في ذكرى الإمام الشيرازي المتسامي على الجراح
محمد علي جواد تقي
2024-04-09 05:33
في الصراع الأبدي بين جبهتي الحق والباطل تظهر طباع وخصال كليهما في ساحة المواجهة، فيظهر للعيان؛ الفضل، والشجاعة، والإيمان، والصبر، فيما يظهر بالمقابل؛ النفاق، والجبن، والغدر، وهذا نلاحظه في الحروب الساخنة عبر التاريخ، كما نلاحظه في الحروب الباردة في ميدان الفكر والثقافة، ولنا في رسول الله ومن بعده أمير المؤمنين والأئمة المعصومين، المثل الأعلى في طريقة التعامل مع المناوئين، ومن بعدهم؛ الأولياء الصالحون والعلماء الربانيون ومنهم؛ المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي الذي نعيش هذه الأيام ذكرى وفاته في الأيام الاولى لعيد الفطر المبارك.
الإمام الشيرازي كان ابناً لمرجع ديني كبير في كربلاء المقدسة، هو السيد ميرزا مهدي الشيرازي، توفي عام 1960، معروف لدى كبار علماء الحوزة العلمية في النجف الأشرف بالورع والتقوى والفضل، الى جانب منزلته العلمية، وايضاً ذكائه الاجتماعي، وأفق فكره الواسع، وغيرته الشديدة على الدين والمذهب، وقد ورث الابن الأكبر من والده كل صفات الأخلاق والشجاعة والذكاء الاجتماعي، فحمل من بعده راية الدفاع عن القيم والمبادئ، ونشر علوم أهل البيت، بل والسعي لتطبيق النظام الاسلامي كاملة في الحياة.
هذا الإرث الكبير من احترام وحب المرجعية الدينية العليا بشخص السيد محسن الحكيم في النجف الأشرف، واحترام وحب جماهير كربلاء المقدسة، ومناطق اخرى في العراق لم يتحول الى أداة لدفع كيد الحاسدين والمناوئين له، لاسيما وأنه انطلق منذ اليوم الأول لوفاة والده في ظروف سياسية واجتماعية غاية في التعقيد والحساسية، حيث كان الشعب العراقي يعيش مدّاً ماركسياً وإلحادياً عنيفاً ومسنوداً من مؤسسات الدولة آنذاك، فكان شعاره؛ العمل، والعمل المضاعف لا غير، وهذه الاستراتيجية هي التي جذبت له أصوات التأييد والتضامن، وليس العكس، كما يتوهم البعض، و اذا لم أجانب الحقيقة؛ فإن هذه الاستراتيجية تُعد من أبرز ملامح الشخصية القيادية، ومن أبرز معالم النجاح في مسيرة هذا العالم الرباني الذي أشك في معرفة حجم خسارتنا له حتى الآن.
مشاريع من أجل المشاريع!
طالما كان يُشفق على من يشيد به ويمدحه على كثرة مشاريعه الاجتماعية والثقافية طيلة سنوات حياته، وكان يبتسم لمن يتحدث عن هذا، ويقول قولته المشهورة: "أبادر لإقامة هذه المشاريع حتى يتحفّز الآخرون لإقامة مشايع مماثلة".
مثلاً؛ ابتكار فكرة الزواج الجماعي، او تشييد الحسينيات والهيئات في بلاد مختلفة من العالم، او نشر الكراسات الصغيرة بمضامين ثقافية مركزة وأسلوب شيّق، وغيرها كثير، لم تكن لتشكل عناوين دالة على شخصيته كمرجع دين، فهذه الانجازات لم تكن –مثلاً- صورة شخصية له، او كلمة تذكّر الناس به، بأنه صاحب الفضل، فكانت تنتشر وتنجح، بل وتتكرر على يد جماعات ومؤسسات أخرى، لاسيما الزواج الجماعي، لفوائده الملموسة على ارض الواقع، وهذا تحديداً ما كان يطمح اليه الامام الشيرازي، بأن تنتشر الفضيلة والوعي وكل عوامل التقدم في الأمة، ولعله يكون –من حيث لايريد- مصداقاً للمقولة المأثورة: "ما كان لله ينمو".
العمل في مواجهة السبّ!
وهذه من روائع الامام الراحل، ومن الاستراتيجيات الناجحة في مسيرته العملية طوال خمسين عاماً من الجهاد والعمل، فقد برع في التسامي على الجراح بشكل مذهل، لأن ليس من السهل تعرض شخصٌ ذو وجاهة علمية واجتماعية، وينتمي لأسرة معروفة، الى كمٍ هائل السبّ والشتم والقدح والتشكيك بعلميته ومصداقيته، ثم يتغلّب على الآثار النفسية لتلك الضربات.
من يتعرض لمثل هكذا مواقف يكون أمام طريقين –على الأغلب-: إما اختيار الانسحاب من الساحة والاختفاء عن الانظار مؤثراً الحفاظ على سمعته وتاريخه بين جدار بيته، وإما الاستمرار بالتواجد بالساحة مع ارتداء مسوح المظلومية والاستضعاف علّها تكون وسيلة للاستقواء وإعادة الكرّة لتحقيق شيء ما، بيد أن التجارب تشير الى خطل هذا الخيار و انتاجه المزيد من الفشل لصاحبه لأن التفكير الدائم بالاستضعاف بحد ذاته يستنزف طاقة و زمن من عمر الانسان، فيكون كمن يدور حول دوامة مفرغة بظنه يتحرك ليواجه به الطرف المقابل، وهذا ما تنبه اليه الامام الشيرازي في بواكير عمله الرسالي، فقد التزم خيار العمل والانتاج دون الالتفات الى أي استفزاز مهما كان، وكان –طاب ثراه- يقول في مضمون رده على المقربين منه: "حتى كتابة رد في ورقة صغيرة على منشور ضدي يكلفني وقتاً وطاقة أرى من الأجدر توظيفها للتأليف والبحث وقضاء حوائج المؤمنين".
وربما كان سماحته يريد إرسال رسالة غير مباشرة للحاسدين والمناوئين بأنهم استفزازاتهم تزيد في العزيمة قوة، وفي الإرادة صلابة كما لو أنهم يضربون بقبضاتهم في الهواء عبثاً –والحال هكذا- فالتشكيك لم ينتج سوى ابتكارات بارعة اساليب العمل الرسالي لنشر الوعي والثقافة في المجتمع، والتضييق لم يسفر سوى المزيد من الانتشار حول العالم في قاراته الخمس، هي بحد ذاتها مفارقة تستوقف الباحثين في مسيرة التيارات والحركات الاسلامية منذ اكثر من قرن من الزمن، وفي علم النفس ايضاً.
وأجدني ملزماً بالإشارة –اجتهاداً منّي- الى مصدر إلهام سماحة الامام الراحل في هذه الاستراتيجية وطريقة التفكير البارعة المستقاة من سيرة حياة المعصومين، عليهم السلام، وكيف كانوا يتصرفون مع محيطهم الاجتماعي وهم يؤدون دورهم الرسالي، كلٌ حسب ظروفه الاجتماعية والسياسية، وقد التفت باحثون مؤخراً الى سر صمود التشيع، كياناً اجتماعياً، وعقيدة، وفكراً، رغم ما تعرض له من ضربات قاسية طيلة القرون الماضية على يد الحاكمين، وايضاً على يد قوى منافسة في الساحة، فاذا تتوقف الاعدامات الجماعية، والتعذيب في السجون الحكومية، والمطاردة حول العالم، فان ثمة جماعات متلبسة رداء الدين، تنهض بالمهمة بسلاح التكفير والتفجير والحرب النفسية، بأنهم لم يلتفتوا الى رداءة الاساليب العدوانية، ولم يتدنّوا مطلقاً الى مستوى المناوئين لهم، إنما ركزوا جهدهم على العمل وفق منظومة القيم لديهم، وما يحتفظون به من إرث حضاري عظيم خلفه رسول الله والمعصومين من بعده.
من السهل ان يكون الانسان ضعيفاً منزوياً ينطوي على ردود الفعل إزاء الاستفزازات والهجمات بمختلف اشكالها، لكن من الصعب ان يكون قوياً في شخصيته وخطابه وفكره، ولا يعني أن الأمر مستحيل، بقدر ما يحتاج الى الصبر والشجاعة ونكران الذات من اجل المصلحة العامة الاهداف الكبيرة، كما فعل الامام الشيرازي، فقد عاش كريماً ومات سعيداً مخلفاً أثراً طيباً، ليس في قلوب محبيه وأتباعه، بل وعند المناوئين ممن كتبوا، ونشروا، و روجوا ضده طيلة عقود من الزمن، ثم ترحموا عليه في مجالس الترحيم بشكل لا يُصدق، وأكثر من هذا تحولوا الى شهادة تصديق الامام الشيرازي في منهجه وفكره في المجتمع الشيعي والاسلامي بشكل عام.