عودة لبناء مجتمع القيم الرشيدة

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

شبكة النبأ

2024-05-06 06:45

(كل أمة مسؤولة عن نفسها، إليها يرجع ما عملته وما كسبته من برّ وخير، وعليها يعود ما اقترفته وما جنته من ظلم وشرّ) الإمام الشيرازي

لا يُقاس تقدم الأمم والشعوب وحتى الدول، بكثرة ناطحات السحاب التي تبنيها، ولا تُقاس على أساس كثرة الأسواق و (المولات) التي بدأت تنتشر في بغداد وبعض مدن العراق الأخرى، فهذه العلامات لا تعبر عن درجة تقدم المجتمع، بل على العكس من ذلك، يتحول المجتمع إلى النمط الاستهلاكي غير المنتٍج.

وجميع علماء الاقتصاد، وعلماء الفكر الإيجابي يؤكدون على بناء الإنسان من الداخل أولا، وبناء جوهر الإنسان وعدم التركيز على شكله، وهذا يعني أن أخلاق الإنسان والقيم الصالحة التي يؤمن بها تكون أولوية في قضية البناء، سواء تعلق ذلك بالإنسان، أم تعلّق بالعمران وكثرة البنايات وغيرها من العلامات المادية الكثيرة.

لذا نحن لا نخطئ ولا نبالغ إذا قلنا بأننا بحاجة إلى بناء الإنسان معنويا، ومن ثم تُبنى الأمة كلها بالطريقة الصحيحة، وفي هذه القضية نحتاج إلى العودة الحتمية للقيم الصالحة، فالمجتمع الذي يفتقر للقيم، لن يكون متقدما ولا صالحا، والقيم الجيدة هي التي تمنح الفرد والمجتمع كله القدرة على خوض معركة الحياة بنجاح.

ولهذا على الأمة التي تريد التميّز أن تسعى في هذا الاتجاه لأنها محكومة بأعمالها في قضية النجاح والفشل، فإن فعلت ما هو جيد نجحت ويصح العكس، وعلى الأمة أن تستفيد من تجارب الأمم الأخرى في التقدم أو التأخّر.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيِّم الموسوم بـ (السعي نحو بناء مجتمع إسلامي):

(كل أمة رهينة بأعمالها، ولا تُؤخذ أمة بأمة أخرى، نعم على كل أمة أن تعتبر من سائر الأمم وتستفيد من تجاربها.. لأن الأمم مرهونة بأعمالها في تقدمها أو تأخرها، فالمهم عمل كل أمة بنفسها، ولا يمكن ـ عادة ـ لأمة أن تتطور بأعمال الأمم الأخرى أو تتأخر بها).

في العصر الراهن، بل وفي الوقت الحالي هناك جموح مادي غير مسبوق على المستوى العالمي، وهنا تسابق بين الأمم والدول ليس على القيم الصالحة، ولا على الأخلاق، بل هذا السباق مادي صرف، حيث يتهافت الجميع على الأرباح وعلى تكديس الأموال وعلى الصناعات التي تجلب اكبر كمية من الأرصدة المالية، بعيدا عن القيم الصالحة.

القيم والاخلاف في التعاملات الإنسانية

هذا الواقع يقدم انطباعا واضحا عن طبيعة هذا العصر وطبائع البشر الذين يعيشون فيه، فالقيم والأخلاق والتعاملات الإنسانية أصبحت في خبر كان، وصار الهدف الأهم للناس (أفراد وجماعات ودول) كثرة الأموال والقوة الأعظم، ومع ذلك فإن السقوط سوف يكون مصير كل أمة تهتم بالبناء المادي والعمراني وتهمل البناء المعنوي والأخلاقي، لذا لابد أن يُبنى الأفراد معنويا كونهم اللبنة التي يتكون منها المجتمع الصالح والناجح.

لهذا يقول الإمام الشيرازي:

(إذا كان أفراد أمة يعيشون عيشة هادفة، ويسعون في بناء مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، تقدم أولئك الأفراد وتقدمت الأمة بهم، وهذا هو ما يدعو إليه الإسلام ويحثّ عليه، فالإسلام يريد للفرد وللأمة وللمجتمع أن يكون مسلماً صالحاً).

وهذا المنهج في تربية الافراد أخلاقيا هو ما ركز عليه الإسلام، وحين بدأت البعثة النبوية أول شيء بدأ به الرسول صلى الله عليه وآله، هو غرس القيم الصالحة في عقول ونفوس وسلوك أصحابه، وكيفية التعامل السليم المتبادل فيما بينهم.

كذلك لابد من معرفة خصوصيات الفرد، وكيف نجعل منه كيانا معنويا متماسكا، ونبعده أو نحميه من الانزلاق في الموجات المادية الجارفة، كل هذا يمكن تحقيقه في حال تم بناء الفرد وفق القيم الجيدة التي تنظم تفكيره وسلوكه وتجعله عاملا مهما في تطور وتقدم الأمة.

البناء التربوي السليم يقع على عاتق جهات معروفة يجب ان تتصدى للمهمة التربوية الصحيحة، ويتم وفق منهج مستدام وفق خطط مرسومة بعناية وتخصص ومعرفة لكي تكون مؤثرة وفاعلة تجعل من الفرد صالحا حتى يصلح المجتمع كله.  

هنا يقول الإمام الشيرازي:

(إذا عرفنا أن قوام المجتمع الإسلامي هو الفرد المسلم، علينا أن نعرف خصوصيات المسلم، وكيف يكون الإنسان مسلماً حقيقياً صالحاً، فيصلح المجتمع بصلاحه).

في عصرنا الراهن نحتاج الى التركيز على التربية الفردية، بدءا من الأسرة، صعودا إلى الجامعة، والمحافل الأخرى كالمنظمات الثقافية والسياسية، ومنظمات المجتمع المدني التي تهتم بالفكر والوعي والثقافة، هؤلاء جميعا تقع عليهم مهمة بناء الفرد المسلم تربويا وأخلاقيا، وتعميق صفاته المسالمة وغرس القيم الأصيلة في عقله. 

وتعميم السلوك القويم المسالم وجعله سلوكا اجتماعيا راسخا في تعاملات الناس المتبادلة، فالإنسان المسلم لابد ان يتحلى بصفات معروفة ومحددة، أهمها أن لا يتجاوز على الآخرين، وأن يتمسك بالقيم السليمة التي تجعل منه إنسانا مستقيما ومسالما.

بناء عقلية خالية من العنف

صفة السلم هنا تعني بناء عقلية لا تستخدم العنف في علاقات الإنسان مع الآخرين، بمعنى لا يجوز التجاوز لفظيا أو جسديا على الآخر، لأن المسلم يجب أن يتحصن باللين والرحمة في جميع تعاملاته، وهذا يعني بناء أمة مسالمة، لا تظلم أمة أخرى ولا تتسبب في أي نوع من الأذى للأفراد أو للأمم الأخرى.

ناهيك عن كيفية التعامل مع أبناء أمته أو قومه أو مجتمعه، فالمسلم الحقيقي لا يخون ولا يغدر ولا ينافق ولا يكذب، وهي قيم وسلوكيات لا يقبلها الإسلام مطلقا، ولا يجوز الظلم ولا الشتيمة، لأنها سلوكيات تدل على غياب القيم والاستقامة، والإسلام يمنع أي تصرفات لا تحترم قيمة الإنسان، بل تركز على العلاقات الإنسانية العادلة.

يؤكد الامام الشيرازي على: (إن المسلم معروف وموصوف في الآيات الكريمة وكلمات النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، والأئمة المعصومين عليهم السلام.. كما قال رسول الله: المسلم من سلُم المسلمون من لسانه ويده. وقال صلى الله عليه وآله وهو: أخو المسلم، لا يظلمه ولا يشتمه. و: المسلم مرآة لأخيه).

هذه هي صفات المسلم، وهو أمر حاسم في تقدم الأمة، لأننا لا يجب ان ننساق مع الموجة العالمية التي تسير قُدُما نحو الهاوية، ونقصد بذلك التسابق العالمي العجيب نحو التطور المادي الخالي من سياق القيم الذي أهمل منظومة القيم تماما، مما تسبب في تهديد حقيقي لمصير الإنسان ونهايته المحتومة.

وهناك تركيز كبير جدا على زرع القيم الصالحة في عقول الناس وقلوبهم، خصوصا في علاقاتهم المتبادلة، فالمسلم لا يخدع أخاه المسلم ولا يكذب عليه ولا يغتابه، هذه الصفات والكلمات والاخلاقيات كلها تدخل في اطار منظومة القيم التي يجب ان يتحلى بها الإنسان المسلم، مما يعني بالنتيجة بناء أمة قوية متماسكة ومتقدمة. 

ويقدم الإمام الشيرازي أحاديث شريفة أخرى تبين صفات الإنسان المسلم لغرض بناء المجتمع المتوازن المستقر فيورد الأحاديث التالية: قال أمير المؤمنين عليه السلام: (جانبوا الخيانة، فإنها مجانبة الإسلام). وقال الإمام الرضا عليه السلام: المسلم أخو المسلم: لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه).

بالنتيجة هل ستكون لنا عودة إلى جذورنا الأصيلة، تلك التي غرسها فينا الأنبياء والأولياء وأهل البيت (عليهم السلام)، أم نبقى ندور في دوامة الماديات التي يتصارع فيها الجميع، لاهثين نحو بناء كاذب مزيف خالٍ من القيم الأصيلة التي تدل وحدها على تقدم الأمم، وليس ناطحات السحاب ولا البنايات والأبراج وسواها، علينا بناء أنفسنا أخلاقيا قبل أن نبني (المولات) الكبيرة او العمارات العالية. 

ذات صلة

في ذكرى مولد عالم آل محمد: ثمرة من أرقى المواصفاتالكتل السياسية وبورصة انتخاب الرئيس الجديد لمجلس النوابحديث النفس والخاطر المحمودالاغفال التشريعي يخرق ضمانات الموظّفالسوسيولوجيا العربية وأزمة التنظير