هو الذي يضاعف من قيمة الإنسان.
حيث يقول الإمام الشيرازي:
(يجب على الفرد أن يعي بأن قدرته وعظمته لا تكمن في مدى قوة جسمه ومقدار وزنه، وإلاّ أصبح الإنسان كالغنم، همها علفها، كما في بعض الناس حيث ترى واحدهم يفرح حينما يزيد خمس كغم على وزنه ويحزن حينما ينقص وزنه، وهناك البعض من يقوم بقياس وزنه بين فترة وأخرى)
إن هذا النوع من الناس كل ظنه أن قوة عظام جسده وكثرة اللحم وزيادة حجم العضلات، له علاقة مباشرة بتقييمه من قبل المجتمع، بينما الحقيقة أن الإكثار من مساعدة الآخرين، وإبداء الاحترام لهم، وتذليل مصاعب الحياة التي تواجههم، وزيادة نشاطه الخيري في المجتمع، وفي المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، هو الذي يحدد قيمة الإنسان.
وهذه الصفات مرتبطة بشكل مباشر باعتناء الإنسان بالجانب المعنوي وتنميته في شخصيته، وترك القيمة المادية كزيادة وزن الجسم أو قلتها، لأنها لا يمكن أن تكون معيارا صالحا لقياس قيمة الإنسان، فقيمة الإنسان ترتبط بمدى تمسكه بالفضيلة، وأيضا بصفة أو ملَكة التقوى التي يتمتع بها، فكلما كان متقيا أكثر، يكون أكثر قيمة بين الناس.
حيث يصفهم الإمام الشيرازي بالقول:
(هؤلاء يتصورون أن قيمة الإنسان تكمن في كمية اللحم والعظام التي يحتوي عليها جسمه، وأن الإنسان كلما كان وزنه أكثر وعضلاته أكبر كان أفضل من غيره.. بينما هذا التصور خاطئ جداً، فقدر وقيمة الإنسان تكمن في تقواه وفضيلته، وعلمه وجهاده، وحبه للخير، وخدمته للناس).
كل شيء واضح أمام الإنسان
من هنا يوجد تأكيد وتركيز على أهمية القيام بالأعمال الخيرية، والتمسك ببرامج عملية ذات نتائج صالحة تنعكس على الفرد نفسه، وعلى الدائرة المجتمعية القريبة منه، وعلى مجتمعه الأكبر، فمن طبيعة الناس أن يتأثروا بالصالحين، وبالأشخاص الذين يقدمون الأعمال الخيرية على غيرها، فالنموذج الصالح أكثر تأثيرا بالآخرين من غيره.
لذا لابد أن نحذر من خداع الدنيا، فهي دائما تنصب شراكها وشِباكها للإنسان، حتى تُسقِطه في العمل الشرير، كأن تزيّن له حالات الاختلاس والسرقة والكسب الحرام للمال، أو أن تدفع به نحو الشهوات المنحرفة التي تقع خارج الأحكام الشرعية والأعراف الاجتماعية، وتجعله مشغولا بهذا النوع من المحرمات، فينسى العمل الصالح، وتغيب عنه التقوى، ويغوص في مستنقع الرذيلة ويستمتع في هذه الأعمال المنحرفة.
ناسيا أو متناسيا بأن الدنيا لا همّ لها سوى خداع الإنسان بشهواته، ورغباته، فتأخذه نحو الأعمال الخارجة عن إطار الضوابط الشرعية والعرفية والأخلاقية، وهكذا يفقد فرصة أن يكون إنسانا ذا قيمة عظيمة، وهذا كله يحدث لأنه لم يقتدِ بالعظماء، ولم يتتبع سيرتهم وما جرى في حياتهم، وكيف قضوا أعمارهم وفي أي مجال أو عمل، ولو أنه كلَّف نفسه وبحث عن النموذج العظيم، لما تمكنت الدنيا أن تغريه ويسقط في خديعتها.
الإمام الشيرازي يقول:
(إذن على المؤمنين الحقيقيين أن يفرغوا أنفسهم لعمل الخير وأن لا تخدعهم الدنيا وزخرفها، فإن حب الدنيا وطلبها والسعي من أجل الحصول على مكاسب مادية فيها، كالحصول على سيارة أو قصر أو زوجة جميلة أو ما أشبه بذلك، يشكل حاجزاً بين الإنسان المؤمن وبين التفرغ للعمل في سبيل الله).
وهكذا مطلوب من كل الناس أن يعوا حقيقة واضحة، وهي أن ما مر من حالات أعلاه يقع تحت مسمّى (زينة الحياة الدنيا)، نعم يستطيع الإنسان أن يغوص من ملذات الدنيا وإغراءاتها الكثيرة، ويمكنه أن يضيّع عمره في هذا الطريق الخاطئ، لكن عليه أن يفكر بأن كل ما تقدمه له الدنيا من مفاتن وزينات زائل بزوالها، وسوف يأتيه اليوم الذي (ينفع فيه مال أو بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم).
حيث يؤكد الإمام الشيرازي قائلا:
(يجب على كل إنسان أن يفهم بأن هذه الأمور كلها تعتبر ضمن قضايا زينة الحياة الدنيا.. وهي لن تنفعنا: يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).
في الختام يبدو كل شيء واضح أمام الإنسان، إلا من يريد أن يغمض عينيه ويضحك على نفسه، فيتغاضى عن خداع الحياة ويغوص في ملذّاتها ومحرماتها، وهذا هو الإنسان الخاسر في الدنيا وفي الآخرة، لذلك طالما تكون على قيد الحياة، يجب أن تتجنب الخطيئة بكل أنواعها ومسمياتها، وهذا لن يتحقق، إلا عندما تبحث عن النموذج العظيم وتقتدي به، وتتعلم من سيرته وأعماله الصالحة، كيف تكون إنسانا صالحا في الدنيا فتكسب سعادة الآخرة.